التحولات الدلالية
6
د. محمد دخيسي - وجدة المغرب
-3: الصورة الشعرية : بيت الجمالية والانزياح عن المألوف
جمالية اللغة الشعرية تندرج في بلاغة النص، وكونها تحافظ على البناء العام للمضمون من جهة وتحاول خرق المألوف من ناحية ثانية، فهي تمارس نوعا من السلطة على المبدع.
وللغة كذلك أثر في المتلقي من جانب مشاركته الإيجابية في تفعيل النص وتشكيل الرؤية الجمالية له. قد يكون من الصور ما يتماشى والأثر المقبول سالفا، كأن يتعامل المبدع مع صور تقليدية دون محاولة التجديد. لكن ما فائدة هذا الإنجاز إن كان القصد من النص الإبداعي استمالة المتلقي دغدغة عواطفه النائمة؟!..
سؤال كهذا لا يمكن أن نتقيد به بعيدا عن التجليات النصية. والنصوص التي سنثبتها في الفصل اللاحق تنبئ بالكثير من هذه الصور غير المقيدة بالمألوف. والراجح أن الصورة الشعرية تعبير فضفاض وتعريفه أثرى البحث العلمي في المتون العربية والغربية.
إن الجاحظ حين التفت إلى ضرورة صياغة الشعر صياغة تصويرية مبنية على النسج الجديد، لم يكن أمامه إلا اعتبار المعاني متاحة لكل باحث عنها دون عناء. يقول:" المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من التصوير." [1]
إن هذا التحديد وإن كان يحمل من التجديد ما يجعل المتتبع يفرز الدافع وراء استثمار الصور البيانية في النص الإبداعي، إلا أنه لم يُولِ الجانب الدلالي / المعاني بعده الموضوعي.
وكونه لم يستطع أن يغير من أصول البلاغة أكثر مما هو متعارف عليه، فقد بقي الإيمان الكلي أن المعاني مستساغة ومطلوبة لذاتها، في حين صارت ذات وظيفة جمالية والقصد من ورائها إثبات القدرة على تخطي المألوف والانزياح عنه.
مع ذلك استطاع عبد القاهر الجرجاني أن ينتشل صفة الاستعارة من حيزها الضيق إلى مجال أوسع، باعتبار الجمال يبدأ حين تختفي الدلالة في التشبيه،" اعلم أن من شأن الاستعارة أنك كلما زدت إرادتك التشبيه إخفاء، ازدادت الاستعارة حسنا، حتى إنك تراها أغرب ما تكون إذا كان الكلام قد ألف تأليفا، إن أردت أن تفصح فيه بالتشبيه، خرجت إلى شيء تعافه النفس/ يلفظه السمع." [2]
إن علاقة المتكلم: المبدع، والمستمع: المتلقي، تحكمها استراتيجية خاصة؛ لا تنفك أن تكون هي المحققة للتفاعل والانسجام. لكن حين تنجلي هذه العلاقة يتورط الاثنان في متاهة التضليل. قد يكون الأصل في الكلام / القول الشعري هو التضليل على اعتبار القصيدة رؤيا؛ والرؤيا غالبا ما يشوبها الغموض، لكن الشاعر لابد أن يحكم سلطته الداخلية ليبني صوره الشعرية.
والصورة تبقى دائما ذلك المتخيل المرتبط بالقصد والجمالية. يقول فراسوا مورو في كتابه (البلاغة: المدخل لدراسة الصور البيانية):" إن كلمة صورة Image هي واحدة من الكلمات التي ينبغي أن يستعملها عالم الأسلوب بحذر وضبط دقيقين، إذ إنها غامضة وغير دقيقة في نفس الآن، غامضة لكونها تسمح باستعمالها بمعنى مبهم جدا وواسع جدا، وذلك بالنظر إلى هذا الاستعمال من منظور أسلوبي خاص، وغير دقيقة لأن استعمالها، ولو في مجال البلاغة المحصور، عائم وغير محدد بدقة." [3]
أتينا بهذا النص الحديث للتعبير عن رأينا فيما يخص الصورة الشعرية، ذلك أن المبدع يتعامل معها بحذر شديد فيتجنب في غالب الأحيان ما هو بعيد عن الدلالة العقلية كي يبرز قدرته على مماثلة الثابت، دون اللجوء إلى ابتداع الجديد / المتحول.
هذا على الأقل من منظور تقليدي، لكنه يختلف مع الشاعر الذي يستطيع مغالطة الواقع وتحويل النظرة العادية إلى صيغة مماثلة للعادي، ويصير بذلك غير المألوف مألوفا، وغير العادي عاديا. بمعنى أن المبدع بتحويلاته المتكررة في إبداعاته يحول النظر إليه من طرف المحلل والمحلل الأسلوبي فينتج المعاني الجديدة التي يستسيغها الكل وتصير في أفق التقبل.
كما أن الصورة الشعرية يتوخى من ورائها تكسير النمطية قصدا، وتحقيق الجمالية فعلا. وفي هذا الإطار نستحضر قيمة الاستعارة ثانية، وهي تحقق الدلالات البعيدة وبعيدا على التعقيب؛ باعتبارها تحقق التفاعل الدلالي، وتنشئ العلاقة الرسمية بين المرسِل والمتلقي.
حدد كل من جون لايكوف ومارك جونسن مبادئ الاستعارة [4] باعتبار أن النظرية الدلالية سبيل لولوج المداخل المعجمية [5]، واستعمال الاستعارة يتبنى تشكيل الخطاب الشعري ، وتوضيح التجربة الشعرية [6] التي يفرزها النص الشعري خاصة.
ولا تحضر صيغة الإثبات هذه إلا حين نلجأ إلى الاعتراف الضمني لهذا التحديد. يقول المؤلفان في كتابهما ( الاستعارات التي نحيا بها) :" ما نستخلصه من هذا هو أن لواضعي القواميس والمختصين في المعنى هموما تختلف عن همومنا، فنحن نهتم أساسا بالطريقة التي يفهم بها الناس تجاربهم، وننظر إلى اللغة باعتبارها مصدرا للمعطيات التي يمكن أن تقود إلى مبادئ عامة بصدد الفهم، والمبادئ العامة تستلزم أنسِقةً كاملة من التصورات وليس كلمات أو تصورات فردية. وقد وجدنا أن لهذه االمبادئ في الغالب طبيعة استعارية، وتقتضي فهم نوع من التجربة من خلال نوع آخر." [7]
إن الجمالية التي تنتج من التفاعل الحاصل بين النص - محمولا دلاليا- والمتلقي حاملا للدلالة الثانية، أي منتج الدلالة من الشيء البارز أمامه، لا يكتنفه الغموض حين يكون على علم بهذه الأسس التي تنبني عليها الخصوصيات الشعرية. والمتتبع لنسقية النص الشعري ، سواء عند الشاعر نفسه، أم لسيرورة اتجاهٍ شعري معين ، أم لمجموعة متنوعة من الشعراء، يستطيع أن يتحدث بيسر عن سمات الصور. ولأن الحديث عن الصياغة الفنية هي من سمات الخصوصية الفنية التي يلجأ إليها المبدع لتحقيق الفردانية في التعبير [8]. ثم إن التصوير البلاغي المضبوط يلزم الشاعر التنبه إلى الخصوصية الفنية التي تميزه عن غيره.
هذا من جانب التميز الذي يوفر أكبر حظ للشاعر / المبدع تحقيق الجمالية، ويمكن أن نضيف عنصر الحداثة في الشعر التي تتوخى المخالفة للكائن، وتنزيل الإبداع منزلة التغيير، وباعتباره مفهوما إجرائيا لتثبيت المواقف والآراء.
إن الاستعارة تضع حدا بين عنصرين ذي أهمية:
· مضمون التعبير في إطار السياق الذي يتشكل منه النص، ذلك أن الشاعر يتخطى المضمون العادي إلى تعبير متحول عن المألوف.
· مضمون التعبير في السياق الحرفي، وهنا نكون أمام أولوية المعجم في تحقيق المعنى. كما لا يغيب على المتلقي كون الاستعارات غالبا ما تمتح من التشبيه أسسه الفنية، ويبقى للأسلوب المبتكر سمة التحول من المعنى الاعتيادي إلى المعنى المتحوَّل.
ويمكن أن نستحضر سمات المعاجم العربية التي لم تكن تتعدى في الغالب استحضار مفردات اللغة العربية غريبها ومألوفها دون اللجوء إلى اللغة الاجتماعية التي تتواتر بين الشعوب وتتحول عبر العصور.
إن ما اصطلح عليه عبد القادر الفاسي الفهري (المعجم الذهني ) يقترب من هذا المفهوم. يقول:" وإذا كان موضوع البحث في المعجم هو الملكة المعجمية Lexical competence)) لمتكلم لغة معينة، فإن المقصود بالمعجم هنا هو المعجم الذهني Mental lexical)) الذي نفترض أنه يدخل ضمن تحديد قدرة المتكلم اللغوية أو ملكته، لا الصناعة القاموسية أو المؤلف الذي يضعه الواصف لرصد هذه القدرة الباطنية، أو على الأصح جزء من هذه القدرة. فكل متكلم للغة يتكلمها بمعجم ذهني محدد ومضبوط، وهو لا يستعمل بالضرورة قاموسا للتوصل إلى معرفة واعية ( وملقَّنة) لهذه اللغة. فالتفريق بين الملكة أو الجهاز الذهني والآلة الواصفة لهذا الجهاز الباطني أمر ضروري." [9]
هذه الخاصية ليست من صلب اللغة الملقَّنة فحسب [10]، لكن الأمر حين يصل إلى الخطاب الشعري نصبح أمام تجاوزات للمعجم وخصوصياته.
إن هذا الوعي النظري الذي انتقلنا فيه مباشرة من الحديث عن الاستعارة إلى دورها في تشكيل النص الشعري، لا يخرج عن مضمار بحثنا، بل بالعكس من ذلك يوطد العلاقة القائمة بين السمة الدلالية للنص التحول الذي يمكن أن يصب في إحدى تعبيراته. لذلك كان لخاصية الاستعارة ( وهي نموذج للتشبيه والكناية والمجاز والرمز) دور في تكوين شمولية الخطاب الشعري، ويتحقق من خلاله الأسس التي يُراد تكونها في ذهن المبدع.
إلى جانب الجمالية التي يحققها التحول الدلالي في النص الشعري، نجد من يبتدع صفة الالتذاذ في الإبداع جراء هذه الانزياحات عن المألوف، ويتخذ من المفهوم المتجاِوز صفة التحقق الكلي لإرادته:" مرحى للمبدع في الشعر والقصة ! إنه يلتذ بما طاب له الالتذاذ بالصور ولذته وقوف، تذيب ويذوب فيها، لذة العالِم لا تذيب ولا تطول، والظرف لا يسمح بالتوقف، اللذة هنا تحد. قدرة على البدء كل مرة. السنون المقَضَّاة في البحث والتنقيب تختزل في حبة. والعالم يولد كل مرة جديدا.العالم دائما أول." [11]
هكذا يزول الإبهام عن صورة الهدف الإجرائي من النص الشعري، لا يلامَس فيه المضمون إلا باختيار تجلياته في الشكل المتوخى. واختيار إحدى المحسنات البلاغية يضفي على النص صفة التحول عن العادي، أو الانزياح Ecart كما اصطلح عليه في التنظيرات الغربية.
يقول عبد الله راجع جامعا بين أسس البلاغة العربية وهذا المفهوم:" البحث في مسألة الانزياح إذن هو بحث في ما أسمته البلاغة العربية بالمجاز..هو تعبير ملتوٍ عن قصد ويحمل ضمنيا معرفة صاحبه بالقواعد والمعايير التي سيختزلها هذا القول." [12]
نقف في هذا الصدد عند مصطلحين: ( ملتوٍ) و( قصد) لنؤكد ثانية أن التعامل مع المعنى من هذا الجانب لا يخص المعجم والقاموس المتعارف عليه، بل يتعداه إلى التشكيل الدلالي أو ما حددناه سالفا التحولات الدلالية. فالالتواء حقيقة هو التلاعب على اللغة بعدم التشبت بأسسها،" وعلم الدلالة الحديث هو الفرع الذي يبحث في استخراج قوانين المعنى العامة، وهو العلم المنوط به رصد معنى الإشارات اللغوية (الكلمات) وإذا ما أوغلنا في تفحص مسائله نجده يخصص الجزء الأكبر منه لمتابعة تطورها الدلالات وتغيرها" [13]
[1] - الجاحظ: الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، ط- 3.، 1969، 3- ص- 131.
[2] - عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص- 450.
[3] - فراسوا مورو: Francois Moreau البلاغة المدخل لدراسة الصور البيانية، L image Litteraire Position du probleme، ترجمة محمد الوالي، عائشة جرير، أفريقيا الشرق، المغرب، 2003، ص- 15.
[4] - إن مثل هذه التحديدات نجدها عند علماء اللغة والبلاغة العربية، لكن اهتمامنا بهذه التنظيرات الغربية بنبع أساسا من تمثلنا لنظرية غربية في تحليل المعنى، لذلك فالتنظيرات المؤيدة أو المنافية نحاول استقاءها من صلب نفس الظروف، وهذا لا يعني إغفالنا للنظرية العربية؛ وتعريفاتنا السالفة خير دليل على ذلك.
[5] - جون لايكوف ومارك جونسن: الاستعارات التي نحيا بها ، ت- عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر، البيضاء، 1996، (سلسلة المعرفة اللسانية)، ص- 6.
[6] - القصد من التجربة الشعربة الكتابة بما تحمل من مكونات دالة ودلالية.
[7] - جون لايكوف ومارك جونسن: الاستعارات التي نحيا بها ، ص- 128