دراسات في البيئة الجاهلية والشعر الجاهلي
عنترة ... والعنترية
أحمد الجدع
عنترة بن شداد العبسي ، الشاعر العربي الجاهلي ، وأحد فرسان العرب وشجعانهم ، بل أعتبره العرب مثال الشجاعة والفروسية حتى أدخلوه في باب الأساطير ، وصنعوا له ملحمة يقرؤونها في مجالسهم ونواديهم ومقاهيهم ثم أخذوا يتغنون بها في إذاعاتهم وفضائياتهم .
عنترة ، الشاعر التاريخي والبطل الأسطوري كيف جاء إلى هذه الدنيا؟
إنه نتاج رجل من بني عبس وامرأة حبشية من عبيد بني عبس .
لم يختلف المؤرخون على نسبته إلى قبيلة عبس ، كما لم يختلفوا على أن أمه امرأة حبشية عبدة اسمها زبيبة ، ولكنهم اختلفوا في اسم أبيه على أقوال أشهرها أنه شداد بن عمرو العبسي .
وسيرة عنترة وشعره ذائع بين الناس ، ولكن ما معنى عنترة؟ ولماذا سماه أبوه بهذا الاسم ، وهو اسم مبتكر لم يسم به عربي قبله ، والذين سموا بهذا الاسم إنما كان أخذهم به إعجابا بعنترة العبسي ، وهم حين سموا أبناءهم به لم يلتفتوا إلى معناه اللغوي وإنما كان التفاتهم إلى عنترة الشجاع البطل المقدام ...عنترة بني عبس.
إذا رجعنا إلى معاجم اللغة نستفتيها في معنى عنترة فإننا نجد ما يلي:
يقول لسان العرب: العَنْتر والعُنْتر والعنترة ، كله الذباب ، وقيل هو الذباب الأزرق أو الأخضر .
وقال أيضا : هو الذباب الأزرق الكبير شديد الأذى .
أقول : لم يتعرض أحد من الباحثين ، فيما أعلم ، للسبب الذي سمى من أجله شداد العبسي و ليده من زبيبة الحبشية بهذا الاسم الذي يعني : الذباب ، بل الذباب الأزرق ذو الأذى الشديد.
أريد أنا أن أبحث في هذا الأمر ويطيب لي أن أضع القارئ في الصورة التالية:
كانت مضارب البدو ، ومنهم بنو عبس ، تقسم قسمين ، قسم للسادة الأحرار وآخر للعبيد المماليك، وكان من حق السادة أن يدعوا إماءهم من العبيد لأخبيتهم ويقضوا منهن وطرهم، ثم تعود هذه الإماء إلى مضاربها البائسة المهملة التي يقومون فيها بخدمة السادة من غسل وطبخ ورعاية للحيوانات، فتكثر حولها القاذورات التي يقبل عليها الذباب ويتكاثر فيها وينتشر.
وقضى شداد العبسي وطراً من زبيبة، فحملت منه، وعندما أتمت حملها ولدت طفلاً ذكراً، استدعي شداد لرؤيته وتسميته ، فلما دخل خباء زبيبة رأى هذا الوليد الأسود وقد تكاثر حوله الذباب الأزرق، فسماه به:عنترة .
ونشأ عنترة عند أمه، عبدًا من عبيد شداد، يكتنفه في مضرب أمه والعبيد من حوله أسراب الذباب تطن في أذنه وتؤذيه في بدنه !
ولهذا ألف عنترة الذباب وعرفه، ويغلب على ظني أن عنترة كان يعرف أن اسمه يمت بصلة إلى هذا الذباب الذي يحيط به ويعيش معه، فكان لهذا السبب يحاول أن يتعمق في فهم الحشرة التي تسمى باسمها وعاش في جوها.
وشب عنترة شباباً لافتاً ، كان طويل القامة قوي البنية، يقوم على خدمة سيده شداد قياماً لا يستطيع أحد غيره أن يقومه، ثم إنه فوق ذلك أوتي موهبة الشعر، يقول الأبيات ثم المقطعات فالقصائد حتى قال المطولة التي أضافها علماء الشعر ونقاده إلى منظومة المعلقات،أشهر وأجمل قصائد الشعر العربي الجاهلي .
أنشأ عنترة معلقته بعد أن أحكمته التجارب وعرف الحياة شرها وشرها، فهو عبد لا يرى من الحياة إلا جانبها الأسود الذي زاده سواداً جلده الأسود الذي لا يفارقه وهذه الأم البائسة التي لا تعرف من الحياة سوى خدمة السادة والخنوع أمامهم كاسفة ذليلة.
وطار ذكر عنترة في الآفاق ، شاعراً فارساً شجاعاً، واضطرت شجاعته وشهرته وشاعريته شداداً أن يعترف بأبوته ويضمه إلى نسبه.
ولست أدري لماذا كان عنترة حريصاً على أن يعترف به ابن شداد، والمنطق يقول أن ابن شداد هو الذي كان عليه أن يحرص على أن يقبل به عنترة والداً، فلولا عنترة لم يذكر التاريخ شداداً ولا ابنه عمرو!
ولكن للمجتمع عاداته وتقاليده... وله سطوته القاهرة!
ومعلقة عنترة تضم بين أبياتها تجارب عنترة الحيايتية وخبرته بها ، ومن هذه التجارب والخبرات :معرفته بالذباب معرفة شاملة ، فقد وصف الذباب وصوته وحركاته وصفًا لم يسبقه إليه أحد ، ولم يستطع أن يأتي بمثله شاعر من بعده ، قال وهو يصف روضة من رياض بني عبس :
فترى الذباب بها يغني وحده |
|
هزجاً كفعل الشارب المترنم |
ولتسهيل فهم الشطر الثاني من البيت الثاني فإنه يقرأ هكذا :
فعل المكب الأجذم على الزناد
فالأجذم صفة للرجل المكب على الزناد، و الأجذم هو من قطعت كفاه! ويصف النقاد هذا الوصف بالعقيم، والعقيم هو الذي لا يلد، بمعنى أن مثل هذا المعنى لا يستطيع أن يأتي بمثله أحد .
لماذا كان وصف عنترة للذباب عقيما؟
لأنه عاش في بيئة الذباب فعرف عنه ما لم يعرفه غيره فأجاد وصفه، وأنا أذكر القارئ بأن عنترة سمي بهذا الاسم الذي يعني الذباب الأزرق لأنه عاش معه!
$ $ $
أصبح عنترة أسطورة الشجاعة، حتى انتقل معنى اسمه من الذباب الأزرق شديد الأذى إلى معنى الشجاعة والإقدام، قال في اللسان: العنتر : الشجاع ، والعنترة الشجاعة.
وأنا أجزم أن هذا المعنى جاء إلى هذه الكلمة مشتقا من شجاعة عنترة، وأن عنترة لم يسم بهذا الاسم لشجاعته، وأين لابن شداد أو زبيبة أن يعلما أن هذا الوليد سيكون في مقبل أيامه مثالا للشجاعة حتى يسموه بها .
وعندما انتقلت شجاعة عنترة إلى حيز الأسطورة ، وعندما نسج القصاص الذين صاغوا ملحمة عنترة القصص الأسطورية عن شجاعته ،وأسرفوا في ذلك وتبين الناس هذا الإسراف حتى سخروا منه، ووصفوا المبالغة في الشجاعة التي تتجاوز الحدود بالعنترية ... وأضافوا إليها قولهم : العنترية الفارغة ، أي التي فقدت محتواها الواقعي !
وماذا عن العنترية اليوم؟
اليوم أشد غرابة من الأمس، فقد ظهر فينا اليوم من أدعى الشجاعة وهو منها مجرد، وأدعى البطولة وهو منها عراء ، وادَّعى الإقدام وهو أول من يفر عند الاحتدام .
قال مدع متفيهق بعد أن تحطمت طائرته يصف طائرات العدو: ذباب العدو يتساقط يا أخي!
ألا يذكرنا بالعنترية ، بل بالعنترية الفارغة ، وصف طائرات العدو المنتصرة بأنها ذباب !
وادعاء البطولة عند الهزيمة وتمجيد المنهزمين صفة من صفات هذا العصر المنكوب برجاله،وقد استفز هذا الموقف أو هذه المواقف المتكررة في عالم العرب اليوم الشعراء المبدعين ، فسخروا منها وأنكروها، وهذا الشاعر المبدع نزار قباني يقول:
إذا خسرنا الحرب لا غرابة
لأننا ندخلها
بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابة
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة!
ومرة أخرى تقترن العنترية بالذباب .
إذن فإن عنترة تعني الذباب الأزرق شديد الأذى ، وقد اقترنت العنترية الساخرة في أذهان الأدباء والشعراء بالذباب .
الذباب الذي سمي به عنترة مولوداً ، وأجاد وصفه شاعراً ، وانتقل بمعناه إلى البطولة، ثم عاد به الساخرون، إلى أصوله.