النموذج الغائب

بقلم نعيم الغول

[email protected]

النموذج الغائب في قصة

" أشجار دائمة العري " ليوسف ضمرة

هناك إشكالية  تواجه الكاتب  عند التعبير  عن وضعية الكبت  و محاولة  الانسلال  منه إلى وضعية الحرية والتحرر. وتتمحور  هذه الإشكالية  حول  السؤال  : أي الأشكال  التعبيرية أنسب لطرح هذه الموضوعة، وما هي القولبة  الأكثر ملاءمة  لها؟

كما تتضمن إشكالية  اختيار  الجلد الذي سيلبسه الكاتب  على هيكل هذا الشكل  وهذا القالب .

وعندما يجيب الكتـّاب العرب  عموما والأردنيون منهم - عمليا  على هذه الإشكالية  ينحو أغلبهم  منحى  اختيار العلاقة الجنسية  جلدا للهيكل  الذي اختاروه. ويحدث هذا غالبا في الرواية والقصة  القصيرة  حتى لقد بات الجنس  الأداة الأثيرة _ بل ربما الوحيدة _ التي يرون  فيها  جوهر التحرر  من الكبت بنوعيه السياسي والاجتماعي. خذ مثلا غالب هلسا في رواية" سلطانة ". يقول  الدكتور عبد الله إبراهيم في مقال نقدي نشره في العدد 135 من مجلة أفكار  في الصفحة 42 :" روايات غالب هلسا التي تصور  مجموعة من الشخصيات ذات الخلفيات  الشاذة اجتماعيا  و التي تعيش أزمات جنسية  وسياسية  بسبب انتماءاتها  الماركسية ." ولا يعني  ذلك بالضرورة  أنهم جميعا  يدعون إلى طرح النموذج الجنسي التحللي   وسيلة  للحرية  والتحرر وإن كان بعضهم  يقول ذلك  صراحة  ويدعو إليه  من خلال اختيار  العلاقة الجنسية ممثلا تعبيريا عن التهاب الذاتي  بأزمات  يفرضها  أتون  الموضوعي  . ولأنهم "يعانون  إحباطا داخليا  بسبب الاستعداء الخارجي للسلطة  عليهم من قبل المجتمع " ( المصدر نفسه ص 42 ) يكون ردهم  على هذا الاستعداء  المزيد من الشذوذ الجنسي والدعوة الى تعميم نموذجه لأن هذه الفئة  "تجد نفسها  في تعارض مع النسق  الفكري والاجتماعي  والسياسي  الذي تعيش فيه  فتحاول التمرد الضمني عليه  من خلال انتهاك  الأطر المكونة  لذلك النسق " ( المصدر نفسه ص 42 ).وهذا  الاتجاه  بات تقليديا اكثر من اللازم وممجوجا اكثر من اللازم  إلى جانب انه  أصبح  متوقعا ،و يعمل على خبو وهج  القالب التعبيري ، وينمّطه ، ويضيفه إلى ركام من الأعمال  التي  تفتقر  إلى النفس  الإبداعي  بمعنى التحليق العقلاني  وربما الروحاني  الكشفي الذي يستطيع ان ينقل المتلقي من حالة أدنى الى حالة أرقى في عملية تقدمية حقيقية  .

 ويعني ذلك أن المتلقي  صار يسعى  إلى  البحث  بين ما يلقى إليه  من نتاج( إبداعي ) إلى بدائل  تعبيرية  أخرى لا  تخلو  فقط مما تتقيؤه  الذات على صورة تعبير فني  عن الشبق الدفين  وخصوصا من جيل انتهت فترة  صلاحيته ، بل تؤكد على رؤية العقل  مثلا ووسيلة  خروج من جب الكبت ؛ إذ أن ما يتعرض له العقل  من وسائل  وأساليب اختراق  و سيطرة  وغسيل وتلاعب وتضليل للوعي   يفوق  بكثير  الكبت الجنسي  الذي تضخم عرضه لأسباب لا تخلو من تأثير للنمط الاستهلاكي على البنى الفوقية التي تبنّاها كتّاب هذا الاتجاه. ولكن لا بد من الاعتراف  هنا أن الكتّاب  الذين ينزعون  إلى اتخاذ  العلاقة الجنسية  أداة  تكشف  حجم  وعمق  الكبت ،وتبشر ( وتدعو ) إلى التحرر  منه يفعلون ذلك لكونه  أسهل تناولا واقرب إلى إطفاء النيران التي تستعر في ذواتهم  من الدخول  في متاهة  اتخاذ العقل  أداة الكشف المذكور، و التبشير بالانعتاق  عقليا  ،وبالتالي عمليا  من أسباب وأشكال  الكبت ؛ذلك انهم ببساطة  لا يمتلكون القدرة  على الإبداع فيما لا إبداع إلا فيه ، و ظلوا أطفالا لغوستاف فلوبير  يلعبون في الفناء الخلفي لمدام بوفاري.

 و قصة " أشجار دائمة العري " نموذج  لهذا الاتجاه .

جاءت هذه القصة ضمن مجموعة  قصصية  تحمل الاسم نفسه، وصدرت  بدعم من وزارة الثقافة  صمن سلسلة إبداع  الشهرية  رقم (5) . ومن البديهي  أن نحتفظ للقاص يوسف ضمرة بما له من حرفية  عالية  وامتلاك لأدوات  القصة القصيرة خصوصا وانه يبني  القصة كلمة كلمة  بصورة  أقرب إلى البناء الهندسي المتكامل ، وان كل كلمة موظفة بدقة مرعبة لتعطي كل ما تستطيع من دلالات .  

من وجهة نظري  ، ان قصة  أشجار دائمة العري  محاولة لمد الجسور  بين شخصية الإنسان (العربي) و بين ما يعتمل في داخلها  من رغبات داخلية دفينة  _ مكبوتة ربما بمفهوم كارل يونغ الجمعي  ترزح تحت مجموعة متعاضدة  ضخمة من مظاهر الكبت ، ثم هي بعد محاولة  للانطلاق  نحو التحرر والإنعتاق  من هذه المظاهر.

ينصب الحدث حول  الشخصية الواحدة التي تجتمع فيها وتتفرق شخصيات أخرى تحمل الاسم يوسف . يوسف هذا   المتقوقع   يناديه  شخص اسمه  يوسف  أيضا  يشبهه في كل شيء إلا في النظافة والترتيب بمعنى الاتساق مع الموضوعي . و يأخذه  يوسف الثاني    إلى مشوار ، ثم يستقلان سيارة أجرة  يقودها سائق يشبههما  أيضا  واسمه  يوسف كذلك  . ويذهب الجميع  الى خمارة  فيوضع لهم كل مستلزمات السكر  دون حتى استشارتهم   ، ويدفع يوسف الثاني( ويسمى ايضا ( الجينز ) و ( اليانكي )  يوسف الأول للشرب بإلحاح ويشرف على خدمتهم شخص   اسمه يوسف أيضا  لكن مع إضافة بسيطة  هي جواد  و التي يغيرها الراوي  إلى " قواد " (كدت أقول:  استبدل بالقاف جيم ( جوادك يوسف ) ص 32)  ويخرجوا  جميعا من البار  عائدين إلى البيت في السيارة  نفسها  ومعهم امرأتان  حيث يجد يوسف الراوي زوجته عارية تماما  على السرير.يتعرى الجميع ، وينضموا إليها  في السرير  فيما يشبه " ألا ورجي بارتي " Orgy  Party . ( كانت زوجتي عارية  تستلقي على السرير الخشبي وبياضها يلمع في الضوء. تعرينا جميعا . أنا  والسائق واليانكي و المرأتان . استلقينا كيفما اتفق . ارتفعت أصواتنا . زعق السرير كمجنون . زعق السرير ثم أنّ . أنّ السرير ثم أطلق حشرجة  وهمد) ( ص ص 32-33 أشجار دائمة العري ).

شخصيات القصة هي الراوي يوسف  ( الذي يقرب كنموذج من الأنا ( Ego ) عند فرويد  وهو شخص  منطوي و متقوقع ( عاتبني على تقوقعي في البيت )  يقاوم رغباته  ولا يجد متعة  في  معاقرة الخمر  و لا التلويح بقدراته الجنسية  أمام كل أنثى( اصطدت بهذا الاسم سبعين امراة ز حدقت في عينيه وهو يخاطبني: لست مثلك خائبا  لا تعرف الا زوجتك  ) ، لكنه يعاني  كأي إنسان ( عربي ) آخر  من مجموعة من أشكال القمع ( محتويات رأسه ذات الرائحة الكريهة : الخوف من امي من شرطي المرور من نظرة رجل حادة من زميل الدراسة والوظيفة من الله و المباحث  ص 33-35)  التي لا يجرؤ  على البوح بها . لكن مقاومته  تخف  مع كل خطوة  يخطوها  مع يوسف الثاني ( الذي يمثل الرغبات التي لا تعترف بمنطق ) و يوسف الثالث الذي يمثل وسيلة نقل الشخص برغباته المكبوتة  الى موقع تحقيق الرغبة. وتندفع إلى  وعيه هذه المجموعة من الكوابح ( القائمة الطويلة التي تشبه قوائم التسوق ) فيجد نفسه  و قد اقتيد (! )إلى بيته  ليكتشف انه تحرر من كل قيوده  فيتعرى مثل الجميع ويمارس  الجنس جماعيا  بشكل من  الأشكال المفرطة  من  الحرية  التي يسميها بعض المتزمتين  التهتك و التحلل من كل شيء  ويسميها الدكتور عبد الله إبراهيم " انتهاك الأطر المكونة للنسق ".

الشخصية الثانية هي  يوسف الثاني  أو ما اصبح اسمه " الجينز " ( والكلمة تشير  على أحد المستويات إلى اللباس الذي تتحرر به من اللباس الرسمي(  وهو قيد من نوع ما )  كما انه الصق بالجسد واكثر كشفا لتفاصيله الخارجية )  وسماه كذلك" اليانكي" ( الأمريكي  للبسه الجينز ولحمرة شعره  وتعبيرا عن القوة التي تفتقر الى العقل في حركتها ؟! ) ومن هنا فان يوسف الثاني  يمثل التحرر عن الأطر الشكلية والرسمية  ويسعى إلى كسر  كل ما هو ممنوع وتحدي  كل ما هو  عقلاني  ومنطقي وسببي ( أقرب الى الهذا ( ID   )  عند فرويد )،  ولكنه   لا يستطيع الانحدار  بالراوي  إلى شكل  آخر  من أشكال التحرر ( أو التحلل ) فتأتي الشخصية  الثالثة  يوسف السائق الذي يمثل  الفكرة الدائمة  الاستعداد للانتقال  إلى ذلك الشكل  من التحرر  و بذا  يقود الراوي  التي  تحركت معه الرغبة  وانطلقت من قيودها  إلى أول عتبات المحرم .

الشخصية الرابعة  هي يوسف النادل   الذي يرفض القبول  بأنه يوسف  بل يصر  على أن اسمه جواد  وهو يمثل  الانسياق  التام  في ما هو محرم،  وهو لا ينتظر تعليمات ،ولا أوامر   وهو يسهل الوصول الى كسر المحرم  ، فتجده يختار  لون الشراب  لكل شخص  ويضع الثلج في الأكواب ويسهل الحصول على  اثنتين من بائعات المتعة فيصحبنهم  في الحلقة الأخيرة من  مسلسل   التحرر من الكبت ولهذا استحق عن جدارة ان يقلب اسمه الى قواد ( ص 32). وإذا كان هناك من علاقة ما بين الشخصيات والتقسيمات الفرويدية للذات فلن نعجب لغياب الأنا الأعلى  ( Super  Ego )  من القصة لأن الغياب مقصود بل ومرغوب .

اختار الكاتب أسلوب  الحوار  وغلبه على السرد ـ  كما هو الحال في اكثر من قصة في مجموعته ـ مما مكنه من استنطاق الشخصية في أنماطها المختلفة . وأسلوب الحوار كما هو معلوم  الطريق الثاني  لتطوير  وتنمية الحدث وبنائه حيث  يتناسب مع   جدلية  طرح الإشكالية  من هذا النوع ، ويتناسب اكثر  مع إمكانية  تطوير  الحدث ليصل الى مداه . والقاص  في هذه القصة لم ينح  إلى أسلوب  المفاجأة او المغايرة  او كسر التوقع ( المفارقة ) لا لكونها سمة من سمات  طريقة السرد  بل لأن الفكرة ( المقدمة )التي يطرحها تتصاعد حتى تصل إلى نتيجتها وهي  الإنعتاق من كل المحرمات والقيود   لذا لن تكون المفارقة أصلا مطلوبة .

ورغم حضور  الواقع  من خلال  مظاهر الكبت ( القائمة ص 23-25 )وأدواته  إلا أن    القصة لا تتعامل  مع الواقع  من خلال  حدث واقعي  محدد الملامح بل من خلال القفز في  المساحات الداخلية للشخصية  ليلمس   شكل التجليات  الآنية  لكل مكون  من مكوناتها  ،ومن خلال أنسنة  وشخصنة  الدوافع  المختلفة لدى الراوي . ويحق لنا هنا أن نتساءل عن مدى الإسقاط لذات الكاتب على سلوك (الأقانيم الثلاثة) المتولدة عن شخصية الراوي ، وهل كان   اختيار الاسم "يوسف" مجرد صدفة ؟

إن النموذج المطروح  للتحرر هنا  لا يفي  بالغرض  و لا يوصلنا  الى أكثر  من إزالة التوتر آنيا ( يوصلنا الى همود السرير  بعد الزعيق والحشرجة ). إنه أشبه بحل خلاف زوجي  حول  مصروف البيت ، أو تربية الأولاد، أو ميراث الزوجة ، أو حصيلة  عملها .. الخ  بالعودة الى السرير. أما النموذج الصحيح _ في تقديري _ وهو النموذج العقلاني  فقد غاب تماما  عن أجواء  يوسف ضمرة كما غاب عن الأبناء الآخرين لغوستاف فلوبير . وأعتقد أن ما اقترفوه  كان تكريسا  للنظرة النمطية  السائدة عن الذات العربية التي لا تفكر إلا بالمعدة  والفرج( النظرة الى المرأة على أنها  موضوع جنسي ومخلوق ضعيف أقرب الى الفريسة التي تصطاد( اصطدت بهذا الاسم سبعين امرأة ص 30 ) . وان هذه النظرة  الى العربي و الى المرأة بالقطع ظالمة  ويحسن بمبدعينا ( إن بقي  في العمر بقية بالنسبة لبعضهم ) أن يتصدوا  لها بإبراز النموذج العقلي الذي ينظر الى العربي كانسان جدير بالحرية الشاملة  و الى المرأة لا " كوعاء صديد كما سماها نزار قباني " بل ككيان إنساني كامل يشارك في جميع  النشاطات الاجتماعية . وإنها لدعوة لكل مبدع أن يحل النموذج العقلاني محل النموذج الشهواني لعل التحرر يكون مفهوما أكثر ويقرب أكثر.