سيكولوجية البطل الزائف

في "واحة الغروب" لبهاء طاهر

د. نهى الزيني

[email protected]

(1)

تأخذ العلاقة بين الشرق والغرب لدى الروائي الكبير بهاء طاهر منحى يختلف عن أعمال كثير من الروائيين العرب كيحيى حقي "قنديل أم هاشم" ، الطيب صالح " موسم الهجرة إلى الشمال" وصنع الله ابراهيم " القانون الفرنسي"  ، فهو يرفض صيغة الصراع أوالتصادم الحتمي بينهما بالقدر ذاته الذي يرفض صورة الشرق المنسحق أمام غرب متقدم ومستغل وقادر ، لذا تكشف معالجته الأدبية لهذه العلاقة الندية والشائكة في آن – والتي تبلورت في روايته "الحب في المنفى" – عن رؤية واضحة وعميقة لذلك التشابه في الخصائص وفي التجربة الإنسانية الذي لايغفل تباين الرؤى والمصالح المؤدي إلى نوع من الاشتباك اللاغريزي أو اللاحتمي بين الطرفين ، وفي هذا الإطار تنبثق كاللؤلؤة الحرة تحفته الأدبية الرفيعة "واحة الغروب" عروس بوكر الرواية العربية في دورتها الأولى .

وقد استوحى الكاتب موضوع روايته كما تشير هوامشها من حادثتين واقعيتين أولاهما: حادثة تفجير معبد آمون (أم عبيد) في واحة سيوة آخر القرن التاسع عشر والتي نُسبت إلى مأمور الواحة محمود عزمي دون أن تكون هناك معلومات تاريخية منشورة عن سيرة حياة ذلك المأمور  والحادثة الثانية : قيام الباحثة اليونانية ليانا سوفالتزي بالتنقيب عن مقبرة مفترضة للاسكندر الأكبر في الواحة في ثمانينات القرن العشرين إلى أن توقفت لخلاف مع مصلحة الآثار المصرية ، ثم شرع في الاطلاع على بعض الكتب والدراسات التي عمقت وعيه بمفردات الواقع ومنحته المادة الخام اللازمة لعملية الخلق الفني .  

(2)

يتحدد الفضاء الزمكاني للرواية والذي ينظم علاقة الماضي بالحاضر منذ صفحاتها الأولى، فالأحداث الرئيسية تدور في واحة سيوة في صحراء مصر الغربية نهاية تسعينات القرن التاسع عشر حيث يتم نقل ضابط البوليس محمود عبد الظاهر ليشغل منصب مأمور الواحة كنوع من الترقية المصحوبة بنقل تأديبي عقاباً له على تعاطفه مع "العصاة" – الثوار – أيام "الهوجة "- الإسم الذي أُطلق على الثورة العرابية بعد فشلها واحتلال الانجليز لمصر – لذا يستهل الكاتب روايته بذلك الحوار الكاشف بين الضابط الذي تقرر نقله ومستشار نظارة الداخلية الإنجليزي مستر هارفي ومن خلال الحوار الذي يعمد خلاله كل طرف إلى استفزاز الآخر يمكننا أن نتعرف على شخصية محمود عبد الظاهر كمصري مخلص كاره للاحتلال الانجليزي وله مواقف وطنية مشهودة جعلته على قائمة المضطهدين وهو يمتثل لقرار نقله بشجاعة لاتقل عن شجاعة زوجته الأيرلندية كاثرين التي تصر على مصاحبته رغم المخاطر العديدة التي تنتظرهما هناك  (يقول لي زوجتك إمرأة شجاعة ، كأني لا أعرف كيف هي زوجتي ، أليست ذاهبة معي برضاها إلى الخطر؟ ... حدثوني عن قوافل عديدة تاهت في الصحراء وابتلعتها الرمال ، قوافل صغيرة ضاعت وجيش فارسي جرار هزمته الصحراء في الزمن القديم وطمرته الرمال إلى الأبد وهو في طريقه ليغزو الواحة ، محظوظة هي القافلة التي تنهي الرحلة قبل أن ينفد زادها من الماء وقبل أن تغير الرياح معالم الطريق فتبني تلالاً لم يكن لها من قبل وجود وتدفن الآبار التي يعولون عليها في سُقيا الجمال .... قيل ذلك وغيره فلم أهتم به ... أعلم جيداً أني ذاهب إلى المكان المنذور لقتلي وربما لمقتل كاثرين معي ... ذلك إذن من بين ماكان يلمح إليه المستر هارفي في مقابلة اليوم ؟ دخلت مكتبه مصمماً أن أستفزه .. ماالذي بقى لأخسره؟ ) .

وتتفاعل مع الزمكانية الرئيسية عدة حقول زمانية / مكانية تكتمل بها البنية المعمارية للرواية التي تنعقد في مجرى حياة الأبطال  :

·  القاهرة في سبعينات القرن التاسع عشر حيث ماضي محمود عبد الظاهر(البلد كله كان يغلي في آخر أيام الخديو اسماعيل وأنا أتلكأ في المدرسة التجهيزية حتى يقترب سني من العشرين ، أعرف النساء وأعاشر الجواري وأقضي الليالي مع الصحاب ننتقل بين المقاهي والحانات وبيتنا الكبير في عابدين لاتنقطع فيه الولائم ولايكاد يخلو ليلة من الضيوف وحفلات السمر... لكن كلام الشيخ الأفغاني وحماس المريدين حوله في حلقته أرغماني على أن أسمع وأن أهتم فأدمنت إلى جانب الخمر والنساء مجالس الشيخ وقراءة الصحف التي يحررها تلاميذه .. وكلها تهاجم الحكام الذين أغرقوا مصر بالديون وقادوها إلى الإفلاس وكلها تشتعل بالغضب لسيطرة الأوروبيين ) .

· الإسكندرية صيف 1882 حيث يواجه الضابطان محمود وطلعت قصف الاسطول الإنجليزي للمدينة وتدمير قلاعها عقاباً لحامية الإسكندرية التي أعلنت تمسكها بعرابي ناظراً للجهادية (كنا مجرد ضابطين ملازمين صغيرين انتدبونا من القاهرة إلى الاسكندرية بعد المذبحة التي قتل فيها عدد من الأجانب واتخذها الإنجليز مبرراً للحرب ، لكنا لانجد أحداً من الرؤساء نسأله وأراني مع طلعت فوق ربوة نرقب من بعيد مايجري لإحدى الطوابي ، يقول طلعت بصوت مختنق : هذه مجزرة وليست حرباً وأرد : معك حق ) وفي تلك المعركة يصاب محمود برصاصة تهشم عظام ذراعه ويبقى ألمها صيحة دائمة تشده إلى ذكرى ذلك الماضي الذي يحاول الهروب منه ( نعم أخاف الموت ومع ذلك كنت مستعداً في وقت ما أن ألقاه دون تردد ، أيامها كان هناك معنى غير أنه زمن وانقضى لم يعد يذكرني به سوى الألم المتقطع لأثر الرصاصة التي هشمت عظام ذراعي) كما يبقى لدى زوجته دليلاً على بطولته وشجاعته (أعرف الخطر الذي ينتظره ولكن محمود ليس جباناً ، سيؤدي واجبه هناك مثلما اعتاد طول حياته ..  أنا واثقة من ذلك ، هو يكتم حتى الألم الذي يعاوده في موضع الرصاصة التي هتكت عظام ذراعه) ، ومع أن تلك الإصابة سببها رد العربان على إطلاق طلعت النار عليهم في لحظة هيستيريا مجنونة فإن طلعت يشهد كذباً في التحقيق أن محمود هو الذي بدأ بإطلاق النار على العربان دون سبب وأنه – طلعت – حاول أن يمنعه ، تلك الخيانة من الصديق تترك بصمتها على محمود بقية حياته فنراه يصرخ في كل وقت مديناً الخيانة والغدر (أسأل نفسي طول الوقت عن الخيانة .. لماذا خان الباشوات والكبار الذين يملكون كل شئ ؟ ولماذا يدفع الصغار دائماً الثمن يموتون في الحرب ويُسجنون في الهزيمة بينما يظل الكبار أحراراً وكباراً ؟ وسألت نفسي : ولماذا يخون الصغار أيضاً ؟ لماذا خان الضابط يوسف خنفس جيش بلده في التل الكبير .. كيف كان يفكر وهو يرى مدافع الإنجليز تحصد إخوانه ورفاق سلاحه الذين كان يأكل معهم وينام معهم ويضحك معهم ؟ ... يقول الدليل إن الصحراء تغدر لمجرد عاصفة أتت في غير أوانها، تعال أحدثك أنا كيف يكون الغدر) .   

·  ماضي كاثرين في أيرلندا حيث الذكريات السوداء للاحتلال الانجليزي التي تعبر عن وحدة التجربة الإنسانية بين الشرق والغرب (كانت تشاركني همي فيما حدث في الماضي القريب .. كنا نتكلم عن بلدها التعيس وبلدي الأتعس .. حكت لي عن مآس كنت أجهلها تماماً عما فعله الإنجليز ببلدها منذ أن غزوه ، كيف انتزعوا أفضل الأراضي والمزارع وأعطوها للمستعمرين الإنجليز .. منعوا السكان الكاثوليك من تملك الأراضي ومن تولي الوظائف وجعلوها حكراً على المستوطنين الإنجليز البروتستانت .. وكلما ثاروا على الظلم قمعوا ثوراتهم بوحشية)  ، وهو الماضي ذاته المختزن في وعي فيونا شقيقة كاثرين التي تحضر إلى الواحة للاستشفاء من مرض صدرها والذي يبدو من غضبها عندما تسمع اليوزباشي وصفي مرؤوس محمود يصم عرابي ومن معه بالعصاة ويصف ثورتهم بعد هزيمتها بالخيانة والفتنة (كثير من زعمائنا في أيرلندا انتهت ثوراتهم على الإنجليز بالهزيمة لكننا نظل نعتبرهم أبطالا ، هم حاولوا على الأقل) ، كما يحمل ذلك الماضي الأيرلندي ملامح شخصية كاثرين التي تبرزها الأحداث وبعضاً من ملامح الغرب في علاقته بالشرق حيث كاثرين التي يعلمها والدها اليونانية واللاتينية كما علمها محبة الشرق وآثاره (علمني أن أحب الشرق وأعشق آثاره ، نعم أثار فضولي بالذات إلى ماتركه اليونان والرومان من آثار مجهولة ولكن بالطبع بشرط أن أبقى بعيدة عن ناس الشرق الأحياء ، هم فقط مستودع للتاريخ ، يجب أن أتذكر دائماً أنني أيرلندية وكاثوليكية)  لذا فإنها مع موهبتها في تعلم اللغات لاتحاول تعلم اللغة البربرية التي يتحدثها أهل الواحة المعاصرين مما يبقي ذلك الجدار الذي يعلو بينها وبينهم بمرور الوقت في حين يحبون شقيقتها فيونا لنجاحها في التعامل الإنساني معهم (جاءت تلك المرأة بهدية من التمر واللوز لفيونا وفهمت بصعوبة الكلمات العربية القليلة التي تتخلل لغتها لكنها تفاهمت بسهولة مع أختي اتي لاتعرف العربية بالإشارات والأصوات..) وفي ذلك الماضي الأيرلندي تقبل كاثرين الأرتباط بمايكل الذي عرض عليها الزواج بعد وفاة والدها رغم علمها بحب شقيقتها فيونا له لذا يظل شعور الخيانة يؤرقها حتى بعد تعاستها مع مايكل ثم وفاته ورحيلها لمصر وزواجها من محمود ورغم تأكدها من أن فيونا قد غفرت لها (غفرت لي قصة مايكل وإن لم أغفرها أنا لنفسي.. ربما حتى لايرد اسم مايكل على لسانها لو تقابلنا ، ليست هي المشكلة وإنما أنا : إحساسي بأني سرقته من أختي) ، هذا الإحساس الذي يجعلها تقبل بكثير من العملية والواقعية اللذين يميزان شخصيتها فكرة حب زوجها المصري محمود لشقيقتها وهو مايبرزه حوارها الداخلي أثناء ترقبها تدهور صحة فيونا (نعم محمود يحبك بالطبع .. أدرك أنا حبه لك ولا أغضب ، لا أشعر حتى بالغيرة الطبيعية لزوجة مهجورة ، أقول لنفسي هذا عدل هذا هو القصاص الواجب ، سرقت أنا منك مايكل فاصنعي الآن معجزة الشفاء وسأعطيه لك) لكنها تدرك تماماً مدى الاختلاف في الشخصية بينها وبين شقيقتها (من حسن الحظ أن فيونا لاتشعر بهذا كله ، لايمكن لبراءتها أن تتصور أن يقع زوج أختها في غرامها) لإن فيونا رغم أنها تمثل الشخصية الغربية مثل كاثرين إلا أنها كما قال عنها الشيخ يحيى الذي يعالجها بالأعشاب (عرفت في حياتي أمثالها في كل دين وملة وجنس ، قلة يولدون وقد وهبهم الله السماحة وصفاء النفس منحة من الوهاب) لذا فهي تمثل البطل الحقيقي الذي يكون مصيره الرحيل كحلم مثل الضابط محمد عبيد الذي صهرته حرارة مدفعه وهو يطق النار على الإنجليز في التل الكبير بينما يبقى الخونة (لماذا يرحل عبيد في عنفوانه مثل طير يمرق في السماء بسرعة ويعيش خنفس دهراً كأنه لن يموت أبداً ؟ )

·  الماضي القريب والبعيد للواحة ، حيث تتقاسمها عشيرتان : الغربيون كبيرها الشيخ يحيى والشرقيون كبيرها الشيخ صابر وهما العشيرتان اللتان ضربت الكراهية والحروب بين أفرادهما من قديم الزمان ، ومن خلال سياق الرواية نتابع حكايات المنافسة والكراهية التي عرفناها في البداية على لسان مستر هارفي وهو يوجه محمود إلى محاولة الاستفادة من تلك الخصومة لضمان السيطرة الأمنية على الواحة (هذه المعارك جزء من حياتهم وهم أحرار فيما يفعلونه بأنفسهم إلا بالطبع إن أمكن عن طريق تحالفات معينة مع عشيرة أو أخرى تحويل ذلك إلى وسيلة لضمان السيطرة) وهو هنا يقدم لمأمور الواحة الجديد روشتة استعمارية من الطراز الأول (هذه مسألة مجربة ومضمونة بشرط ألا يستمر التحالف مع طرف واحد لمدة طويلة، يجب أن يكون التحالف مع هؤلاء مرة ومع خصومهم في المرة التالية) لكن المدهش أن بطلنا الناقم على الاستعمار وسياساته لايمانع من استخدام السياسة الاستعمارية "فرق تسد" مع سكان الواحة (أحاول ياسعادة المستر ، أعرف هذه السياسة ولكن لم يسبق لي أن جربتها) بل إنه يطبق فيما بعد ماهو أسوأ من ذلك حين يوافق على تنفيذ سياسة جلد الممتنعين عن سداد الضرائب وسجنهم في القسم ليكونوا عبرة للباقين ثم قيامه بقمع ثورتهم بوحشية رغم اعترافه منذ البداية بأن الضرائب المكلف بجمعها باهظة (منذ اللحظة الأولى لدخولي الواحة أذهلني الفقر وأذهلتني جسامة الضرائب التي تطالبني الحكومة بجمعها منهم)

·  الماضي السحيق للاسكندر الأكبر في مقدونيا (الغرب) حيث تنشأ فكرة البطل الإسطوري/ إبن الإله كأسطورة يونانية ترويها الأم لابنها (لدغ الثعبان أمي لدغة الحب فجئت أنا ، أتاها الإله الكبش ثعباناً فكنت ثمرة الحمل المقدس) ثم في واحة سيوة أو واحة آمون كما كانت تسمى وقتها (الشرق) حيث تتحول الإسطورة إلى حقيقة ويتحول البطل إلى إله (سمعت تهامس الحاشية بأني ذاهب إلى هناك لأحصل من الكهنة على لقب ابن الإله...غاية مايمكن أن يصل إليه الإنسان في عقيدتنا أن يصبح بطلاً مثل هرقل أي خالداً ولكن دون مرتبة الآلهة ، مامن إنسان تتبناه الآلهة ويصبح واحداً منها إلا في مصر التي تؤله ملوكها)  لذا فما أن يخرج الإسكندر من قدس الأقداس بصحبة الكاهن الأكبر الذي يعلن أن الآلهة اختارته فرعوناً لمصر وأن الإله حورس قد حل فيه حتى يرحب المصريون بذلك (ما إن أعلنها حتى راحت جموع الكهنة والكاهنات والحجيج من المصريين تهلل وتلوح في حماس وتشنج وهي تهتف باسم الفرعون الجديد) بينما يغضب جنوده اليونان حتى يصل الأمر إلى أن يصارحه أحدهم برفض هذا التأليه (لكن فيلوتاس المحارب الشجاع وصديقي الحميم سألني بما يشبه التأنيب : إذن فأنت إله ؟ وحين لم يسمع مني رداً غمغم وهو يتطلع حوله في أسف : كنا سعداء بأن بطلاً فحسب هو الذي يقودنا إلى النصر) ووسط هتاف الجموع الهادر باسم الفرعون المحبوب يجد الاسكندر – البطل القديم – نفسه رافضاً لحرية الغرب (سألت نفسي لحظتها عما فعله اليونان بحريتهم التي يفخرون بها ، لم يتوقفوا عن الانقسام والاقتتال حتى كانت مدنهم تبيد بعضها بعضاً) معجباً باستقرار مصر الذي دام بفضل القهر (هاهم المصريون دامت دولتهم آلاف السنين مستقرة بسطوة الأرباب والفراعنة والكهنة ، بفضل الطغيان الذي يكرهه هؤلاء اليونان ، فلماذا لا أتعلم من مصر دروسي ؟) ، ولقد تعلم الدرس جيداً (تعلمت أن الخوف لا الحكمة هو أساس الملك) وتعلم أن يقضي على المتمردين الذين يحلمون بالحرية بل إن هؤلاء غالباً ماكان يتكفل بهم العامة (يكشفون مؤامراتهم ويفرحون لسقوطهم لأن أولئك الحالمين يريدون أن يسلبوا من العامة نعمة الطمأنينة في الخوف)   

(3)

بعيداً عن الفانتازيا والشطحات السردية غير المبررة تميزت "واحة الغروب" بلغة شفيفة واضحة تصل في بعض المقاطع إلى حد الإعجاز الفني خاصة حين تطرح عبر مقاطع شاعرية رقيقة مجموعة من الأسئلة الوجودية بالغة الصعوبة والتعقيد ، وقد ساعد هذا الوضوح إضافة إلى سائر التقنيات السردية التي اعتمدها الكاتب واستخدمها بحرفية على كشف السمات النفسية للشخص المصاب بوهم البطولة أو ما يمكن أن نطلق عليه البطل الزائف الذي يقنع نفسه ثم الآخرين ببطولات وهمية بينما يعلم في قرارة نفسه أنه والس مع الموالسين وتراجع مع المتراجعين وخان مع الخائنين ، وسوف أضرب هنا مثالين لذلك :

المثال الأول : استخدام تقنية الأصوات المنفردة التي تتيح للشخصية مساحة كبيرة من الحرية للتعبير عن دواخلها النفسية مع تحول بؤرة السرد من شخصية لأخرى لتسليط مزيد من الضوء على دلالات الحدث الواحد لدى المتغيرين ، حقيقة أن معظم السرد كان من نصيب الشخصيتين الرئيستين في الرواية : محمود وكاثرين إلا أن انتقاله المفاجئ إلى الشيخ يحيى كبير الغربيين ثم الشيخ صابر كبير الشرقيين بل وإلى الإسكندر الأكبر ذاته في محاولة لأنسنة الاسطورة قد ساعد على تكثيف المعنى وبلورته ، فالزوجة الأيرلندية كاثرين التي تحمل قناعة داخلية في بطولة زوجها المأمور (أعرف الخطر الذي ينتظره ولكن محمود ليس جباناً ، سيؤدي واجبه هناك مثلما اعتاد طول حياته ..  أنا واثقة من ذلك) والتي تجد في علاقتها معه ما كانت تفتقده مع زوجها الأول (أية نعمة ، إنه نقيض لمايكل في كل شئ ، يعطي بإسراف ولايعرف حدوداً لأي شئ ولاحتى للتناقضات وتقلبات المزاج) حتى باتت تحلم بالواحة التي ستضاعف لذة عشقهما (تعال يامحمود ، سنرحل إلى الصحراء معاً ، سنولد هناك أيضاً من جديد معاً ، وفي هذا البعث لن أفرط فيك ، ستكون لي) ، هي ذاتها كاثرين التي تتعجب بينها وبين نفسها من التناقض في شخصية زوجها (اعتدت من زمن بعيد على تقلباته التي لاتنتهي ، في البدء كان يذهلني حين يقول الشئ وعكسه أو يفعل أشياء متناقضة دون أي تمهيد) وهي ذاتها التي ستدرك فيما بعد أن ذلك التناقض يخفي وراءه شخصية مأزومة غير قادرة على العطاء وأن الواحة التي اعتقدت أن حبهما سيبعث فيها من جديد إنما كانت شاهدة على غروب ذلك الحب الزائف (لم أشعر فيما يفعل أن هناك ذرة من الرغبة الحقيقية أو الاستمتاع بالعشق .. كل ماكان يريده هو أن يطمئن على ذكورته .. محمود يرتد ليصبح مايكل..) ، والحقيقة أن ذلك التناقض هو أوضح سمات البطل الزائف التي تتبدى من خلال الصوت الداخلي للبطل  (أزمتي ؟ تسألني كاثرين عن أزمتي ؟ أسأل أنا نفسي ؟ .. لا ينفع في هذه الدنيا أن تكون نصف طيب ونصف شرير ، نصف وطني ونصف خائن ، نصف شجاع ونصف جبان ، نصف مؤمن ونصف عاشق ، دائماً في منتصف شئ ما .. لم أكن أبداً شخصاً واحداً كاملاً في داخله) فكما أنه في الحب لم يكن صادقاً مع نفسه ولم يكن قادراً على تحمل تبعة اختياره حين أحب في شبابه الجارية نعمة (هل كنت سأجد الجرأة مثلاً على أن أتزوجها.. الضابط المحترم يتزوج جارية مجهولة النسب ؟ أي عار) فهو بالمثل لم يكن قادراً على تحمل تبعة تعاطفه مع عرابي والثوار أو تقديم التضحية التي يقدمها الأبطال الحقيقيون ، لذا فقد خان مثل طلعت تماماً (لماذا أتعمد نسيان لحظة الخزي والخيانة ؟ هما إجابتان قصيرتان في تحقيق القومسيون أنفيهما من ذاكرتي باستمرار ولكنهما تقبعان داخلي كالجمر: سؤال : هل كنت تؤيد أحمد عرابي وزمرته ؟ جواب : بل كنت من الساخطين على أفعال البغاة... ثوار الأمس أصبح اسمهم العصاة ، زدت أنا من عندي في التحقيق فوصفتهم بالبغاة)  ولكن الفرق أن طلعت كان واضح الاتجاه (باع نفسه وقبض الثمن الذي يريده ، أما أنا فبعت بلا ثمن وبقيت قانعاً بالسخط على نفسي وعلى الإنجليز .. حتى الحب اكتفيت منه دائماً بالمتعة ثم وقفت لا أكمل الطريق ، تركت نعمة التي أحببتها لتضيع مني ..) فطلعت على النقيض من محمود كان صادقاً مع نفسه فلم  يدّع البطولة ولم يحيا في وهم صنعه لنفسه (خائن لكنه واضح مع نفسه ، كذب عليّ ولكنه لم يكذب على نفسه) أما محمود عبد الظاهر البطل الزائف فإن ماضيه يتكشف أمامه عن حقيقة الكذب الذي مارسه على نفسه قبل أن يمارسه على الآخرين (أتباهى أمام نفسي بماضي بطولي وأتعمد نسيان لحظة الخزي ، أعتبر نفسي في الشرطة مظلوماً وشهيداً ..الضابط المتمرد المغضوب عليه بسبب ماضيه الوطني أيام الثورة ، أعجبني الدور فصدقت نفسي ، لعلي تعمدت أيضاً أن أنقل هذه الأسطورة لكاثرين ..) ، وكما في الحب والوطنية تتجلى ملامح البطولة الزائفة على المستوى الإنساني حين يفاجئ محمود والشاويش العجوز ابراهيم بحجارة المعبد تهوي باتجاه محمود الصغير أحد صبيان الواحة لتهدد حياته (رأيت الحجر ينقض على الصبي فاندفعت مع ابراهيم لأنقذ محمود الصغير لكن في اللحظة الأخيرة ، في الثواني الأخيرة حين رأيت أن الحجر سيصيبنا معاً توقفت ، تجمدت خائفاً في مكاني ، كنت أنا الأقرب إليه لكن ابراهيم تجاوزني بقفزة واحدة واندفع يحتضن الصبي ويدفعه بعيداً ويرتمي فوقه ، أفقت أنا فارتميت بدوري فوق ابراهيم لكن بعد فوات الأوان ، بعد أن ضمنت حياتي واطمأننت عليها وبعد أن هشم الحجر ساق ابراهيم) إنه البطل الزائف الذي يأتي فعله دائماً بعد فوات الأوان ، بعد أن يضمن زوال الخطر لإنه لن يعرض حياته أو مكاسبه لاحتمالات الخسارة ، لذا فإن ماجبن عن الجهر به أيام "الهوجة" انطلق يردده ببساطة في مواجهة اليوزباشي وصفي بعد فوات الأوان (عرابي باشا أشرف من عشرة خديويين مجتمعين والبكباشي محمد عبيد أشرف من كل الخديويين والباشوات الخونة الذين باعونا للانجليز) لكن الانتقال الناعم من الديالوج إلى المونولوج المنفرد تفضح خبايا نفسية البطل الزائف (لكن هذا أيضاً هو محمد عبيد الذي وصفته أنا ومن معه بأنهم بغاة .. فلا داعي للتباهي أمام وصفي أوغيره ، لاداعي للشجاعة المتأخرة)

المثال الثاني : استخدام تقنية استرداد الزمن بالتفاعل بين الزمكانية الرئيسية والفرعية مما أبرز المواقف الحاضرة للشخصية في ضوء خبراتها الماضية حتى بدا  بهاء طاهر وكأنه يعيد خلق حاضر الشخصية عن طريق استرداد الأحداث التي غيرت مجرى حياتها ، وما ينبغي ملاحظته أن الكاتب لم يقف في إحداثه لحالة التوتر بين الماضي والحاضر عند حد التنقيب في منطقة الوجدان الفردي لشخصياته وإنما تجاوز ذلك إلى الوجدان الجمعي فلجأ إلى اسطورة الإسكندر الأكبر لتجسيد حالة البطولة الزائفة التي يصنعها الالتقاء بين (غرب) استعماري توسعي بحكم طبيعته الجغرافية الطاردة و(شرق) مستسلم للأساطير بحكم التواجد العريق الآمن والمنبسط، فعواصف الصحراء التي دمرت جيش قمبيز الفارسي وهو في طريقه لغزو الواحة وقفت عاجزة أمام الاسكندر الذي أصبح الفرعون الإله في نظر المصريين ، وهكذا يصدق الإله الزائف الاسطورة التي صنعها لنفسه ويصبح مستعداً لتدمير كل من تسول له نفسه التشكيك فيها وهكذا فعل بصديقه فيلوتاس الذي عارضه ( كنا سعداء بأن بطلاً فحسب هو الذي يقودنا إلى النصر) ولنفس السبب قتل الجندي الشجاع كليتوس الذي أنقذ حياته (إنه ارتكب الخطيئة العظمى ، أنكر بنوتي للإله الأعظم) وهو مثل كل الأبطال الزائفين يترددون بين الشئ ونقيضه –  يشيد المدن الجديدة ويحرق مدناً عريقة ، يقتل أصدقاءه ثم يبكيهم –  أصحاب شخصيات مأزومة ومتناقضة (من أكون حقاً ؟ من أنا؟ .. لماذا أفعل الشئ ونقيضه؟) إنه التناقض ذاته الذي يعانيه محمود عبد الظاهر (مازلت حتى الآن لا أفهم كيف كنت أفعل كل هذه الأشياء دون تردد .. كما لو كان طبيعياً جداً أن أسكر وأن أتردد على المحفل الماسوني وأضاجع النساء وأذهب إلى حلقة الأفغاني وأدور مع أبي والمريدين في حلقة الذكر) ، وهكذا ينصهر الماضي تدريجياً في الحاضر عبر أحداث الرواية ليخترق صلابته دافعاً بالبطل الزائف إلى نهايته المحتومة بتفجير المعبد وهو يهرول إلى داخله كأنما ليهرب من أشباح الماضي كله – الخاص والعام –  بعد أن أطلق صيحته المعبرة ( لا شئ يصلح في هذه الدنيا الغلط إلا الغلط) لنجد أنفسنا أمام تلك النهاية المأساوية التي تحرر البطل من مأزقه وتفتح الباب واسعاً لطرح مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالحقائق الإنسانية الكبرى وهو خير مايفعله كاتب بعمل ينشد له البقاء .