نظرات في (المطر المرّ) لـ محمد السيد

نظرات في (المطر المرّ)

مجموعة قصصية لمحمد السيد

بقلم: محمد الحسناوي

في زمن الخيبة والانكسارات، تتألق الشهادة علامة صحة ومعافاة ومؤشراً على استئناف العزة والكرامة، وتظهر كتابات فكرية أو فنية تدرس ظاهرة الشهادة: أنواعها، أسبابها، نتائجها مثل مجموعة "المطر المر"(1) القصصية، للكاتب محمد حمدان السيد، وهي ليست عمله الفني الأول ولا الأخير في ميدان القصة القصيرة.

تضم المجموعة اثنتي عشرة قصة، عشر منها تدور حول الشهادة والاستشهاد في سبيل الله، واثنتان منها تقوم بدور البطولة فيها المرأة، أما البقية فأبطالها رجال، أو شباب في مقتبل العمر، بل معظمهم طلاب في مرحلة الدراسة الثانوية، أحدهم "عادل" فتى صغير السن. هل من عجب في ذلك في عصر أطفال الحجارة؟! وهكذا كانت اثنتان من هذه القصص تتخذان من المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي ميداناً لهما: "مهر العروس" و"بقعة الضوء".

السؤال المطروح في زماننا بإلحاح: ما الذي يحمل الناس لا سيما الشباب على طلب الشهادة إلى حدّ الافتداء بالروح؟ هذه المجموعة بقصصها مجتمعة ومنفردة تجيب عن هذا السؤال فنياً.

قصة "المطر المرَّ" تصور حالة الوالد "خالد" أصيبت ابنته الطفلة بجرح من رصاصة طائشة في مدينة محاصرة.. أصيبت بخاصرتها. والدها غير ملتحق بتنظيم المجاهدين، لكنه يصلّي، هل الصلاة اليوم جريمة؟ خرج لجلب صديقه الطبيب "سعيد" لكيلا يُشاع خبر إصابة ابنته، لأن مجرد الإصابة تهمة، فوجئ بالطبيب يتخبّط بدمائه في عيادته، رأسه مشدوخ نصفين بضربة بلطة؛ انفعل خالد، تألم، عاد سريعاً ليتفقد أسرته الصغيرة، الطفلة الجريح والأم الشابة، وجدهما أيضاً قتيلتين، ممثَّلاً بهما تمثيلاً. ماذا يعمل؟ إنه قبل أن يفعل شيئاً تتلقاه فوهات البنادق الرشاشة وضحكات القتلة؟ مع ذلك لم يمت قبل أن يكتشف خطأ إعراضه عن الانضمام إلى المجاهدين، وتسديد بصقة في وجوه الوحوش.

قد نقول: حالة "خالد" مفهومة، فنضيف حالة الجندي "أحمد" في قصة "لكل حادث حديث" حين طلب إليه قائد وحدته العسكرية أن يقتل المواطنين الأبرياء، نساء ورجالاً، كباراً وأطفالاً: "لا نريد أن يبقى منهم أحد، نساؤهم.. ذراريهم.. رجالهم.. أموالهم.. كلها مباحة.. اليوم يومكم.."، فينفذ الجندي على مضض، حتى إذا وصلوا إلى أمّ وطفلها الوسيم استفظع الجندي هذه المذابح، فاصطدم مع قائد وحدته ووقع اشتباك بين أفراد المجموعة، جرح الجندي على أثرها وقتل الضابط، وأصبح أحمد أسيراً بأيدي المجاهدين أو "خمسة شباب بعمر الورود بطلعة الصبح الوليد"، حيث يكتشف الجندي كذب الضابط في اتهامهم بالإجرام "إنهم أناس طيبون.. لا أظن أنني لو كنت في مستشفى الجيش سأعامل مثل هذه المعاملة الطيبة"، فلا يملك أخيراً إلا أن يقول لهم: "أنا منكم، كلفوني بما ترونه مناسباً كي أحصد من هذه الرؤوس التي عمرها الحقد، ولم يروِ غليلها كلُّ هذه الدماء".

وقد تقول: وهذه حالة مفهومة أيضاً.

فما بالك برجل عجوز، عمره فوق الستين، هو "أبو أحمد" في قصة "السيارة" يتعاطف مع هؤلاء المجاهدين، ويتمنى لو كان شاباً ليكون بينهم، وحين ينفذون ويفجرون سيارة ضد مركز المخابرات المقابل لبيت العجوز، يفرح فرحاً يخرج العجوز عن طوره، حتى تسخر منه زوجته، وتحذره من احتمال تعرض مسكنهم أيضاً لآثار التفجير.

"إنك فرح بما يحدث. هل جننت؟ إن حدث ما تتوقع، وتفجرت السيارة فسوف نزول نحن وجميع من حولنا من الجيران...

ليكن ذلك.. المهم أن تنتشر أشلاء هذه الأبنية المقيتة... نرى الجثث تخرج بعد أن أعياها العذاب ولا يرتعش لنا بنان، ولا نحرك لسان احتجاج!!".

وهذه أيضاً قد تكون حالة أخرى مفهومة، فما بالك بامرأة تحمل السلاح، وتقاتل؟ هل يكفي أن يتحكم الأشرار الأوغاد بالبلد، أو أن يعتقلوا طالب البكالوريا ابن الجيران من صفه أمام زوجها الأستاذ خالد، أو أن يتهموا الأبرياء ظلماً وعدواناً، أو يحاربوا كتاب الله.. كلها أسباب تعمل، لكنها "العروس التي لم تعرف من الزواج إلا تلك الأيام العشرة..." ورأت بأمّ عينها زوجها خالداً، ذا الخمسة والعشرين ربيعاً، مدرس التربية الإسلامية الوسيم ذي الروح المرحة والطلعة المشرقة، يُعتقل من عندها بعد منتصف الليل، ويقضي في السجن خمسة أشهر، ويكتب إليها رسالة تحكي مرارات العذاب، ويوصيها بالبقاء على العهد، ويهديها كلمة الصحابي بلال رضي الله عنه : "غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه"، ويقول في الرسالة: "أنت حرة يا صفية... عصمتك بيدك"، ثم يحملون إليها جثمانه شهيداً، فما ترى سبيلاً للانتقام لا الزواج بمقاتل، ولا تشجيع أخيها الصغير، بل أن تحنو على الأسلحة الحديدية، وتحملها في وجوه الظلمة!.

قد نقول: كل هذه الحالات مفهومة، فأقول لك: ما دمت قد تفهمت حتى حمل النساء للسلاح، فلأعرض عليك "فاطمة" في قصة "بقعة الضوء" وهي فعلاً بقعة ضوء في المجموعة كلها. امرأة متزوجة لديها ثمانية أولاد، يثيرها وجود جنديين على باب المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل: "الجنود الغرباء القساة يمرحون ويعربدون في ساحة الحرم الإبراهيمي.. والرجال المواطنون يطأطئون الرؤوس، ويرفعون الأيدي للتفتيش، وكأن الأمر طبيعي.. آه.. أليس من رجل لهذين الوغدين؟..".. أحدهما وجهه يشبه صورة بطرس الناسك "إنها صورة بطرس. لقد رأيتها في كتاب التاريخ يا فاطمة أيام الشباب في المدرسة، ذلك الراهب داعية الحملات الصليبية على بيت المقدس، مخفياً شرور نفسه وراء الشعارات..." "وتداعت في ذاكرتها أحداث أيام شتَّى، أيام كانت صبية مقبلة على الحياة بعمر الورود.. ترد على المسجد مع والديها وإخوتها باطمئنان، ويلذّ لها وهي الطفلة الشقية، كما كانوا يسمونها، أن تدور وحدها في جميع جنبات المسجد وساحاته، وتتفقد كل ما فيه من آثار وتحف وقديم، ثم تعود إلى حظيرة أسرتها في قلب الحرم، حيث تؤدي ركيعات تقلد بها والديها المسلمين، لقد حملت في جوانحها لهذا الحرم الشريف كل الحب وكل الاحترام منذ تلك الأيام الرغيدة، وأخذت هذه العواطف تتنامى وتكبر، وتتوضح مع الأيام، تذكر الحلو والمرّ منها. ونشأت بينها وبين كل قطعة من هذا الصرح الشريف علاقة وطيدة"، "وعندما وصلت قريباً من الجندي الغريب استلت سكيناً من كمها، وتعلَّقت بعنقه صائحة: لقد دنستم المكان يا أوغاد. أما آن لكم أن ترحلوا؟ خذها من يد فاطمة، وطعنته في عنقه".

لكن ما المؤثرات الفنية التي توسل بها الكاتب لكي يستكمل مستلزمات عمله الأدبي أو يقنعنا نحن القراء، لا يقنعنا بعدالة قضية هؤلاء المجاهدين وحسب لأنهم هم أنفسهم مقتنعون، بل ليكسب تعاطفنا معهم، وليزيد من وضاءة مشروعهم الجهادي.

أفاد الكاتب من إضافة قصص أو حكايات فرعية لقصصه، قصة داخل قصة مثل الاستشهاد في قصة "الشهيد" بمأساة "بائع الفول" "يوم أخذوه من بيته بعد منتصف الليل وأولاده وزوجته يبكون... ثم ... عادوا به بعد شهرين.. مقعداً"، وقصص "أبي علي" في قصة "الإقطاعيون الجدد".

كما أفاد الكاتب من "تيار الوعي" في معظم قصصه لدرجة أن السرد يكاد يختلط عليك، وينقلب السرد بضمير الغائب إلى ضمير المتكلم وأنت مفاجأ بذلك، ويغلب على تيار الوعي العودة إلى الذكريات، لا سيما ذكريات الطفولة، كما في قصة "بقعة الضوء" و"المطر المر" أو المراهقة في قصة "وهل للمريض موعد"؟.

أما توظيف التراث والتاريخ، فيسكن مساحة واسعة من جهد الكاتب واهتماماته من اختيار أسماء أبطاله: "أبي صهيب خالد فاطمة" إلى استذكار أسماء الصحابة "عمر، أبي عبيدة، خالد بن الوليد، نسيبة، صفية" إلى استذكار مشاهد تاريخية، مثل دخول جيش خالد مدينة "حماة" أيام الفتوح الإسلامية، أو المرور بالحروب الصليبية وصلاح الدين الأيوبي. على أن الاعتماد على الثقافة الإسلامية ونصوص القرآن الكريم والحديث الشريف كان أمراً واسعاً أيضاً، لعل أطرفها ما صبغ باللون الشعبي مثل: "جاءك الموت يا تارك الصلاة" و"بطل سحر السحرة".

مثل ذلك توظيف عناصر البيئة بشكل يخدم السياق القصي، فبطل قصة "الإقطاعيون الجدد" الذي يعاني من الغدر، لا يجد الوفاء إلا لدى الحيوان الكلب: "مسح أبو علي على رأس الكلب وتمتم: الوفاء، الوفاء، الوفاء يا أستاذ أين تجده، وقد امتلأت الحياة غدراً"! وفي قصة "مهر العروس" يوظف الكاتب احتضار أوراق الشجر لرسم الجو في الخريف وللتأثير على جو القصة "تخوم الموت والحياة": "الأرض القريبة اكتست بلون الاحتضار، العشب أصفر يميل إلى السواد، والأوراق المتراكمة الصفراء فقدت دماء الحياة، فانفصلت عن أصولها، ملتجئة إلى الأرض، لعلها بذلك تريح نهايتها على مخدة تراب..". وفي القصة نفسها انعكاس مشاعر الشاب المجاهد أحمد الذي يعاني من احتلال وطنه وغربته فيه.. انعكاس ذلك على القنديل الذي ينير ظلمة مخبئة: "وداخل طاقة غير مفتوحة، اطمأن قنديل نفطي مرتاحاً، انسابت في نفس أحمد موجة حسد لهذا القنديل، المطمئن على وطنه ومستقبله الذي لا يهدده شيء، مادامت يد العابثين الصغار بعيدة".

في هذا المضمار نشهد تطويراً للتوظيف يبلغ مستوى رفيعاً في قصة "بقعة الضوء"، حيث يوظف الكاتب الشعاع المنبعث من إحدى نوافذ المسجد الإبراهيمي العالية، لتصوير نفسية البطلة "فاطمة": "كانت الذرات تدور داخل السهم الشعاعي، وكأنها في حوام مائي، حائرة لا تدري كيف الخلاص.. إلى أن تنتهي إلى البقعة، فتستقر حيرتها، وتختلط بالضياء الطاهر". أو نفسية الآخرين: "وعادت ترمي السهم الشعاعي ببصرها، ولكن بصورة متصاعدة هذه المرة حتى وصلت إلى بدايته عند الكوة العالية، حينئذ وصلت إلى مسامعها الجلبة القادمة من الشوارع المجاورة..." وحيث تفيد من الشعاع لتحديد الزمن: "وعمود النور أصبح مستقيماً، مما يشير إلى اقتراب موعد صلاة الظهر"، وهذا أفضل من اللجوء إلى عقارب الساعة في هذا السياق.

ولا تتركنا قصة "مهر العروس" المحكمة حتى تضعنا أمام مشهدين متقابلين متناقضين متكاملين بآن واحد: "وفي اليوم الثاني كان في الطرف الشرقي من القدس عرس أحمد على عروسه نصر... وفي الطرف الغربي... سيارات الإسعاف تنقل المصابين من البناية ذاتها".

إن تشخيص الجمادات من عناصر البيئة بالتعاطف معها أو خلع الحياة عليها... يمكن أن يدرج ضمن هذه التنويعات على مفردات فنية جزئية، مثل التعاطف مع الأسلحة في قصة "رقم على الجدار": "قلَّب ناظريه بين الآلات الثلاث التي صمتت عن الكلام نهائياً، وهمس: لقد كنتِ مخلصة أيتها الجمادات..." "وضغط على الزناد فنطقت بأحرف النار". أما أن تتحول "الناعورة" و"النهر" إلى كائنات بشرية، تحسّ فتفرح أو تحزن، بل تنهض بدور البطولة في قصة بطولية.. فذلك أمر يحتاج إلى وقفة مطوّلة.

من أخصِّ خصائص القصة الحديثة "الواقعية" مطابقتها للواقع، من حيث إمكانية وقوعها لا من حيث تصويرها الآلي للوقائع، فذلك شأن الأعمال التسجيلية، أما اللجوء إلى الخوارق أو الأساطير أو "الفانتازيا" فليس وارداً. هذا الإطار العام لم يسلم من تعرضه للشقوق والتحايل عليه، كان آخرها ما جاء على أيدي أصحاب "الواقعية السحرية" من كتّاب أمريكا اللاتينية، الواقعية التي تطلق العنان للخيال أو المخيلة، مع توافر عنصر "الإقناع"، أي ألا تترك الحبل للمخيلة على الغارب. وهنا يتفاوت الكتاب في التعامل مع أصول اللعبة أو التوفيق بين نقيضين "الواقع" و"الخيال". إن الواقع يحفل بكل ما هو عجيب وغريب، مثل الحكم على مدينة بكاملها بالاستباحة حرقاً وتدميراً، وإحدى ممارسات الاستباحة تنفيذ حكم الإعدام حرقاً بالنفط على عشرة من الشبان في ساحة المدينة أمام الناعورة والنهر، إنه واقع وإن كان غير مألوف وغير مقبول ولا مستساغ، تعجز الأقلام عن التعامل معه بسهولة ككل واقع.

إن جو القسوة الفظيعة في حرق الأجساد البشرية العشرة رفع الحاجز في التعامل مع عناصر الطبيعة الجامدة، لأن إحراق البشر الأبرياء مسألة تفوق التصور والطاقة البشرية ومسلمات الواقع البشري، فإذا عناصر الطبيعة كلها لا الناعورة والنهر فحسب، تحس وتتعاطف، فللنهار عيون محمرة، ورؤوس التلال متأوهة، والساحة تطل ناظرة ما يجري واللكنة الملعونة ذات رائحة، والبحر الواسع قد تكون لديه استجابة معتصمية، والشمس تتوارى عن القوم من سوء البشارة، "وبدافع من حب الاستطلاع، تطل إطلالة رقيقة، لتعود، فتخفي وجهها بجفنين دامعين ومآق مقرحة".

 

 (1) المطر المر محمد حمدان السيد دار عمار عمان ط1: 1408هـ 1988م.