الواقع الاجتماعي بين الرفض والقبول
الواقع الاجتماعي بين الرفض والقبول
"دراسة تحليلية لقصيدة" إدانة لزمن العهر
بقلم الدكتور: علي كمال الدين
القصيدة: إدانة لزمن العهر
شعر: حكمت صالح
أضمر الصدرُ علامات
حنى كاهلَها استفهامُ عُجْبٍ
ملَّ ثغرُ الدّهر طَرْحَهْ
فحبستُ الأحرفَ الحيرى
وراء الشفتين
قد جمعت الزمنَ الآتي بِفُسحةْ
هي بين الإصبعين
يا أخي، لو يعلم الإنسانُ
.........................!
أو يُحصي مع النجم مَصيرَهْ
وعن السّاعةْ......!!
لو تنفرج الأستارُ
عن وجه معانيها الكبيرةْ!
أيها الناس خذوا حِذْركمو
إن في الأرض تدب الأرَضَهْ
حيث أخفى الله سرَّ القمرِ المنشقّ عن أخدودهِ
فتعالى الأفقُ كيما يَقبضَهْ
* * *
ضاع مفتاحُ الأمانةْ
وسطا السُرّاقُ ..
فوق السّور
وابتزّوا عيونَ السابِلَةْ
فتفشتْ في الأراشيف الخيانةْ
برشاوى العُهرِ
قد بيعَ عَريسٌ
عرضوا قبل المَزادات قِرانَهْ
ثم شُلَّ الجسدُ العاري
وما زالَ قتيلُ الغدرِ....
يَسقي قاتِلَهْ
من دِنان النشوة السكّرى يُقيم المهرجانات بقاعات مُدانَةْ
* * *
وبِديوان الأزمّةْ
يجلس النخّاسُ خلفَ الطاوِلَةْ
يصرف الأنظار عن جثمان أمّةًْ!
علّقوها فوق قضبان الدّخانْ
لا يبالي شبحُ الظلمةْ
أن يخفر ذِمّةْ
زمنُ العهر مُدانْ
آهِ من هذا الزمانْ!
* * *
عربداتُ الدّرب تَعوي
عربدات الليل بُحّتْ
والوجوهُ الشاحبة
عُلّقتْ فوق جدار الشّؤمِ
"ديكورَ" مَذَلَّةْ
داخل الحانات،
والنادلُ يستنكرُ شكلَهْ
والقناني تقرعُ الثّغرَ بثغرٍ
مِلؤها "الكُنياك" و"الوسكي"
وإرهاصات "ديسكو" صاخِبَةْ.
* * *
والنساء الكاسيات العاريات
- مائلات ومميلات -
يَقاذفن شباباً طائشاً
بالليلة الحمراء
في المُنتَديات
يا لهذا الزمن المنتنِ
قد جاوز إلحاحَ المُيوعَةْ!
* * *
وجنوح الطيش
في تجربة الجنس الفظيعةْ
يتسرّى بالبغايا العاهرات
فالمواخيرُ على أبوابها
يصطفُّ "طابور" البُغاةْ
والرجال النّكراتْ،
مجّت النظرةَ في أوجههم
عينُ الحياةْ
عارضات الجنس في سوق الليالي بدكاكين النّهار
رُحْنَ يرمين الشّباك
وهُناك
...................................!!!
بين شطّين:
صديدٌ.... و....زُحار
ثُم يُغرين بشعر مُستعار
كلَّ غِرٍّ زادُه الحُبُّ المشاع
والإباحيّين ممّن قتلتْهم
"أبقورية" عصرٍ; فيه ضاع
شرفُ الإنسان مهراقاً
على نُصْبِ المَصير!.
* * *
والدُخانُ المستطير
يملأ الآفاقَ...
في مشهد دنيانا الأخيرْ!؛
من عيون الناس ينساب...
من الآذان... من بين الشفاهْ
من جيوب الثّوب
من أكمامه...
من بين طيّات الثرى...
من تحت صنبور المياهْ!.
كل شيء غير مألوفٍ
يلُف الكونَ...
والأشياءَ...
والناسَ...
بأكفان الحياةْ
إن عصراً يُطلع الشمسَ من المغرب قُفلٌ فيه مفتاحُ الحِسابْ
وبه يُغلق باب التوبة اليوم فسحقاً..و...تبابْ!.
* * *
إن أركان البيوت...
وزواياها التي يقبع فيها العنكبوت..
تَشهد اليوم على أصحابها
ويودّ الموت لو أحجم عن.
.............................!
كيلا يموت
ميتةَ الدّجال
إذ ينسلّ من بين مسام الجلد
من تحت الأظافرْ.
فالشرار المتطايرْ
من كلاليب العذاب
يصهر الأحشاء.. والأذرع، يستلُّ المحاجرْ!.
يا لهول اللحظات العاصفةْ
والقلوب الواجفةْ
إذ يفرّ القلبُ من إحساسهِ
ويفرّ الصدرَ من أنفاسهِ
يومَها........
يا ربّ... يا ربّ أغِثنا
إننا جدُّ ضعاف!.
إننا جدّ ضعاف!.
فإذا حفّتْ بنا الرحمةُ يا ربّ. فإنّا لا نخاف.
دراسة وتحليل
يفتتح الشاعر (حكمت صالح) قصيدته بالحديث عن هموم تساؤلات لم يطلقها الصدر; فظلت حبيسة فيه; تنوء بحمل سؤال مدهش مثير توالى على مرّ السنين; وقد حُبس الآن وراء الشفتين، فأطبقتا صمتاً، وربما دل الصمت على تساؤل الشاعر، واتهمنا نظرته للحياة; فرأيناها سوداء، لكنه سرعان ما يستدرك; فيبشرنا بأن النصر قريب. ويرسم لنا علامة هذا النصر: "يفسحه; هي بين الإصبعين"... ثم يطلق سؤالاً كبيراً عن مستقبل الإنسان; يشدّنا إليه من خلال نداء أثير حبيب إلى النفس; فيه مودة... وحب... وصلة رحم: "يا أخي". وقبل أن يجيب عن التساؤل الأوّل يشفعه بسؤال آخر -لا يقلّ خطورة عن السؤال الأول- عن دنوّ الساعة; وعن معانيها الكبيرة. سؤالان كبيران عن معنيين كبيرين:
"أضمر الصّدر علامات
حنى كاهلها استفهام عجب
ملّ ثغرُ الدّهر طرحه
فحبست الأحرف الحيرى
وراء الشفتين.
قد جمعت الزّمن الآتي بفسحة
هي بين الإصبعين
يا أخي; لو يعلم الإنسان...
أو يُمْضي مع النجم مصيره.
وعن الساعة...؟
لو تنفرج الأستار...
لو تنفرج الأستار....
عن وجه معانيها الكبيرة".
إن الشاعر ينذرنا بدنوّ الساعة، ويلفت نظرنا مؤمنين لاستلهام معانيها; وعندما يستوي مجتمعنا على صراط مستقيم.
ويلبس الشاعر ثوب النذير; فيحذر المجتمع من الانهيار والسقوط ويُلزم الناس الحذر من الأرضية التي تنخر الصفوف والنفوس ممثّلة في مظاهر وحالات اجتماعية عدة; يدينها الشاعر إدانة واضحة، ويقف إزاءها مجابهاً رافضاً. ولكنه يفهم دوره بوعي لأمته ومجتمعه; فيزعم ابتداءً أن استجابة الناس لتحذيره لن تكون كبيرة. وهو في هذا لا يزعم زعماً مباشراً; ولكنه يوحيه إيحاءً جميلاً، متأثراً تأثيراً غير مباشر بأسلوب القرآن الكريم:
[اقتربت الساعة، وانشق القمر] (القمر: 1)
فهو يوحي بما يتبع هذه الآية من تكذيب الكفّار لانشقاق القمر: [وإن يروا آية يُعرضوا، ويقولوا سِحرٌ مُستَمِرّ. وكذّبوا، واتبعوا أهواءهم، وكلُّ أمرٍ مُستقر] (القمر: 2،3).
فعلى الرغم من أن الشاعر سيقدم لقومه الآية تلو الآية دليلاً عن نخر الأرضة كيانهم ومجتمعهم فإنه يتوقع منهم العزوف عن إنذاره; لأنهم سيقولون: "سحر مستمر":
"أيها الناس خذوا حذركمو;
إن في الأرض تدب الأرضه
حيث أخفى الله سر القمر المنشق عن أخدوده
فتعالى الأفق كيما يقبضه".
ويبدأ الشاعر بعرض ما دبت فيه الأرض من مظاهر لمجتمعه مسلسلاً ذلك بحلقات متصلة من تيه المجتمع وضياعه في هذه الأمة. فالأمة ضاعت: "ضاع مفتاح الأمانة" وتفشت السرقة المشفوعة بالاعتداء على الناس المسالمين: "وسطا السّراق فوق السور، ابتزوا عيون السّابلة"... وخان الموكّلون بدوائر الدولة أماناتهم، وتفشّت الرشوة بينهم: "فتفشّت في الأراشيف الخيانة/ برشاوى العُهر قد بيع عريس/ عرضوا قبل المزادات قرانه".
وعلى الرغم من مرارة وبشاعة ما حدث; فإن أحداً لم يحاول إيقاف هذا التردي، بل الأنكى من ذلك أنّ المستلب الحقّ -هو المجتمع- غارق في السكر... يقيم المهرجانات، ويسقي قاتله كؤوس الخمر في أروقة يدينها الشاعر، ويلفت النظر لإدانتها.
يقول الشاعر:
"ضاع مفتاح الأمانة
وسطا السّراق فوق السّور،
وابتزّوا عيون السابلة
فتفشت في الأراشيف الخيانة
برشاوى العهر قد بيع عريس...
عرضوا قبل المزادات قرانه
ثم شُلَّ الجسد العاري
وما زال قتيل الغدر...
يسقي قاتله
من دنان النشوة السّكرى
يقيم المهرجانات بقاعات مدانة"
وفي حلقة تالية من السلسلة يصوّر لنا (حكمت صالح) صورة نخّاس يصرف الأنظار عن موت الأمة التي عُلّقت فوق الدخان!. وهنا نقف لنسأل سؤالين:
الأول: من "النخّاس" المضلّل؟؟.. أهو الإعلام؟.. أهو الحاكم؟.. أهو المجتمع المنحرف؟.. أهو رمز لبغاة الفساد في الأرض؟... أم هو هؤلاء جميعاً; في هذا المكان أو ذاك; وفي تلك المدن القاصية أو الدانية؟. على كل حال - النخاس كائن، وممثّلوه في كل مكان، ويقرّر الشاعر إدانة زمن العهر صراحة; وإن لم تكن به حاجة إلى هذا التصريح; فمقاطع القصيدة جميعاً تنطق بهذه الإدانة; فضلاً عن عنوان القصيدة نفسه.
والسؤال الثاني: ما "قُضبان الدخان"؟. أهي الحشيش والأفيون.. والخمر - التي صارت عند فئة من فئات المجتمع علامة التحضر ومماشاة العصر ومجاراة الموديل؟. أم هي الوعود التي تطلقها الحكومات بالسعادة .. والانتصار... والتطّور.... والسير في ركاب الأمن والرفاه وما إلى ذلك من أوهام الوعود؟! هنا تبقى الإجابة في حنايا صدر (حكمت) ومن يسبر غور هذا الشاعر النذير.
"وبديوان الأزمّةْ
يجلس النّخاس خلف الطاولة
يصرف الأنظار عن جثمان أمة
علّقوها فوق قضبان الدّخان!
لا يبالي شبح الظلمة.. أن يخفر ذمة
زمن العهر مدان
آه من هذا الزمان"
ثم يتسلل الشاعر إلى الحانات والمواخير ودور اللهو من غير أن يكشفه عواء الليل وعربداته المبحوحة، فيقف أمام جدرانها يقرأ صور الوجوه الشاحبة المعلّقة على الحيطان; يؤطرها الذلّ المشؤوم والمهانة... صور من هذه؟... أهي صور البغايا والعاهرات والراقصات؟.. أم صور الممثّلين والممثّلات; والمطربين والمرطبات; والناخبين والناخبات، عُلّقت لتكون شواهد على زمن ذليل عاهر تعيشه الأمة؟.
ومن صور هؤلاء يقتنص الناقد الشاعر صورة "النادل" الذي فقد شكل إنسانيته; فأنكر -من ثمّ- نفسه. ومن إصغائه العميق ينقل لنا الشاعر أصوات زجاجات الخمر يقرع بعضها بعضاً -على اختلاف مصادرها الغربية- تخالطها موسيقى "الديسكو الغربية" الصاخبة:
"عربدات الدّرب تعوي
عربدات الليل بُحّت
والوجوه الشاحبة
عُلّقت فوق جدار الشّؤم "ديكور" مذلة
داخل الحانات، والنادل يستنكر شكله
والقناني تقرع الثّغر بثغر
ملؤها "الكنياك" و "الوسكي" وإرهاصات "ديسكو" صاخبة.
إن مواقع التردي في المجتمع ليست واحدة، فالشاعر يغادر الحانات; ليتسلل إلى موقع آخر... إلى المنتديات التي يفترض أنها أقيمت للثقافة والعلم والمُتع البريئة وتبادل الأفكار وتلاقح العقول ومناقشة الآراء، فيراها (حكمت صالح) صورة تطابق ما رآه من الحانات. فقد رأى نساءً "كاسيات.. عاريات.. مائلات.. ومميلات"، ورأى شباباً طائشاً يبادل تلك النساء الغواية والميوعة في الليلة الحمراء:
"والنساء الكاسيات العاريات
مائلات ومميلات.
يُقاذفن شباباً طائشاً بالليلة الحمراء في المنتديات"
ويعقّب الشاعر على هذا المقطع بعبارة وعظية مباشرة لا تغني مضمونه شيئاً، لكنها تفرغ انفعاله; وتكمل المقطع إكمالاً إيقاعياً:
يا لهذا الزمن المنتن
قد جاوز إلحاح الميوعة!
ويرى (حكمت صالح) بحكمة المؤمن أنّ تجربة الجنس في إطار الإباحية قد آلت إلى وباء تفشى في جوانب المجتمع; فيشير إلى البغايا.. والصبايا، والمواخير.. وطوابير الزناة، من رجال قد ماتت الحياة في أعينهم لأنهم سفحوا من وجوههم ماء الحياء. ويصور لنا الأمر وكأنّ الدنيا تعجُّ ببائعات الشهوة اللائي يتصدين للرجال ليل نهار عارضاً صورهم ببشاعة ومقت:
"وجنوح الطيش..
في تجربة الجنس الفظيعة
يتسَّرى بالبغايا العاهرات
فالمواخير على أبوابها...
يصطف "طابور" البُغاة.
والرجال النّكرات
مجّت النظرةَ في أوجههم.. عينُ الحياة
عارضاتُ الجنس في سوق الليالي.. بدكاكين النّهار
رحن يرمين الشّباك
وهناك
..........................!!!
بين شطين: صديدٌ.... و ...زُحار!
ثُم يغرين بِشَعر مُستعار
كل غِرّ; زادُه الحبُّ المشاع
والإباحيّين ممّن قتلتهم
"أبقورية" عصر; فيه ضاع..
شرف الإنسان مهراقاً على نصب المصير!.
مرة أخرى ينذر الشاعر بدنوّ الساعة; ويكنّي عنه بـ "مشهد دنيانا الأخير"; بعد أن توقّع شرّاً كثيراً قادماً كنّى عنه بـ"الدخان المستطير". فالشرُّ في ما نرى: "عيون الناس".. وفيما نسمع: "من الآذان".. وفيما نقول: "بين الشفاه".. وفيما نلبس من ثياب; وما ننفق من أموال من جيوب الثياب... وفما نزرع في الدنيا من عمل أو أفيون أو أعناب تعتصر خمراً. الشاعر هنا حزين.. غاضب; لأنه يرى الشرَّ يطلع من كلّ مكان، حتى "من تحت صنبور الماء". ويبلغ الحزن بالشاعر مبلغه; فتغطي عينيه سحابة سوداء قاتمة، فيرى الحياة قد ماتت; وسجيت في كفنها، فعاد الشروق غروباً، والقفل مفتاحاً; فاجتاحه ألم دفع به إلى أن يقفل باب التوبة استعداداً لقيام الساعة ويصعد به الغضب درجة أخرى; فيشتم هذا الوضع الاجتماعي المتردي: "فسحقاً وتباباً". إن الشاعر لم يغلق باب التوبة إلا زيادة في الإنذار; لينبهنا على الإسراع إليها قبل فوات الفرصة والأوان. فقد كاد الرحيل أن يدق أجراسه، فهلموا.. هلموا إلى التوبة:
"والدخان المستطير
يملأ الآفاق في مشهد دنيانا الأخير
من عيون الناس ينساب. من الآذان من بين الشفاه
من جيوب الثّوب..
من أكمامه...
من بين طيّات الثّرى..
من تحت صنبور المياه!.
كل شيء غير مألوف
يلُف الكون...
والأشياء...
والناس...
بأكفان الحياة
إن عصراً يُطلع الشمس من المغرب قُفل
فيه مفتاح الحساب
وبه يُغلق باب التوبة اليوم!
فسحقاً... و ....تباب".
ويحاول الشاعر إقامة الشهود على ذلك المجتمع المنخور المهزوز الذي أكلته الأرضه، فيشهد عليه البيوت.. والحجار... والعنكبوت. مجتمع يأنف من الموت.. من قبض أرواح شخوصه كيلا يموت:
"إن أركان البيوت
وزواياها التي يقبع فيها العنكبوت
تشهد اليوم على أصحابها
ويود الموت لو أحجم عن:
................................................!
كيلا يموت
ميتة الدّجال إذ يَنسلُّ من بين مسام الجلد... من تحت الأظافر.
ثم ينقل لنا صور عذاب يوم القيامة، متأثراً بآيات القرآن الكريم:
"يا لهول اللحظات العاصفة
والقلوب الواجفة
إذ يفرّ القلبُ من إحساسه
ويفرّ الصدرُ من أنفاسه"
ينتاب الشاعر الرعب والفزع من هول يوم القيامة ومن خشية يومها:
يومها... يا رب... يا رب أغثنا
إننا جدُّ ضعاف
إننا جد ضعاف"
هكذا يعلن المؤمن ضعفه البشري أمام خالقه. ولكن حذار أن يظن ظان أن المؤمن يخاف من غير ربّه; فيعلن ذلك (حكمت) بصراحة المؤمن أنه -إذا أيقن من رحمة الله- فإنه أبداً لا يخاف:
"فإذا حفت بنا الرحمة يا ربّ، فإنا لا نخاف"
الفن
يفتتح الشاعر (حكمت صالح) قصيدته "إدانة لزمن العهر" بفكرة إسلاميّة; نتعرف بها على قصيدته; ونستشفّ منها عاطفة القصيدة الحزينة.. المشحونة بالألم، وينذرنا بدنو الساعة. وفاتحة القصيدة أو "مطلعها" "أوّل ما يقرع السمع، وبه يُستدَلّ على ما عند (الشاعر) أول وهلة" (1). وقد كان الشاعر بارعاً في فاتحة قصيدته؛ وفي خاتمتها، فقد أقام صلة إسلامية بينهما من خلال حديثه عن دنوّ الساعة، وختمها بطلب الرحمة من عذاب يوم القيامة. يقول (ابن رشيق): "وخاتمة الكلام أبقى في السمع; وألصق بالنفْس; لقرب العهد بها، فإن حسُنتْ حسُن، وإن قُبحت قُبح. والأعمال بخواتيمها-كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم"(2).
وقصيدة (حكمت صالح) "إدانة لزمن العهر" واحدة من أطول ثلاث قصائد في ديوانه "حيّ على الفلاح".. "وطول القصيدة وقِصرها رهين بالمعاني... والأفكار.. والعواطف التي تنساق في القصيدة والألفاظ التي تضمّ تلك المعاني والأفكار والعواطف"(3). وقد تمكّن الشاعر من إقامة توازن فنيّ بين طول القصيدة وتجربته التي أفرغها فيها، وبرع في تبيان تجربته; مستثمراً قدرته على الموازنة بين الفكرة والعاطفة اللتين استقصى بهما جوانب موضوع القصيدة بتدفّق المعاني واستمرار التوتّر النابع من قوّة الانفعال.
وبُنيت هذه القصيدة على موضوع واحد -يتمثّل بالتدهور الاجتماعيّ والخلقيّ; الذي هو علامة من علامات الساعة - ويتناغم مع وحدة عضويّة- على الرغم من تلوّن عاطفة القصيدة بين الحزن والغضب... والألم... والتقزّز في بعض الأحيان - لكن هذا التلوّن كله ينطلق من موقف واحد للشاعر، استقاه من رؤية الإسلام لما يجب أن يكون عليه كلّ مجتمع في الأمّة في ظلِّ القيم الإيمانيّة.
واختزنت لغة الشاعر الكثير من الثقافة الإسلامية; وخاصّة تلك التي تتصل بقيام الساعة وعلامات دنوِّها وشروطها، ولغة الأدب عامّة "ليست هامدة كالحجر; وإنّما هي ذاتها من إبداع الإنسان; ولذلك فهي مشحونة (بالتراث) الثقافيّ لكل مجموعة لغويّة"(4).
ويميل أسلوب الشاعر في هذه القصيدة إلى التهكُّم والسخرية، لكنّه تهكُّم أليم، وسخريّة مريرة; لا يثيران الضحّك، بل يثيران الألم والحزن ممّا آل إليه أمر مجتمع من مجتمعات الأمّة التي أراد لهها الله أن تكون خير أمّة أخرجت للناس. ويبتعد (حكمت صالح) عن التقريريّة والمباشرة إلى أسلوب تعبيري "موح"; لا يعتمد الزخرفة اللفظيّة المجردة والصياغات الخياليّة البعيدة عن الواقع الإسلاميّ. ذلك أنّ الجمال -كما يراه الدكتور عماد الدين خليل- يرتبط بالقيم الإسلامية "الجمال في الإسلام جمال (قِيَميّ); فما يعود إلى قيم إيجابيّة تبشيراً... وتحقيقاً... وتعزيزاً - هو الجمال المطلوب. وما يقود إلى قيم سلبيّة هو الجمال المخادع المرفوض"(5).
ويعمد الشاعر إلى التكرار; ليحقّق لقصيدته إيقاعاً نغمياً متناسقاً، فضلاً عن توكيد ما يريد توكيده عن طريق التكرار. فهو يكرر ألفاظاً بعينها، قد تختلف في عدد الحروف وترتيبها.. أو تتطابق; فيحصل الجناس بين تلك الألفاظ. فمن التكرار الذي أشاعة في قصيدته قوله: "عربدات الدرب.. عربدات الليل"، وقوله; "تقرع الثغر بثغر"، و"مائلات ومميلات"، وكرّر حرف الجرّ "مِن" سبع مرات متتاليات ; "من عيون الناس.. من الآذان.. من الشفاه... من جيوب الثوب.. من أكمامه.. من طيات الثرى.. من تحت صنبور المياه". وقد يكرّر إيقاعاً بعينه; نحو قوله: "إذ يفرّ القلب من إحساسه، ويفرّ الصدر من أنفاسه" قد يكرّر جملة بعينها نحو قوله: "إنّنا جدُّ ضعاف، إنّنا جدُّ ضعاف".
ويبثّ الشاعر في قصيدته صوراً ذهنيّة; يستثمر لتشكيلها عدداً من الصور الحسية التي تدعمها... وتغنيها.. وتزيدها جمالاً وإيحاءً. وكثرة الصور الذهنيّة دليل يؤكد عمق تجربة الشاعر وطول مكابداته ومعاناته للمشكلات الاجتماعية التي احتوتها قصيدته; ممّا أتاح لشعره التمكّن من التغلغل إلى أعماق النفس الإنسانيّة عند المتلقّي; محدثاً في هذه النفس الإقناع والإمتاع، وكثيراً ما تتداخل الاستعارات والكنايات في مقاطع قصيدته من أوّلها إلى آخرها تداخلاً يحقق الجذب والدهشة; فهو يكنّي عن الخراب بالأرضه.. وعن الإرهاب الوحشي بابتزاز عيون السابلة.. وعن دوائر الدولة بالأراشيف.. وعن العفّة والبراءة بالعريس.. وعن الخائن بالنخّاس.. وعن التضليل بقضبان الدخان.. وعن الخيانة بشبح الظلمة.. وعن خلاعة النساء بالكاسيات العاريات؛ والمائلات المميلات.. وعن سقوط القيمة الاجتماعيّة بالرجال النكرات.. وعن العهر المنتشر في سوق الليالي بدكاكين النهار.. وعن سوائل الجنس بشطين من صديد وزحار، ومن خلال الكناية الأخيرة يثير تقزّزنا ومقتنا ضدّ عمل طبيعيّ; لأنه جاء في إطار غير إنساني وغير مشروع. وتتوالى كناياته، فيكنّي عن الشرّ بالدخان المستطير.. وعن الوهن بالعنكبوت.. وعن الألم والخوف بفرار القلب من إحساسه وفرار الصدر من أنفاسه.
أمّا الاستعارات فإنها -وإن كانت دون الكنايات كثرةّ وعدداً- لكنها لا تقلُّ عنها جمالاً إن لم تكد تتفوّق عليها، فهي أبعد في ميدان الإيمان وأكثر إمتاعاً في البحث عن علاقات الشبه وضروب التشبيه، بيد أنهما تشتركان في إمتاع المتلقّي; إذ يمارس ذكاءه وخياله في استكناه الجمال الذي تحقّقانه في أثناء أدائهما للمعاني والمضامين. فقد استعار الشاعر الثغر من الإنسان للدهر: "ملَّ ثغر الدهر".. والوجه من الإنسان أيضاً للساعة: "لو تنفرج الأستار عن وجه معانيها (الساعة) الكبيرة" واستعار التعالي من الإنسان للأفق: "فتعالى الأفق كيما يقبضه".. والمفتاح من الباب للأمانة: "ضاع مفتاح الأمانة".. والعواء من الذئاب للدرب: "عربدات الدرب تعوي".
إن قصيدة "إدانة لزمن العهر" في نهاية المطاف، بل ديوان (حكمت صالح) "حيّ على الفلاح" يفصح عن شاعر أصيل تمثل عمق الصلة بين الإسلام والإنسان; لتكوين خير أمّة أخرجت للناس..أفلحنا الله وإيّاه، هو في شعره; ونحن في دراستنا.... و... حيّ على الفلاح.
الهوامش:
(1) العمدة، ابن رشيق 1/218.
(2) المصدر نفسه 1/217.
(3) الشعر الإسلاميّ في عصر صدر الإسلام. دراسة فكرية فنيّة، د. علي كما الدين، ص287.
(4) نظرية الأدب، ويلك ص22.
(5) مدخل إلى نظرية الأدب الإسلاميّ، الدكتور عماد الدين خليل، ص60.