فلسطين.. ملحمة القرن العشرين
"فلسطين.. ملحمة القرن العشرين"
بقلم" عبد الله الطنطاوي
"دار فلسطين المسلمة" تحسن الصنع، وتسدُّ ثغرة وسيعة في تاريخ الجهاد، بنشرها هذا الكتاب –المعجم- الوثائقي المهم عن المبعدين..
فالحركات الجهادية في هذا القرن، لم تُهيأ لها الأيدي النظيفة التي تؤرخ لها بأمانة وصدق، فأكثر الذين كتبوا عن تاريخ وطننا العربي، وعالمنا الإسلامي، ليسوا موثوقين، ولا موضوعيين، ولا حياديين فيما كتبوه.. بل كتبوا ما كتبوه من وجهات نظر تلعب فيها الأمزجة والأهوية، وهي في الغالب الأعمّ، أهوية حاقدة، وأمزجة منحرفة، لا تسعى إلى قول الحقيقة، لأنها لا تريدها، وليست راضية عنها..
وأنا لا أعتب على أولئك، بقدر ما أعتب على أبناء الحركات الجهادية التي عمّت أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي، فشكلت ملحمة خالدة ارتفعت فيها أرواح، وتناثرت أشلاء، وتدفقت دماء، فخضبت أرضاً، وغسلت أدراناً، وروّت جذور الحرية في ديار العروبة والإسلام.
أبناء الحركات الجهادية في كل مكان، ولا أكاد أستثني، قصّروا في التأريخ لتلك الملاحم، حتى ضاعت حقائق، ونُسيت معارك، وغاب شهداء، وكان الأحرى بها غير ذلك، كان الأحرى بها أن تكتب عن معاركها، وعن شهدائها ومجاهديها، وأن تؤلف القصص والمسرحيات والمسلسلات عنهم، وأن تعمل المعجمات بأسمائهم، ودم شهيد واحد، كفيل بكتابة مجلدات عنه، وعن إخوانه الشهداء والمجاهدين.
ويبدو أن القائمين على إعلام الحركة الجهادية في فلسطين الحبيبة –التي تئن تحت ثقل الجزارين من بني صهيون، وهي تشخب دماً زكياً قانياً- كانوا أوعى من سابقيهم، فبادروا لتأريخ بعض شهدائهم، فأصدروا عدداً من الكتب التي ترفو ثلمة، ولا تنهض إلا ببعض الحاجة، لأنهم مطالبون قبل غيرهم، بالمبادرة إلى عمل معجم لشهداء القضية الفلسطينية من بداية هذا القرن وإلى أن تتحرر فلسطين كلّ فلسطين، وإلى إخراج كتب تاريخية، وأعمال إبداعية، عن ملاحم أصحاب الملاحم منهم، كالشيخ القائد الشهيد عز الدين القسام، رائد المجاهدين في بلاد الشام في القرن العشرين، وكالقائد الشهيد عبد القادر الحسيني، وكالمجاهد الذي تآمر عليه الأقرباء والأبعداء الحاج أمين الحسيني، وكالشيخ الأسد الهصور: الأخ القائد أحمد ياسين، وسواهم من أصحاب الملاحم في تاريخ القضية الفلسطينية.
لابد من المبادرة، فالذين عاشوا عصر المؤامرات على القضية، والذين عايشوا القسام والمفتي وشهيد القسطل، يتوارون، وفي كل يوم نفقد عزيزاً مضيّعاً منهم، وذاكرة هؤلاء الميامين تذخر بالعديد من الذكريات الحلوة والمرّة عن البدايات والروّاد..
اتصلوا بهم، وسجلوا عنهم، ليعرف العالم أيّ شعب هذا الذي وضع في أفواه المدافع، وتصدّى للدبابات وأسلحة الدمار، يفتح لها صدره في شموخ شجاع، مسترخصاً الأرواح والدماء والأشلاء، في سبيل الحفاظ على الأرض والعرض، وفي الذِّياد عن الأقصى وأرض الأنبياء ومسرى محمد صلى الله عليه وسلم، فهو شعب فلسطيني شآميّ عربي إسلامي حرّ، لا يقبل ضيماً ولا يرضى بهوان، والاحتلال هوان، بالغة ما بلغت قوة الأعداء من إنكليز ويهود وروس وعرب وأمريكان.. شعب قدوة، ستقتدي به سائر الشعوب المقهورة، عندما تعرف جهاد شعب فلسطين وتضحياته الكبيرة، ولن أستثني زعانف الخيانة، لأنهم ليسوا من أهله، إنهم عمل غير صالح.
والكتاب المعجم الذي بين أيدينا، عن المبعدين، وهؤلاء المبعدون برهان على تواصل الملاحم، وعلى تواصل الأجيال في العمل الجهادي، فالرجال الذين أبعدتهم سلطات الاحتلال الصهيوني، هم نماذج وعينات من الشعب الفلسطيني المجاهد.. فيهم الشيوخ وفيهم الشبان وفيهم الأشبال، ولولا شيء من (الحياء) الديمقراطي، لأبعدت الصهيونية نساء مجاهدات يذكرننا بالجدات العظيمات.. خولة وصفية والخنساء.. رضي الله عنهن.
ومن خلال الكلمات الحية، نستطيع أن نعرف الأهوال التي يعانيها يومياً أهلنا في فلسطين المحتلة، على أيدي الغزاة اليهود.. الأهوال التي لم يسمع بها العرب ولا المسلمون مستعدون لسماعها في عصر الانهيار هذا..
ترى.. من مِنَ العرب والمسلمين يستطيع تخمين حجم التضحيات التي يبذلها أهلنا المجاهدون والمجاهدات في فلسطين يومياً، ومنذ بدأت تتسلل العصابات الصهيونية إلى هذه الديار بتآمر ديمقراطي غربي أمريكي روسيّ إمبريالي رأسمالي، ليبرالي، بروليتاري؟
ألا فليكتب الكاتبون الأحرار عن معاناة الأهل، لعل أصحاب القصور والكروش، لعل أصحاب الأثاث والرياش، يستحيون من أنفسهم، ومن الناس، إن لم يكونوا يخجلون من الله، ومن أولئك المجاهدين والشهداء وأسرهم، فيما هم يتقلبون على سُرُر النعيمّ
كلّما أنَّ في الخيام شريدٌ لُعنَ القصرُ والفراش الوثير
معلومات قليلة، تلك التي حواها الكتاب المعجم عن المبعدين، ولكنها تكفي لتعلم أنهم ليسوا ناساً عاديين.. فيهم مثقفون وعلماء وسياسيون وأطباء ومهندسون وتجار وعمال وطلاب ومزارعون، وليس فيهم من لم يضح بسنوات من عمره في أقباء السجون والمعتقلات اليهودية التي تعبر عن قمة الديمقراطية الغربية، بدليل رضا أمريكا زعيمة الغرب الليبرالي، ورضا روسيا عندما كانت زعيمة الشيوعية، وبعد أن غدت ذيلاً للبيت البيضاوي المسكون بالأحقاد في واشنطن، بدليل رضا الشرق والغرب والشمال والجنوب، عن ديمقراطية بني صهيون.
كل واحد من هؤلاء المبعدين، قد تعرض للاعتقال أكثر من مرة، وتعرضوا جميعاً للتعذيب والتنكيل، فالذي قطعوا أصابعه، والذي بتروا يده، والذي أفقدوه بصره، والذي أفقدوه سمعه، والذي أثكلوه ابنه، والذي والذي.. مما حفل به قاموس الديمقراطية اليهودية الأوروبية الأمريكية من ألوان الجرائم التي أتقنوها وأتقنوا التعتيم عليها، فقد نجحت حكومات أو عصابات الاحتلال المتتابعة من أقصى اليمين الكاهاني الشاروني، إلى أقصى اليسار الصهيوني.. نجحوا في إخفاء جرائمهم، حتى إذا كانت ثورة المساجد عام 1987، فضحت جرائمهم، عندما أوعزت (الحمائم) الرابينية لقراصنتها من حملة العصي والرشاشات، بتكسير عظام الشبان والأطفال على مرأى ومسمع من الديمقراطيات الزائفة في بلاد العم سام والسائرين في ركابه. ركاب الصهيونية الحاقدة على البشرية.. عندها، عرف العرب –إلى حين- أي معاناة يعانيها أهلنا تحت الاحتلال الغاشم بحق، ثم نسوا ما ذُكِّروا به، أو تناسوه، ليعودوا إلى غفلتهم وسهواتهم، والمسلمون يغطون في سبات التخلف والجهل والعجز، وليس لهؤلاء الصناديد إلا الله، وإلا إيمانهم الذي لا يتزعزع بأنهم على الطريق الصحيح سائرون، وإلا ثقتهم بنصر الله لهم، لأنهم أصحاب حق، ولأنهم مظلومون، ولأنهم يجاهدون الظالمين والطواغيت بالحجارة والعصي وبما تصل إليه أيديهم من ألوان السلاح.. إلا سلاح (السلام) المزعوم.. ليس لهم إلا صمودهم الأسطوري منذ بداية القرن العشرين الذي حمل لنا من الكوارث والمآسي والسخائم، ما الله وحده به عليم، وفي طليعتها، ما نزل وما يزال ينزل بأرض الإسراء والمعراج، وبأهلها الميامين الذين يكتبون تاريخهم بدمائهم، فيما يأبى المزايدون من الكتبة إلا أن يبخلوا عليهم ببضع كلمات في صحفهم السود.
تُرى.. ماذا كان يمكن أن تكون مستويات مجتمعاتنا العربية والإسلامية لو كانت تحتوي بين حناياها مثل هذه النماذج الرفيعة من الأطباء والعلماء والمهندسين والمدرسين و.. و.. الذي خلّفوا دنياهم وراء ظهورهم، وأقبلوا على الله يخدمون عباده، ويضربون الأمثلة بتضحياتهم من أجل تحرير الأرض التي قدّسها وباركها الله؟
هل كان فقراؤنا يعانون من بؤس وتعاسة وجهل وتخلف وأمراض وجوع؟
إنّ المبعدين نماذج جديرة بأن تكون قدوات صالحات، في زمن عزت فيه القدوة، كما عزّ الرجال، وندرت المروءات والنخوات، وستكون المعلومات عنهم، أو يجب أن تكون المعلومات المسطورة في هذا الكتاب المعجم، ملهمة للكتاب والشعراء والفنانين، لإبداعات أدبية حية، تنفي ما لحق بثقافتنا من خَبَث ولوثات.
إنني أشدّ على أيدي القائمين على الإعلام الجهادي، وهم ثلة من الشباب كريمة واعية، أشدّ على أيديهم وأهنئهم بإصدار هذا الكتاب، على أمل اللقاء بهم في كتب أخرى، فـ (دار فلسطين) تشكو من قلة ما تحتويه مكتبتها من الكتب القيمة، كما تشكو كل دار عربية ومسلمة، وقد بادرت إلى إصدار مجموعة من هذه الكتب الموثوقة الموثقة ولكنها تتطلع إلى المزيد.. فإلى المزيد يا رجال.. حتى لا تندثر صفحات الجهاد والمجاهدين، ودماء الشهداء الأبرار الأطهار مع الأيام، ولكي تكون ملهمة الأجيال لمواصلة الطريق، وحادية الأدباء والشعراء والفنانين، يستلهمون من حيوات أولئك الأبطال ملاحم خالدات على الزمان.