قراءة في قصيدة منير مزيد

(حلم يتسلل للغيب)

منير مزيد / رومانيا

[email protected]

محمود فهمي عامر

مع الشاعر الملهم تأتي الكلمات غير المقصودة في مواقعها الطبيعية من القصيدة لتعبر عن معانيها المقصودة...  

بهذه الفلسفة الشعرية وجدت منير مزيد في قصيدته (حلم يتسلل للغيب) المنشورة في دنيا الرأي يوم الثلاثاء 31-3-2009م...

لقد بدأ الشاعر قصيدته بكلمة (حبيبتي) هذه الكلمة التي جاءت وحدها في السطر الأول؛ لتعبر عن حكمته الشعرية الفلسفية في دفقته الشعورية الأولى حين تناول في سطره الثالث العزلة التي خاطب بها الحبيبة بجو استنكاري استعان فيه بتكرار كلمتي (الآن) الحاضرة و (لن) المستقبلية ليدعوها إلى استغلال وجوده والتمتع بالحياة ما دامت فيها ودام فيها، دون تسويف يصادر اللحظة الحالمة، ثم بين لها بطريقته الفنية وذوقه الفطري في استعمال اللغة العربية أن علاقة الحب لا تحتاج إلى شرط وجوابه، وليكتمل نصاب المقطع الشعري ويؤدي غايته المقصودة، أخرجه بصورة الحكيم المجرب والخبير بدين المحبين ومسالك صوفيتهم، هكذا بدت دعوة الشاعر لحبيبته الرمز في قوله:

حـبيبتي

من لا يملك الآن قلباً لا يعرف الحزن

لن يَرى النور أبداً بعد الآن

من يغزل ثوبه بخيوط العزلة

لن يشعر أبداً بالدفء بعد الآن...

واستفتح الشاعر منير مزيد مقطعه الثاني بـ  (ها أنا ذا)؛ ليؤكد وجوده التراثي من جهة، وليرد على كل منكر لهذه الحقيقة التي يعتز بها من جهة ثانية، وليقول مثلثا: إن الفرق بينه وبين الآخر أنه يختار بعقله الذي كرمه الله به كل شامخ في ماضيه وحاضره ومستقبله بشموخ: (ها) و(أنا) و(ذا)، وثقته بأداته الفنية الحالمة بالتغيير عالية، وهو متفائل، وإن شعر القارئ العادي أنه متشائم، وهذه الحقيقة الفنية تؤكد رسالته الإنسانية إلى كل متعصب تعجل في الحكم على ظواهر الأمور، هذه القدرة الإبداعية في تغيير الذات تستمتد قوتها من عبير تطلعاته المستقبلية وطريقته الحضارية  التي سيتسلل  خلالها في التعامل مع الوجود المفروض الآن:  

ها أنا ذا أتجول  في حلم

أحلم حلماً يتسلل إلى شرفات الغيب

ترافـقـني أحزان الحياة الماضية

والآتية...

ويتابع الشاعر رؤيته الإنسانية وهمه في التغير باختيار الفعل الناقص المفضل لديه من أخوات كان (صار) الذي يفيد التحويل والتغيير، ويؤكد عليه باستعمال كلمة (حورية) التي في جذورها الحور الذي يفيد التبديل وتشجيع الحوار، والحور بفتح الحاء وتسكين الراء فيه الرجوع عن الشيء، وهو متفائل برجوع الأمة عن بعض آرائها والعودة الحقيقية إلى غاية الدين الإسلامي في تحقيق السعادة الإنسانية؛ حتى لا تزداد في نقصها بعد الزيادة، وحتى لا نتحول من حال سعادتها وصلاحها إلى حال فسادها التي استعاذ منها الحديث النبوي الشريف: (نعوذ بالله من الحَوْرِ بعد الكَوْرِ)، وهذه القدرة اللغوية العفوية تدل على صدق تطلعات الشاعر منير مزيد وعاطفته نحو أمته العربية، وهي اللغة الناطقة والمكتوبة التي تعد جهاز الكشف عن بواطن النفس الإنسانية، ولهذا قيل في المثل: كل إناء بما فيه ينضح، فهذه الحبيبة أخذت بتلقائية القصيدة أجمل وصف دلالي لها، وهو يعبر بدلالته عن عروبة الشاعر منير مزيد وتمسكه بمبادئه الإسلامية:

صارت فراشات و عصافير

تطير في الحلم قصائد حب

كتبت

لـ حوريـة تضيع مني

وتضيعني...

ولا أحمل النص فوق طاقته أو أتعامل معه برياضيات الكلمه ومعادلاتها، ولكن النص يفرض حضوره اللغوي المنسجم مع شفافية المعنى وجماله، والقصيدة التي لا يسكنها الهم واللغة والموهبة ليست قصيدة، وأردد قول الشاعر حيدر محمود هنا:(ما أتعس الشاعر عندما يحب... لأنه يصدق لا يزيف المشاعرا... لأنه يقول عندما يريد أن يقول... كل شيء صافيا وطاهرا... لأنه لا يكتم الشوق الذي في القلب).

وبأسلوب المرايا والأقنعة وبلغة العصر يفتتح منير مزيد مقطعه الثالث (في المرآة)، ويعلن التنافر بين الحلم وحبيبته المصرة على أن نكون اثنين متناقضين مع أن شكلنا الخارجي واحد، وننتمي إلى عالم الإنسانية، ويركز الشاعر على (الأنا) أو الذات الواحدة المتحدة التي يحلم بها مع حبيبته التائهة، وبحاضرها المنعزل الذي يرفضه الشاعر لن تصل إلى المستقبل المنفتح على ثقافة الآخر الذي يرجوه لها، فهو العاشق لها بثقافته المتحضرة المنفتحة، وهي العاشقة له بثقافتها المنعزلة المغلقة، وهيهات اللقاء بهذا الفهم، الذي يسعى إلى تغييره:

في المـرآة

عاشقان

يرفرفان بجناحين هائلين

لا يعرف كل منهما طريق الآخر..

أنا و حبيبتي ..

وفي الإشارة بصيغتها البعيدة (هناك) يؤكد الشاعر من واقع تجربته مع عالم حبيبته الآخر أنها ما زالت بعيدة عن ركب الحضارة، وبعيدة عن فهم الآخر لها بعزلتها، هناك النور الذي يبكي طلاسم الروح ولغة الظلال، يبكي البحر الذي لم نتعلم منه سياسة المد والجزر، هناك المنير الذي عرفه العالم الآخر بمحاربته لقوى الظلام، ولتوضيح رؤيته المستقبلية يستعين الشاعر برمز النورس الذي عشق البحر واعتاد السفر؛ ليخاطب خلاله محبوبته، ويدعوها لطقسه أو لسمائه، وهذه السياسة، سياسة الانفتاح والأخذ والعطاء تبدو في تكرار الشاعر للفعل المضارع (يفتح)، وعندها فقط تتحقق وحدته وتندمج مع محبوبته بهذه الثلاثية التي اجتمعت بهذا المقطع وتمثلت بـ: (السماء والوحدة والروح):

هناك :

قمر يبكي.. يرثي البحر والظل

و لأجل خاطري

يقلم أظافر الظلام ..

و نورس يفتح لي طريقاً إلى السماء

و طريقاً آخر إلى الوحدة

و يفتح لـ حبيبتي طريقاً إلى الروح ...

وكما أفرد الشاعر منير مزيد كلمة (حبيبتي) في المقطع الأول يعود مقفلا قصيدته بذات الكلمة(حبيبتي) وبدلالتها الرمزية ليؤكد حالته النفسية وفلسفته الكونية في التعامل مع حبيبته الحورية بثنائية الطريقتين: الوحدة والسماء، وبتحقيق هذه الثنائية تستحق الروح التي تشكلت من جديد احترام الآخر لها، ويعتذر الشاعر لمحبوبته التي لا يستطيع التواصل معها بإرضاء حزنها وقد أراد الله سعادتها حين استخلفها في الأرض، وبرقة الشاعر وذوقه الإنساني يعلن لوعة فراقه ورحيله عن هذه المحبوبة التي في عتابها دليل على محبتها:  

حـبيبتي

بين الوحدة و السماء

أراني عاجزاً عن إرضاء الحزن

يأبى إلا أن يكون وحياً لـ رسول

يتعذب من لوعة الفراق و الرحيل...