التحولات الدلالية في شعر محمد بنعمارة 1

التحولات الدلالية في شعر محمد بنعمارة

(الجزء الأول)

ذ. محمد دخيسي - وجدة المغرب

[email protected]

1- حدود مقاربة التجربة الشعرية

تنفرد الدراسات الأكايدمية بخاصية التوثيق المعرفي والمنهجي، وتتلخص كينونتها في إبراز دور جهاز مفاهيمي معين، ومدى ملاءمته في تلميع النص الإبداعي.

حدود هذا التأليف الأولي تنعدم جدواه في الغالب، دون إثراء جوانبه بالتحليل والتعليق. وغرضنا نحن في هذا الإنجاز أن نحاول معرفة الأنساق الدلالية التي سار عليها الشعر العربي عامة والمغربي خاصة، من أجل التعريف بالتحولات التي تطرأ على المجتمع، وتكريس دور اللغة وتجلياتها في تنوير هذا الفعل.

لن نغالي إن قلنا إن الشعر المغربي المعاصر سالت كلماته دون أن تعرف مسيراته مواكبة نقدية بمستوى الثقل الإبداعي. ذلك أن قلة الدراسات التي أجريت عليه تبدو ضئيلة، والقلة لا نحكم عليها كمّا فقط، بل القول هنا منصب حتى على الكيف، والمضمون المعرفي.

إن الحديث عن هذه التراكمات يجرنا إلى استقصاء محاولات جادة استثمرت ما يظهر على الساحة الإبداعية والنقدية المغربية بالخصوص، وجمعها في كتب منفردة تتسم بالعمل البيبليوغرافي، وهي تساعدنا في معرفة التطور التاريخي الذي يعرفه جنس بعينه بالنظر إلى التطور التاريخي. [1]

والعودة إلى مثل هذه المؤلفات تقدم لنا الصورة المتطورة للإبداع الشعري، ذلك :" أن العقود الأخيرة ( فقد) عرفت تطورا ملحوظا كانت بداياته مع سنوات الستين التي عرفت صدور ثمان وعشرة مجموعة، وارتفع العدد في سنوات السبعين إلى ما يفوق سبعين مجموعة، وحطم هذا الرقم مع سنوات الثمانين التي بلغت مجموعاته ثمان وأربعين ومائة مجموعة، وتعدى العدد سنوات التسعين عشرين وثلاثمائة مجموعة." [2]

يتعلق الأمر إذن بالسيرورة التي مست الشعر المغربي الحديث والمعاصر، والدارس لهذا الحيز ينتبه إلى الهوة الفاصلة بين الإبداع والنقد المصاحب له، ذلك أنه - باستثناء الأطروحات الجامعية - تبقى الدراسات نسبيا غير كافية، [3] والدراسات الأدبية سبيل للبحث في نطور التجربة الشعرية.

تعد مثل هذه الأوليات ضرورية للبحث في أصول التحولات الدلالية في الشعر المغربي، كما عللنا سالفا متعلقات التنظيرات التي تكلفت بالنظرية (الدلالية). لذا لم يعد بإمكاننا أن نبرزها دون الخوض في التحولات التي أُفرزَت عن التطور.

إن التجربة الشعرية في أساسها تطور للتجربة التي يمر بها الشاعر. يقول عباس الجراري مستحضرا ضرورة التعبير عن التطورات التي تمس الظروف الملامسة للشعر:" إن بعض شعرائنا المعاصرين، وحتى الذين سبقوهم يمرون في تجربتهم الشعرية بمراحل تتطور فيها التجربة ومعها يتطور التعبير، والمفروض أن يكون هذا التطور تصاعديا، وإلا فهو ليس تطورا، وآخرون وهم كثيرون يضلون حيث هم، أي يقفون عند نقطة البدء ساكنين، سواء أكانت هذه النقطة متسمة بالتقليد أو العطاء المتميز الواعد، وهذه حقيقة تنطبق حتى على بعض الذين تابعوا الإبداع وواصلوا إخراج الدواوين أو النشر في الصحف والمجلات." [4]

والتجربة الشعرية كذلك تبرز دور التكوين الشخصي للشاعر من حيث الممارسات الثقافية، والتأثر بالمحيط الاجتماعي والسياسي العام. لا ندعي هنا أن الشاعر ابن بيئته كما كان سائدا في نظر مؤرخي الأدب، الذين درسوه من جانب علاقاته المباشرة بمحيطه.

في مقابل ذلك، سار الإبداع الشعري المغربي في اتجاه استثمار المكونات الشخصية ليحقق مبدأ التفاعل المباشر بالمتلقي. وقد أثمر التفاعل المبكر للشاعر بالمحيط في إظهار سمات الفن الأدبي من حيث الوجود والاستمرارية، بمعنى أن الشاعر استثمر تكوينه الداخلي ( الذات) والخارجي ( المحيط ) في إقرار وجود شعره، وضمان مبدأ الاستمرارية. وكان الشاعر حين يتخطى مرحلة لأخرى يبرز أهم التحولات التي تكرس مبادئه.

قليلة هي التعاريف التي نظرت في صيرورة ( بالصاد) الإنجاز الشعري، لكن الرؤية الإبداعية لا تخلو من تحولات تساهم في انتقال الدلالة من معنى مرتبط بمرحلة شعرية معينة، إلى بنية ثانية أكثر نموا، وذات مقصديات مبيتة وجلية. ذلك أن المبدع يستثمر معارفه لتخليص تجربته الشعرية من مراوغة الحقيقة، وتجنب المباشر من القول. ويطمح إلى إعطاء " شعريته " صفة الخصوصية.

لقد انطلقنا من حيثيات الموضوع الأساس الذي نبحث فيه لتقييم هذه الخلاصات. وبهذا تجتمع النظرية والتطبيق في محاولتنا التحليلية. كما أن المتن الشعري المدروس أوحى لنا التحولات الكبرى التي ميزت التجربة الشعرية عند محمد بنعمارة. وخلصنا في نهاية المطاف إلى تبويب هذه التجربة ومرحلتها  (تقسيمها إلى مراحل ) حتى ننتبه إلى أهم التحولات الدلالية التي طبعت كل مرحلة على حدة من جهة، ومقارنتها بالتحول في التجربة الشعرية اللاحقة من جهة ثانية.

قبل التدرج في تحليل التجربة الشعرية عند محمد بنعمارة من خلال التحولات الدلالية التي طبعتها، نقف عند بعض الملاحظات المتعلقة بالشاعر ذاته:

·    ولد بمدينة وجدة في سنة 1945، تابع دراسته الثانوية بالرباط، يزاول مهامه في ميدان التعليم.

·  حاصل على دكتورة الدولة في موضوع: (الصوفية في الشعر المغربي المعاصر، المفاهيم والتجليات)، وكان قد حصل على دبلوم الدراسات العليا في موضوع: (الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر) تحت إشراف الدكتور محمد السرغيني.

·  يشرف على برنامج إذاعي خاص بالشعر منذ زمن طويل بإذاعة وجدة تحت عنوان ( حدائق الشعر).

·    أصدر لحد الآن سبعة دواوين شعرية :

 عنوان المجموعة

تاريخ الإصدار

الشمس والبحر والأحزان

1972

العشق الأزرق، بالاشتراك مع محمد فريد الرياحي

1976

عناقيد وادي الصمت

1978

نشيد الغرباء

1981

مملكة الروح

1987

السنبلة

1990

في الرياح… وفي السحابة

2001

 إن هذا التحقيب الزمني الذي تكلفت بتركيزه الدواوين الشعرية الصادرة عن الشاعر، يساعدنا في تعرف مراحل التجربة الشعرية التي مر بها ، ودورها في تمييز التحولات الدلالية. كما أن التقسيم ذاته يدفعنا إلى ملاحظة علاقة كل مجموعة شعرية بالحقبة الزمنية التي ظهرت فيها، والحقول الدلالية التي كان يسيجها الخطاب الشعري.

[1] - يمكن العودة في هذا المجال إلى د- محمد قاسمي من خلال أعماله الموسعة في بيبليوغرافيات: الشعر المغربي، القصة المغربية، الرواية المغربية، المسرح المغربي…

[2] - محمد قاسمي: مكتبة الأدب الحديث والمعاصر في المغرب، داسات وبيبليوغرافيا، مادة الأدب المغربي الحديث، (مطبوع ) 2002. ص- 27.

[3] - يمكن العودة إلى نفس المرجع السالف حيث تظهر قلة هذه الدراسات.

[4] - عباس الجراري: تطور الشعر العربي الحديث والمعاصر في المغرب، 1930 .1960، ص- 620.