خاتِمَةُ التَّعْليقاتِ

5

د. محمد جمال صقر

[email protected]

-      بلغنا أن لكم في تدريب أبنائكم على القراءة ، منهجا خاصا ؛ فهلّا تكرمتم ببيانه !

سؤال سُئِلْتُه صباح الأحد 17/6/2001م ، على منصة مسرح كلية دبي الطبية ، بعقب محاضرتي " اللُّغَةُ الْعَرَبيَّةُ اعْتِقادٌ وَحَياةٌ " - مكتوبا بخط النسخ الجميل ؛ فأثارني إلى ذكريات حميمة حبيبة !

ولله عندي الآن خمس نعم لا ينقضي شكرُها ، ولا التمتعُ بذكرها مُرَتَّبَةً : ( ريم ، بَراء ، رِهام ، سُرى ، فُرات ) ، ثلاث بنات ( ريم ، رِهام ، سُرى ) ، وابنان اثنان ( بَراء ، فُرات ) - ولا الولعُ بسيرتها !

لم تكن الكتب ممتنعة عليهم بحصن حصين ، بل مرتبة على الجدران من تحت إلى فوق في رفوفها المفتوحة ، و بينها أجلس دائما على مكتبي قارئا أو كاتبا ، حتى كان من لوازم رسائلي عندئذ ، إضافة " بَيْنَ الْكُتُبِ " ، إلى التاريخ - فكانت مأوى أجسامهم وأرواحهم ، يَحْبونَ إليها صغارا ، ويمسكون بكعوب ما يستطيعون من كتب أقرب الرفوف إليهم ، ويَجُرّونها ؛ فَأُسْرِعُ إلى وضعها بأيديهم في أماكنها ، ونهيهم عن جَرِّها ، حتى تعلموا أن يعيشوا بينها حياتهم كلها جدها وهزلها ، من غير أن يعبثوا بها .

ثم لما اطمأننت إلى مجالستهم أَتَحْتُ لهم بعض الكتب والمجلات المصورة ، وساعدتهم على تقليب صفحاتها ، حتى استطاعوا ذلك وحدهم ؛ فكانوا يمشون إليها مُتَعَثِّرينَ ، يجذبونها من على رفوفها ، إلى حيث يُقَلِّبونها وكأنهم يقرؤونها ، مثلما أُقَلِّب وأقرأ !

ثم لما قدروا على الكلام رَتَّبْتُ لهم في كراسات صغيرة ، نصوصا كاملة من القرآن والحديث والشعر ، سورا وأحاديث وقصائد ، كنت أُحفِّظهم إياها وأَسْمَعُها منهم بين يَدَيْ مقدمة لازمة :

" بِسْمِ اللّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلّهِ ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلى رَسولِ اللّهِ ، وَبَعْدُ ؛ فَأَنَا أَحْفَظُ الْقُرْآنَ الْكَريمَ وَالْحَديثَ الشَّريفَ وَالشِّعْرَ النَّفيسَ ؛ فَأَنَا عالِمَةُ النّاسِ وَأَديبَتُهُمُ الْمُقَدَّمَةُ - أَوْ عالِمُ النّاسِ وَأَديبُهُمُ الْمُقَدَّمُ - إِنْ شاءَ اللّهُ ، تَعالى " !

ثم لما قدروا على القراءة رَتَّبْتُ لهم مجموعات الكتب المناسبة مُتَصاعِدَةً ، من كتب العريان ، وبرانق ، والإبراشي ، وابن جَنّات ، و" كل شيء عن " المترجَمة إلى العربية - إلى كتب الندوي ، ورأفت الباشا ، وخالد محمد خالد - ثم إلى كتب عبد الحليم محمود ، والغزالي ، والبوطي - ثم إلى كتب " مكتبة الأسرة " ، و" هل تعلم " ، و" موسوعة العلوم والتكنولوجيا " - ثم إلى كتب المازني ، والعقاد ، ومحمود محمد شاكر ، ومحمد جمال صقر - ! - ثم إلى كتب شيكسبير الإنجليزية الخالصة ، وكتب العيسى وجويدة والشرقاوي المترجمة إلى الإنجليزية - ثم كتب معاجم العربية ( الوجيز ، والوسيط ، ولسان العرب ) ، والإنجليزية ( المورد ) - ثم دلتهم الكتب بعضها على بعض ! بل كثيرا ما صحبوني إلى المكتبات ولا سيما في معرض القاهرة الدولي ، فاختاروها !

وكنت أغريهم بتلوين صور الكتب غير الملونة :

-      اللّي يِخَلَّصْ كِتابْ يِلَوِّنُو !

سعيدا بذكاء أصحاب هذه الكتب ، الذين مكنوني من ذلك ، بطبع صورها مفرغة غير ملونة !

ثم علمتهم تكرار قراءة الكتب ، والتعليق عليها من أواخرها ، برقم كل قراءة ، وتاريخها ، مع توقيعاتهم :

-  تمت الأولى - أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة ... - مساء السبت (...) هـ= (...) م ، ريم ، براء ، رهام ، سرى .

فكانوا يمضون في القراءة اللاحقة أسرع مما مضوا في السابقة ، ويستفيدون منها أكثر ، ويسألون فيها أقل ، فيفرحون بها أشد ، ويتنافسون :

-      براء ، انت في المره الكام ؟

-      التانيه .

-      أنا في الرابعه !

-      رهام ، انت في المره الكام ؟

-      الأولى .

-      أنا في التانيه !

كانت ريم أسرع من براء ، ثم صار براء أسرع منها ، وكانت سرى أسرع من رهام ، ثم صارت رهام أسرع منها ، ولا يدومون على حال ! ولكنهم إذا راجعوا الآن تلك الكتب ، وعثروا على تعليقاتهم ، بَشّوا لها كلهم جميعا ، بَشاشَتَهم للأحباب الزائرين !

ثم صرت أطالبهم بالتعبير في أسطر قليلة ، عما فهموه من الكتاب - ثم بالتعبير عما عاشوه في بعض المناسبات ، وأعلق لهم على هذا وذاك ، وأكافئهم بما يحبون ، حتى تقدست لديهم القراءة والكتابة !

ثم غرست لهم القراءة الحرة ، في برنامج أعمالهم اليومية :

1      الصلاة .

2      ورد القرآن الكريم .

3      مذاكرة دروس اليوم المدرسية .

4      إنجاز واجبات اليوم المدرسية .

5      مذاكرة مادة مدرسية كاملة .

6      ورد القراءة الحرة .

7      معالجة عمل الحاسوب .

8      مشاهدة مادة مُتَلْفَزة .

ولم يكونوا أنشط منهم إذا جالسوني ، وكنتُ من إخوان العزلة ؛ فكنت أصبر مضطرا ، حتى رأيت أن أحمل نفسي على التفكير بينهم في أَعْوَصِ أبحاثي ؛ ففُرِقَ لي فيه عما لم يكن في البال !

ولقد انفتح لهم بالقراءة الحرة ، باب الأسئلة الكثيرة المستمرة ، التي كانت تقطع عليَّ تفكيري ؛ فتستفزني إلى إسكاتهم حتى أفرغ ، أو إلى تعليمهم كيف يجيبونها هم وحدهم - مثلما تستفزني إلى إجابتها :

-      بابا !

-      نعم !

-      إيه الكلمة دي ؟

-      دي " أَقْبَلَ " .

-      معناها إيه ؟

-      معناها " جِهْ " .

-      ودي ؟

-      دي " قَدِمَ " .

-      معناها إيه ؟

-      معناها " جِهْ " .

-      " قَدِمَ " زي " أَقْبَلَ " !

-      مش زيها قوي ، لكن عامله زيها !

-      بابا !

-      يا نعم !

-      يعني إيه " قَدِمَ صَديقَه عَلى نَفْسِه " ؟

-      " قَدَّمَ صَديقَه عَلى نَفْسِه " !

-      لا ، " قَدِمَ صَديقَه عَلى نَفْسِه " !

-      وَرّيني !

-      أَهِهْ !

-      لا ، الكسرة اللي تحت الدال دي غلط !

-      وعرفت إزاي من غير ما تشوف ؟

-      عشان اتعلمت قبلكو ! وكل ما تقروا تتعلموا ، وتبقوا زيي وأحسن مني كمان !

ثم كبروا ، وكبرت أسئلتهم ، وصعبت ، حتى أشكلت أحيانا ؛ فلم أكن أَسْتَحْيي من إجابة مُحْرِجِها دينيةً أو سياسيةً أو جنسيةً ، ولا أدعي علم ما لا أعلم منها ، بل أتمتع بإنكار علمه ، ليعلموا أن العلم لمن اجتهد في سبيل تحصيله ، لا لمن أوتي مقام الراعي ! وأتمتع بتعريف العلماء لهم ، وتقديمهم على نفسي ، ليعلموا أن فوق كل ذي علم عليمًا بَذَلَ في طلبه أعظم مما بَذَل غيره ، ينبغي أن يؤتى دون غيره ، ويستفتى ، ويعتمد رأيه وحده .

ولقد ميزتهم قراءاتهم منذ أَوَّليَّتِهِمْ ، حتى لاحظها زملاؤهم :

-      إنت عارفه - يا ريم - ان الكتب اللي بتقريها بتأثر عليك !

-      إزاي يعني ؟

-      بتخليك تفكري في حاجات غريبه !

وأساتذتهم :

-      تعال - يا براء - قول لسعادة الموجه انت قريت لمين !

-      قريت للمازني ، والعقاد ، ... .

-      يا سلام !

وجرأهم منذ أَوَّليَّتِهِمْ كذلك ، مقام القراءة الذي قمنا فيه جميعا معا :

-      إيه ده ، يا رهام !

-      إيه فيه إيه ؟

-      إنت بتكلمي الأستاذ كده إزاي !

-      إيه ، زي ما بكلم بابا .