السندباد الشخصية –الرمز– في الشعر العربي المعاصر

السندباد الشخصية –الرمز– في الشعر العربي المعاصر

من خلال خمسة نماذج

ذ. حسن الرموتي – المغرب

[email protected]

العلاقة بين الأدب - الشعر- و التراث علاقة قديمة ، لذلك كان التراث مصدرا مهما وثريا للعديد من الشعراء المبدعين ، الذين و جدوا فيه منبعا للرؤية الشعرية ، هذه الرؤية هي وسيلتهم للتعبير، تعكس في جوهرها هموم الإنسان ، الواقع الذي يعيشه الماضي الذي يسكن بداخله ، الحاضر بكل إخفاقاته و طموحاته ، و المستقبل الذي يحاول بناءه عن طريق الحلم – الشعر- لذلك كانت العودة إلى التاريخ ، إلى أحداثه ، و شخصياته في كل أبعادها الدينية و التاريخية و الأسطورية ... ثم كان استحضار هذه الرموز ليخلق لها المبدع واقعا في تجربته الشعرية المعاصرة . بمعنى أن محاولة استحضار هذه الرموز- الشخصيات خصوصا - ليس من منظور توثيقي – تاريخي مباشر، لكن من زاوية ابداعية و ذلك من خلال إحياء هذه الشخصية ضمن السياق الشعري للقصيدة ، و إعطائها أبعادا متعددة ، أي لا نوظف الرمز لخدمة القصيدة ، و إنما توظف القصيدة لخدمة الرمز 1 من هذا المنطلق فإن توظيف هذه الرموز في النص الشعري العربي المعاصر ليس بالأمر السهل، إن ذلك يحتاج إلى قوة إبداعية و فنية ، حتى نستطيع أن ننقل هذه الشخصيات من طابعها التاريخي الفردي إلى المستوى الإنساني العام ، لذلك لم يكن توظيف الشعراء العرب لهذه الرموز موفقا دائما .

ونحن حين نستقرأ المتن الشعر العربي المعاصر ، نكتشف هذا الكم الهائل من الشخصيات التي تم توظيفها ، و هي شخصيات تنتمي إلى ثقافات متعددة ، و مراحل تاريخية مختلفة ، منها ما هو أسطوري ، و منها ما هو تاريخي أو ديني ، و منها ما هو معاصر ، لكن ما يجمع بينها هو بعدها الإنساني ، التضحيات التي قدمتها في سبيل إسعاد البشرية ، بغض النظر عن حقيقة وجودها . و لعل من ابرز هذه الرموز على سبيل المثال لا الحصر نذكر: برومثيوس الذي سرق النار من الآلهة للبشر ، أوديب قاتل الوحش على أبواب طيبة ، سيزيف الحامل لصخرة العذاب ،جنكيزخان السفاح امرؤ القيس الملك الضليل ، المعري الشاعر الحبيس ، السند باد العاشق للسفر ، غارسيا لوركا الاسباني الذي أعدمه فرانكو ، جميلة بوحيرد الجزائرية التي قاومت الفرنسيين ، عبد الكريم الخطابي قائد ثورة الريف ، هوشي منه الثائر الفيتنامي.... أيوب النبي الصابر ، طارق بن زياد الفاتح ، صلاح الدين الأيوبي ... هذه نماذج من الشخصيات الرموز التي استلهمها الشعراء العرب المعاصرون للتعبير عن قضاياهم انطلاقا من رؤية كونية .

و لعل من أبرز هذه الرموز – السند باد - الذي استهوى العديد من الشعراء ، هذه الشخصية التراثية التي جابت الآفاق بحثا عن الثراء و المغامرة ، ستأخذ عند الشاعر المعاصر أبعادا أخرى ، دلالات معاصرة . ولعل من أبرز هؤلاء : بدر شاكر السياب العراقي خليل حاوي اللبناني ، محمد الفايز الكويتي و محمد علي الرباوي المغربي ، و سنحاول أن نبرز كيف استلهم كل منهم شخصية السندباد. فخليل حاوي في قصيدته « السند باد في رحلته الثامنة » هي سفر في كينونة الذات ، و غوص في النفس الإنسانية بكل آلامها . الرحلة الثامنة هي في عمقها اغتراب الذات الشاعرة عند حاوي ، فقد أضاع كل شيء ، فقد قدم خليل حاوي لقصيدته هاته في ديوانه الثاني « الناي و الريح » بقوله : « ... والقصيدة رصيد لما عاناه عبر الزمن ، في نهوضه من دهاليز ذاته ، إلى أن عاين الانبعاث ، وتم له اليقين .. » 2

إن معاناة حاوي هي صراع بين الموت و الانبعاث ، بين الموت و االحياة . فدار الشاعر هي رمز لذاته . يقول حاوي :

داري التي ابحرت غربت معي

و كنت خير دار

أود لو أفرغت داري ، عّله

إن مّر تغويه ، و تدعيه

 الشاعر يريد أن يتخلص من كل شيء، لينتظر الذي يأتي و لا يأتي.

 عشت على انتظار

 لعله إن مّر أغويه،

 فما مّر .3

 أما بدر شاكر السياب ، فعلاقته بالسندباد تصل إلى حد الذوبان ، يصعب فيها الفصل بين الذاتين ، الحقيقية و التراثية . فإذا كان السندباد دائم السفر تاركا زوجته ، ليعود بعد ذلك مهما طال السفر، محملا بالهدايا و المال ، فإن السياب كان كثير التنقل بين العواصم بحثا وأملا في الشفاء و العودة إلى جيكور حيث زوجته إقبال تنتظر. يقول في قصيدته رحل النهار :

 رحل النهار

 ها انه انطفأت ذبالته على أفق توهج دون نار

 و جلست تنتظرين عودة السندباد من السفار

 ..................................................

 هو لن يعود

 فلترحلي، هو لن يعود 4

ذلك هو الإحساس عند السياب ، فقدان الأمل في العودة ، و رؤيته لسماء قريته من جديد هذه المأساة تتجسد في هذا الصراع بين الأمل و الألم ، هذا الأمل الذي سيضيع عندما يموت الشاعر بعيدا و قد احتضنته إحدى مستشفيات الكويت . وهو نفس الصراع الذي عاشه خليل حاوي بين الموت و الانبعاث ، لينتهي تلك النهاية التراجيدية منتحرا ، وهو انتحار مقدس في بعده الرمزي ، تعبيرا عن رفضه للاجتياح الإسرائيلي للبنان .

أما الشاعر محمد الفايز الذي توفي سنة 1991 في ديوانه « مذكرات بحار » فهو يمزج بين تجربته و تجربة وطنه الكويت في علاقتهما بالبحر و أهواله من خلال البحث عن المحار واللؤلؤ في صراع مع البحر و الأسماك المفترسة، فطقوس ألف ليلة و ليلة وخصوصا رحلات السند باد حاضرة في ذهن الشاعر، لكنه حضور فني ، ليجعل أسفاره في البحر صراعا مع الغزاة و مع الفقر ، أي صراع مع الحياة ، لكن ها الصراع مشبوب بالأمل المؤجل ، ليست له بداية و لا نهاية ، أما الذات – الرمز- فينتهي بها المطاف ، بعد حياة طويلة مع الأمواج إلى السكون حين يهن العظم و يشتعل الرأس شيبا، وتكمن هذه المأساة عند الزوجة التي لازالت تحلم بالثراء . يقول محمد الفايز :

 و لسوف تغرقني هداياه الكثيرة

 العطر و الأحجار و الماءالمعطرو البخور

 و لقاؤه لما يعود كأنه بدر البدور

 و تظل تحلم و الحياة

 حلم يجول بلا بداية

 و بلا نهاية … 5

هكذا يرسم الشاعر صورة مأساوية تقوم على الحلم و الأمل ، هو أمل بعيد التحقق . بل يبدو مستحيلا . إنه صراع بين المعاناة و الحلم.

 أما الشاعر محمد علي الرباوي في ديوانه « الأعشاب البرية » الصادر سنة 1985 وفي قصيدته « ليلتان من ليالي السندباد » تتزاحم رموز أخرى لكن ما يجمعهما هو الرحلة ، رحلة تحقيق هدف معين ، استرجاع الملك الضائع ، الرحلة نحو الله ، ثم الرحلة من أجل الثراء لكن السندباد في القصيدة هو الأب المهاجر إلى فرنسا بحثا عن الرزق حيث الاغتراب و المعاناة و التي تزداد مرارة أثناء العبور، حين تحاصره أسئلة الجمارك :

 ما اسمك ؟؟

 من أي بلاد أنت ؟؟

 توقظك الدهشة

 تصحو.. 6

السند باد الذي أفنى عمره في الغربة، يصبح مطالبا بالرحيل ، العودة إلى الوطن الأم مكدودا، وفي عودته يصطدم بواقع آخر أشد مرارة، إنه الاغتراب النفسي داخل الوطني يقول الشاعر الرباوي :

 و كل بلاد الروم تقول : لك ارحل

 ترحل ؟؟

 كيف ؟؟

 و أنت شبابك مدفون فيها ..

 و نضارة وجهك مودعة

 في أوجه كل بنيها ،

 و دماك تشد حجار مبانيها ..7

الأب – السند باد – يعيش صراعا نفسيا ، اغترابا في المكان ، سواء أثناء هجرته أو خلال عودته إلى الوطن . فتصبح الغربة داخل الوطن أشد قساوة ، رغم إصراره على

الثبات في وطنه . لكن هذا لا يمنعه من الحلم ، الحلم بالفجر عندما تنقضي هاتين الليلتين من ليالي السندباد :

 عظيم و أنت تعد

 الزاد لغربتك الكبرى

 هل ُبشرت بأن الفجر على الأبواب . 8

 

أما الشاعر الأردني عبد الرحيم عمر في قصيدته -السندباد يواجه التحدي- يقول :

 يا غريب الدار

 لا ماء ولا زاد وهذي قسوة الصحراء

 تلقيك إلى رائعة الموت ظعينا من جديد

 ما الذي تصنعه اليوم ، وهذا العالم الواسع

 قد ضاق ، لم يبق سوى التيه نبض الموت 9

في هذا المقطع يجتمع الرحيل و التيه و الاغتراب و الموت و قساوة الصحراء ، و الضيق

لتشكل مأساة ، مأساة يعيشها السندباد ، بعيدا عن حلم تحقيق الثراء ،و لقاء الأهل و العودة

إلى الديار : ونبض الموت

 تلقاه بلا أهل ولا خيل بعيدا ..

إنها الخيبة و الإحباط و انكسار الذات في واقع يطحن الإنسان

من خلال هذه النماذج و لخمسة مبدعين ، في تناولهم لشخصية السندباد – الرمز – يتضح هذا الاختلاف في المنطلق ، لكن تمة تشابه في الإحساس ، هذا الإحساس تحكمه ثنائية تختلف من شاعر لآخر ظاهريا ، لكن في الأعماق تشترك في العديد من السمات . أليست ثنائية الموت و الانبعاث عند حاوي ، و ثنائية الألم و الأمل عند السياب ، و الذات و الوطن عند الفايز ثم الاغتراب و العودة عند الرباوي ، تم التحدي

والانهزام عند عبد الرحيم عمر إلا صورة واحة لمعاناة الشاعر العربي المعاصر من المحيط إلى الخليج ... اليوم من منّا ينكر أن السندباد لازال حاضرا بيننا ، يخاطبنا عبر القرون ، يسألننا عن علاقتنا بالعالم ... لقد كثر حفدة السندباد.. «. ليس في الأفق ما ينبئ بأن عهد السندباد قد انتهى .. كلنا اليوم في العالم العربي سندباد . » 10

 المراجع المعتمدة

 1- د مجمد عروي اقبال دلالات التجديد في الشعر عالم الفكر المجلد 17 العدد 4/ 1987 ص 125

2- د أحمد المعداوي ظاهرة الشعر الحديث شركة النشر و التوزيع المدارس البيضاء

 ط 2/ 2007 ص 130

3- د أحمد المعداوي المرجع السابق ص 147

4- ديوان بدر شاكر السياب المجلد الاول دار العودة بيروت لبنان 1989 ص 229

5- د فايز الداية : محمد الفايز و خليل حاوي الإبحار في سفن الخيال ... مجلة العربي العدد 561 غشت 2005 ص 60

6- محمد علي الرباوي ديوان الاعشاب البرية المطبعة المركزية وجدة ط1/ 1985 ص 36

7- محمد علي الرباوي المرجع السابق ص 32/33

8- محمد علي الرباوي نفسه ص 40

9 عبد الرحيم عمر مجاة ابداع العدد1 السنة 1 اير 1983 ص40/41

10 عبد الفتاح كليطو نحن و السندباد دراسات عربية العدد 12 السنة السابعة عشر / اكتوبر/ 1981/ ص 91

سيرة ذاتية

 ذ حسن الرموتي من مواليد مدينة الصويرة 1961 باكالوريا في الأدب العصري بميزة 1983 .

 دراسة جامعية بكلية الآداب و العلوم الإنسانية - جامعة القاضي عياض مراكش حتى 1987 -

 خريج المركز التربوي الجهوي بآسفي 1988 ببحث حول أدب الأطفال بالمغرب - العربي بن جلون نموذجا-

 ممارس للتدريس الثانوي بثانوية تالمست التأهيلية بإقليم الصويرة

 مهتم بالنقد الأدبي .

دراسات منشورة في مواقع الكترونية منها.

- القدس في الشعر المغربي المعاصر – المجاطي نموذجا-

- دلالة الموت في جدارية محمود درويش

- السندباد الرمز من خلال خمسة نماذج

- عتبة الإهداء في الديوان الشعري المغربي المعاصر

- العنوان في الشعر المغربي الحديث

- تراجيدية الجسد في المجموعة القصصية – أجساد و قبرة-

 لرشيد البوشاري

- مفهوم المدينة في شعر عبد المعطي حجازي - تحليل نص شعري -

 - نصوص شعرية - مدائن التيه - و - ذكرى مقبرة - .