مسرح علي أحمد باكثير ـ الدودة والثعبان
مسرح علي أحمد باكثير
الدودة والثعبان
بقلم: عبد الله الطنطاوي
اسم المسرحية:
كان اسم هذه المسرحية: "جيش الشعب" ثم طُمس هذا الاسم على الغلاف بالأسود، وكُتب
فوقه أو أعلى منه - الاسم الجديد "الدودة والثعبان" وبقي الاسم القديم مطبوعاً على
بعض الورقات، في نهاية بعض الملازم.
فكرة المسرحية:
تدور فكرة المسرحية (جيش الشعب) خلال الأحداث، وفي رأس شخصيتها المحورية (الشيخ سليمان الجوسقي) وفي رؤوس أصحابه وأتباعه من زعماء الأقاليم، ومن العميان الذين شكّل منهم الجوسقي جيشاً منظماً، فيه المقاتل والعالم ورجل الإعلام والمراسل وما يحتاج إليه أي جيش منظم.
وكان الأحرى أن يبقى للمسرحية عنوانها الأصيل، أما عنوانها الجديد فهو يستند إلى حلم رآه الجوسقي، وقصّه على نابليون بونابرت، قائد الحملة الفرنسية على مصر.
قال الجوسقي لنابليون:
"أراك في منامي ومعك ثعبان كبير، ودودة دقيقة، أرسلتهما على نخلة عظيمة، فالتفَّ الثعبان حول جذعها، فاضطربت النخلة، وأصابها هلع شديد، أنساها كلّ شيء، وإذا صائح يصيح من السماء: أيتها النخلة لا تخافي الثعبان، وخافي الدودة.
وكانت الدودة قد زحفت حتى بلغت أعلاها (أعلى النخلة) فأخذت تمتص لبابها، فتدلّت سعفة من النخلة، ثم ارتفعت برأس الثعبان، إلى حيث الدودة فالتهم الثعبان الدودة فنجت النخلة".
هذا هو الحلم الذي قصّه الجوسقي على نابليون بعد أربع عشرة صفحة من الفصل الثالث، أي بعد انقضاء ثلاثة أرباع المسرحية التي لم يبق على نهايتها سوى خمس وثلاثين صفحة، وتفسير هذا الحلم لا يسوّغ تقديم هذا العنوان على العنوان الأول الذي يشكل فكرة المسرحية، وهو جيش الشعب.
تفسير الحلم
جاء تفسير الحلم في الصفحة 124 على الشكل التالي:
النخلة هي مصر، والثعبان هو جيش نابليون الذي غزا به مصر، والدودة هي حيلة نابليون التي ما جازت على الشعب المصري، فقد زعم له نابليون أنه ما جاء إلى مصر غازياً ولا محتلاً، وإنما جاءها محرراً يريد أن يحررها من حكم المماليك الظلمة الأغراب (كأن التاريخ يعيد نفسه، ويبقى الغزاة هم الغزاة في كل زمان ومكان) وأنه متفق مع سلطان الدولة العثمانية، وأنه يحب الإسلام ونبيَّ الإسلام، ويكره النصرانية، وأنه، وأنه.. مما لم ينطل على مشايخ مصر وعلمائها ووجهائها وجماهير شعبها.
وفي نهاية المسرحية، يذكّر الجوسقيُّ نابليون بتلك الرؤيا وبتفسيرها، وبأنّ مشايخ مصر أثاروا الثعبان الذي هو الجيش، فثار الثعبان وقتل ودمّر وانتهك وأباد، مما فتح عيون العمي، وبصائر الشعب على حقيقة الحيلة التي أرادها نابليون لخداع المشايخ والوجهاء والعامة، ولو أنّها جازت على الشعب، لكانت الطامَّة.. التهم الثعبان الدودة، أو كشف الجيش البربريّ خبيئة النفس الخبيثة، وتكشفت حقيقة حبّ نابليون للإسلام والمسلمين، وادّعائه حبّ شعب مصر، وسعيه إلى تحريره.
المسرحية
تتألف المسرحية من أربعة فصول، امتدت إلى 132 صفحة من القطع المتوسط، وتتحدث أحداثها عن الحملة الفرنسية على مصر، عام 1798 م- 1213 هـ بقيادة نابليون بونابرت، وعن أحوال مصر قبيل الغزو، وما كان يلقاه الشعب من ألوان العسف والجور على أيدي حكامه المماليك، الأمر الذي حفر هوّة سحيقة بين المماليك وبين الشعب، مما مهّد لنابليون القيام باجتياحه البلاد المصرية التي يحميها جيش من الأرقاء والعبيد الذين اشتُروا من أسواق النخاسة، ثم ثاروا بسادتهم، وحكموا مصر حكماً استبدادياً عزل الشعب عن قضاياه، وعندما تعرضت مصر لغزو الفرنسيين لم يستطع (الأمراء) المماليك الدفاع عنها، بل ولّوا منهزمين أمام الجيش الفرنسي، ناجين بأرواحهم وكنوزهم، تاركين الشعب المصري يدافع عن نفسه بالحجارة والعصي والنبابيت والفؤوس وكلّ ما تصل إليه يده من سلاح، وقفوا ودافعوا وقاتلوا الجيش الفرنسي المسلح بالبنادق والمدافع الثابتة والمحمولة، وبكل ما لديه من تنظيم وتدريب وقيادات.
شخصيات المسرحية
في المسرحية شخصية رئيسة هي شخصية الشيخ سليمان الجوسقي، الرجل الأعمى الذي تزعم طائفة العميان في مصر، وقادهم بدهاء وذكاء وفطنة وتنظيم، حتى جعل منهم قوة يهابها المماليك والزعماء والفرنسيون أنفسهم.
جمع الجوسقي الكفيف آلاف الأكفّاء، وأنشأ منهم كتلة مترابطة متماسكة في كيان مستقل، أساسه فقدان البصر، وجمع منهم ولهم الأموال الطائلة، وثمّرها لهم في بناء العمارات والمطاحن والمعاجن والمخابز، وانفق منها عليهم وعلى الأيتام والأرامل والعجزة.. وكان هذا الجيش من العميان يأتيه بأخبار الأقاليم أولاً بأول، كما شكل منهم فريقاً إعلامياً في القاهرة وسواها من المدن والبلدات المصرية، ليذيع ويشيع ما يريد بين الناس، كما كان له منهم شبكة من المراسلين لنقل الأوامر والأخبار والإشاعات والتعليمات لأتباعه وأصدقائه.
وقد بدت شخصية الجوسقي قوية ذكية صلبة في مواقفها ومبادئها، وفي السعي لتحقيق الهدف الكبير الذي اقتنع به، وندب نفسه لتحقيق ذلك الحلم النبيل، حلم أن يكون لمصر جيش من أبنائها، يبني ولايهدم، ويذود عن الحمى ولايجبن ولايخون.. هذا الحلم الذي سكنَ الجوسقيَّ، فانطلق يناضل من أجله أصحابَ المصالح الشخصية، وأصحاب الزعامات والوجاهات التعيسة، والمماليك الفاسدين المشغولين بصراعاتهم على الحكم، وبجمع المال من أيّ وجه، وبابتزاز الناس، وتسخير أبناء الشعب لمآربهم الخسيسة، و(مشايخَ الوقت) بمطامحهم التافهة.
كان هذا الأعمى البصير يدرك حجم القُوى التي تحول دون تحقيق حلمه، وهي كلُّها قوى متخلّفة في أحلامها، منحطّة في سلوكيّاتها، لا تعير مصلحة الشعب أيّ التفاتة، فتركته غارقاً في الجهل والفقر والمرض.
وعندما حطَّ نابليون بآلته العسكرية المتقدّمة على أرض مصر، انضافتْ قوّة جديدة إلى تلك القُوى التي تقف في وجهه، وتمنعه من تحقيق طموحه، ولكنه -مع هذا وذاك- بقي ذلك القائد الواعي الصُّلب، يتصدّى للمخاطر الجديدة، ويقاوم الغزاة الجدد، بأساليب تتلاءم وطبيعة الجيش المعيوه بعاهة العمى، إذ كلّ أفراده من العميان.
وعندما تناهى إلى مسامع نابليون أخبار هذا القائد الأعمى، بادر إلى اللقاء به، وعرض عليه سلطنة مصر، فاستخفّ الجوسقي بهذا العرض، ولم يخفَّ إليه كما يفعل أكثر المبصرين، وافترق الرجلان وكلٌّ منهما معجبٌ بصاحبه، وربما أضمر في نفسه شيئاً.. أجل.. نابليون أُعجب بهذا الأعمى حتى إنه ليقدّمه على كل المبصرين من رجال مصر.
كما بدت شخصية الجوسقي في أجلى مظاهر القوة، في لقائه الأخير مع نابليون الذي جدّد عرض السلطنة على الجوسقي، والجوسقي الأعمى يسخر من نابليون، ويلحّ ويشترط أن يكون قبوله لسلطنة مصر مرهوناً بأن يكون لمصر جيش من أبنائها وقد فات الأوان بعد أن قتل نابليون كثيراً من جيش العميان. ولنتابع الحوار بين الجوسقي ونابليون، هذا الحوار الذي انتهى باستشهاده:
"الجوسقي يعتذر ويقول لنابليون: فات الأوان.
نابليون: كلا .. ما فات الأوان.
الجوسقي: كيف؟ وقد قتلتم أعواني الذين بهم أصول وأجول؟
نابليون: سنجعل لك أعواناً آخرين تختارهم أنت بنفسك.. تريد شيئاً آخر؟
الجوسقي: نعم أريد أن تعاهدني يا جنرال بونابرته بشرفك (يمدّ يمناه).
نابليون: بكل سرور. (يمدّ يده ويصافح الجوسقي).
(يلطمه الجوسقي بيده اليسرى لطمة قوية رنّت في القاعة .. مفاجأة أذهلت الجميع).
نابليون: (صائحاً بالفرنسية) وغد!.
الجوسقي: معذرة يا بونابرته، هذه ليست يدي. هذه يد الشعب«.
هذه عينة من مجموعة عينات تمثّل شخصية الجوسقي مع نابليون، وهي في صرامتها وقوتها ودهائها نراها في صلاته مع من أسماهم (مشايخ الوقت) والأمراء المماليك ومع خونة الشعب، شخصية قوية جذّابة مثيرة. وقد أحسن الكاتب رسم أبعادها الجسدية والاجتماعية والنفسية، وهي شخصية نامية متطوّرة، كانت خاتمتها خيراً من فاتحتها.
أما الشخصيات الأخرى، فقد حفلت بهم المسرحية، من مشايخ وأمراء وزعماء ووجهاء وعميان وعامة وقادة وجنرالات، ونساء ورجال، كان لكل منهم دوره في رسم معالم الشخصية الرئيسة (الجوسقي) والشخصيات ذوات الصلة به، كشخصية نابليون وبعض جنرالاته، وشخصيات بعض المشايخ والأمراء وبعض النساء، ولكنها شخصيات لها صلات حميمة بالواقع.
الصراع
ظهرت هذه المسرحية تحت عنوان رئيس هو: (في المعركة) وهي الجزء الأول أو الحلقة الأولى من ثلاث حلقات أو مسرحيات، أما الثانية فهي بعنوان: (أحلام نابليون) والثالثة بعنوان: (مأساة زينب) .. ظهرت (الدودة والثعبان) في النصف الثاني من عام 1967 أي بعد هزيمة حزيران، وكأنها جاءت رداً على الهزيمة التي لم تشارك الشعوب العربية في حصولها، ويتحمل مسؤوليتها غيرُهم من الحاكمين، ولهذا حفلت بالصراع.
فهناك الصراع بين الغزاة الفرنسيين وبين الأمراء المماليك الحاكمين. وهناك الصراع بين الجماهير التي يقودها السيد عمر مكرم وبين الغزاة، وهنا جبهة ثالثة أمتن وأقوى وأعرض، وهي جبهة الصراع التي كان يقودها الشيخ الجوسقي ضدّ المماليك والخونة والأتراك والفرنسيين الغزاة، وسائر الظالمين لهذا الشعب الأعزل.
ولشدّة احتفالها بالصراع الذي لم يهدأ إلا باستشهاد الشيخ الجوسقي، ولأنه في مجموعه صراع إيجابيّ حادّ بين عناصر الخير وبين عناصر الشرّ، أمكن أن تُعدَّ هذه المسرحية من نمط الأدب المقاتل الذي يشدّ القارئ إلى ما يقرأ، كما يشدّ أنظار المشاهدين إلى خشبة المسرح، وهم يراقبون المتصارعين في علوّهم وهبوطهم.. علوّهم وتساميهم في القيم التي يحملونها ويقاتلون دونها، وتسفُّل الغزاة والظالمين في قيمهم الهابطة التي يموتون في سبيلها، أو يُحْمَلون على الموت.
القيم الفكرية والروحية
علي أحمد باكثير من الكتّاب والشعراء القلائل الذين أرّخوا - فنّياً - للأحداث التاريخية المهمة التي تستأثر باهتمام الأمة، وكانت منطلقاته فيها وطنية شعبية، وعربية إسلامية، والذي يطالع مسرحه التاريخي، ومسرحه السياسي، يطالع فيهما الثقافة الوطنية، والروح الشعبية، والمسحة العربية، ومبادئ المدرسة (الإسلامية) في الأدب بكل ما فيها من مقوّمات (الإسلامية)، وهو في هذا، يعدّ من الرواد الذين أرسوا كثيراً من قيم مذهب (الإسلامية) في الفن والأدب كالواقعية المثالية، أو المثالية الواقعية في الفكر والشخصيات، وكالتركيز على القيم التي جاء بها الإسلام وأشاد، كالدفاع عن الوطن، وعن الشعب وعن العرض، وعن الأرض، وعن الدين وكالإشادة بالشهادة في سبيل الله، والبذل، والشجاعة، والتصدي للظالمين ومناضلة الغزاة، والجهاد.
وباكثير يركز على مظالم المماليك، ولكنه لا يعمّم، لأن التعميم ظلم وافتئات على الحقيقة، ولذلك نراه يبرز بعض العناصر الخيرّة من أمراء المماليك، كالأمير أيوب الدفتردار، والسيدة نفيسة المرادية، كما لا يغمط الغزاة الفرنسيين حقّهم، فهم اعتدوا على الوطن والأمة والدين والحرمات، وقتلوا ونهبوا ودمّروا وأحرقوا القرى ولم يتوانوا عن قتل النساء والأطفال، وكان قتل المشايخ منهجاً لهم، ولكنه - في الوقت نفسه - يبدي إعجابه بشخصية بونابرت، عدوّه اللدود.
ويركّز باكثير على الشعب، وعلى ضرورة بناء الجيش من أبناء الشعب نفسه، ويرفض حكم الغرباء والظالمين أياً كانوا ولعل كثيراً من أفكار الجوسقي هي أفكار باكثير، بل إن أفكار أكثر الشخصيات الوطنية المتزنة، هي أفكار باكثير، كانتقاده للسيد عمر مكرم وأتباعه الذين يريدون أن يقاتلوا بالبركة، بغير سلاح، وبغير نظام وبغير قائد.. فالإسلام غير هذا، وتاريخ المسلمين يؤكد أنه ليس فيه قائد مسلم قاد جيشه بمسبحته الكهرمان.. النبي الكريم كان قائداً، وكان فارساً يتقدم الصفوف بسيفه، ويعيّن المواقع، ويرسم الخطط فهو الرسول القائد القدوة، وأصحابه كانوا على نهجه. والخلاص في العودة إلى الجندية وأن نتولى الدفاع عن أنفسنا بأنفسنا، لا بالمماليك ولا بالأغراب.
ويعجب لأولئك الذين يقرؤون كتاب الله، وسيرة رسوله، وسير خلفائه وأصحابه وتابعيهم من أبطال الإسلام الفاتحين، ثم لا يستخلصون منها ما يفيدهم في واقعهم، ويخلّصهم مما هم فيه من بؤس وتعاسة وتخلّف، كأنما طُمست بصائرهم، فلا يفقهون مما يدرسون شيئاً.
ويأسى لحال مشايخ الوقت الذين لا همَّ لهم سوى جمع المال، والتكالب عليه، وهذا لا يليق بعلماء الأمة، ولا ينبغي لهم، لأنهم ورّاث النبوّة، وقادة الجماهير، إنما اللائق بهم، أن يكونوا من رجال الآخرة.. أن تهون عليهم الحياة الدنيا في سبيل الله، في سبيل خدمة الأمة.. أن يكونوا قدوة للشعب، أن يقدّموا دماءهم وأرواحهم في مواجهة الغزاة، فدماء رجل واحد منهم، يفعل في الشعب ما لا تفعله آلاف المنشورات والخطب.
اللغة والحوار
وقد قدّم باكثير أفكاره، وعرض أحداث مسرحيته، ورسم شخصياتها. وأبان زمانها ومكانها، من خلال الحوار الحيّ، في إيجاز وتركيز، وفي لغة فصيحة يغبطه عليها بقايا الفِصاح، ولكنها واضحة ومفهومة، يقرؤها ويسمعها القارئ والسامع والمشاهد فيفهمها، كما يسعد بها طلاّب الفصاحة الذين يتأذّون مما يقرؤون ويسمعون ويشاهدون في هذه الأيام التي يكسّر (علماؤها) عظام سيبويه، والفراهيدي، والمبرد، وسواهم من علماء العربية، لما في كلّ ذلك من لُكْنة ورطانة وعجمة.
لنقرأ هذا المقطع، ولنستمتع بهذا الحوار الموجز المكثَّف المركَّز بين نابليون وتابعه المهدي وبين الشيخ الجوسقي، حول تعبير رؤياه:
نابليون: أتريد أن تحاجيني بألغازك؟
الجوسقي: ليس هذا لغزاً، بل رؤيا.
نابليون: وماذا تريد مني؟.
الجوسقي: أن تفسرها.
نابليون: أنا لا أفسّر الأحلام.. فسّرها أنت.
الجوسقي: لعل الشيخ المهدي يستطيع تفسيرها.
المهدي: عندك كتاب ابن سيرين: تعطير الأنام في تعبير الأحلام؟
الجوسقي: عندي.
المهدي: دعني أولاً أنظر فيه.
الجوسقي: قد راجعتُه فلم أجد فيه شيئاً.
المهدي: راجعتَه؟!
الجوسقي: عندي عيون كثيرة تقرأ لي وتراجع.
المهدي: إذن فإني سأفسّرها لك باجتهادي يا ساري عسكر.
نابليون: هات.
المهدي: أنت الثعبان.
الجوسقي: أعوذ بالله.
المهدي: والدودة هي المماليك، والنخلة هي مصر.
نابليون: ماذا ترى يا شيخ سليمان؟
الجوسقي: النخلة هي مصر. هذا واضح كفلق الصبح، ولكن لا يليق أن نجعلك ثعباناً. الثعبان هو جيشك.
المهدي: هذا ما كنت أعنيه.
الجوسقي: بين القولين فرقٌ كبير.
نابليون: والدودة؟
الجوسقي: ليست هي المماليك، لأنهم كانوا عندنا قبل أن تحضروا أنتم، والرؤيا تقول: إنك جئت بالثعبان والدودة معك.
نابليون: فما الدودة إذن؟
الجوسقي: لا أدري. سوف تفسّرها الأيام.
هذا التركيز في الحوار وهذا الإيجاز، يليقان بحضرة طاغية متحكّم مغرور سفّاح، هو نابليون، وهو يرسم الخطّ البيانيّ الصاعد لذكاء الجوسقي ودهائه الذي كاد يوقع بالشيخ المهدي الذي رضي أن يكون تابعاً للطاغية.
ولنقرأ أو نتابع الحوار، ونحن نلتذّ جرأة الشيخ الأعمى ووعيه:
نابليون: دعني من منامك وأوهامك.. ما رأيك لو جعلناك سلطاناً على مصر؟
الجوسقي: وأنا أعمى؟
نابليون: أنت فيهم المبصر الوحيد.
الجوسقي: أتسخر مني يا ساري عسكر؟
نابليون: أنت تعلم أني لست أسخر.
الجوسقي: لا سبيل إلى ذلك يا ساري عسكر.
نابليون: لماذا؟
الجوسقي: هذا منصب أكبر مما تعطي، وأصغر مما أريد.
نابليون: قلت لك لا تلغز.
الجوسقي: أنا لست ألغز.
نابليون: وضّح.
الجوسقي: أكبر ما تعطي: أي أنه ليس من حقك، وأصغر مما أريد، لأني أريد المغفرة والجنة.
الهدف:
لا بدّ لكل كاتب جادّ من هدف فيما يكتب، وباكثير كاتب جادّ، لايعرف العبث في سلوكه وفيما يكتب، وقد هدف من وراء مسرحيته هذه إلى أكثر من هدف. فهو أراد أن يحرّك ذاكرة الشعب المصريّ النسّاء، باسترجاع الماضي القريب، لعله يعي التزييف الذي قام ويقوم به بعض (مثقفيه) الذين رُبّوا هناك وهنالك، ثمّ عادوا مكْبرين ومعظّمين دور فرنسا وحملة نابليون على مصر، في نهضة مصر، بل نهضة العرب والشرق.. بل ويجعلون من سخائم نابليون: (مسرحه وخموره ومومساته وعلمائه ومدافعه..) طلائع النهوض الحضاري في مصر، وفي الشرق المستغرق بجهالاته وخرافاته وخزعبلاته..
أراد باكثير إسقاط الماضي على الحاضر؛ فالذي فرّ من أمام الفرنسيين الغزاة ليس جيش مصر، فلم يكن لمصر جيش، بل جيش آخر لا علاقة له بمصر إلا كعلاقة العلق بالجسم الذي يمتصّ دمه.. وكذلك الذين تسبّبوا بكارثة حزيران.. وهذا يعني: أن يعي الشعب دوره، وأن يتسلم الزمام، ليكون جيشه منه وإليه، قادة وجنداً.. وأن يطرد الأغراب.. أغراب الفكر والغزاة؛ فكلّهم غرباء عن مصر أرضاً وشعباً، ولا تهمّهم أرض مصر وشعبها، وليسوا مستعدين لإراقة دمائهم من أجلها، كشأن سائر الغرباء والغزاة مع أيّ وطن.
وقد وجد باكثير ضالّته في ذلك الأعمى البصير: الشيخ سليمان الجوسقي، ابن مصر، والداعي إلى تشكيل جيش من أبناء مصر، والمبادرة إلى تشكيل ذلك الجيش، أو نواته الأولى، ولو من عميان مصر.. حتى العميان، حتى العجزة، لا يجوز الاستهانة بهم، ويمكن للقائد العبقري أن يفيد من طاقاتهم، وأن يوظّفها التوظيف السليم الذي يعود على الأمة بالخير.. ولكن القوة الغازية الغاشمة تصرع ذلك القائد الأعمى الذي فاق المبصرين بنور بصيرته، وهو الذي طالما صارع قُوى المماليك والزعماء وأصحاب الهمم الهابطة، والتطلعات اللصيقة بالطين.. والوحل.. بأكداس المجوهرات.. بالعقارات.. وليس بأرض مصر، وشعب مصر، ودين مصر، وقيم الرجولة في مصر وغير مصر.
وقد نجح باكثير في تجسيد ما هدف إليه، وفطن أتباع الظالمين إلى ما يريد باكثير، فلم يستطيعوا إلا أن يغيّروا عنوان المسرحية، من (جيش الشعب) إلى (الدودة والثعبان) وإلا أن يحجبوا عن شعب مصر، الجزءين المكمّلين لهذه المسرحية، وهما: أحلام نابليون، ومأساة زينب.