رواية الريف بين الواقع  واليوتوبيا

رواية الريف بين الواقع  واليوتوبيا

سليم بتقه

[email protected]

كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية

قسم الأدب العربي

جامعة محمد خيضر بسكرة

الملخص:

نحاول في هذا المقال إلقاء الضوء على رواية الريف، والتي تتخذ من الفضاء الريفي موضوعا تعرض لطبيعته، وتلملم خيوط تطور صورته، وتغيرها بتغير المنهج وأحوال الإنسان الريفي. من هنا جاءت أهمية هذه الدراسة التي تكشف عن الموضوعات التي تناولها الرواة كالعلاقات الإنسانية، الأرض، الاستغلال الصراع الطبقي... 

Abstract:

   We try in this article to shed light on Arabic rustic novel, which describes rural areas and unites threads of development of its image, and how it changes according to the method of interest and circumstances of rural man. From here arises the important of this study as it explores of subjects of the rustic novel like: earth, exploitation, humanism relations, classic clash

يطرح مصطلح "رواية الريف" وموضوع الرواية العربية إشكالين يتعلق الأول بمسألة التصنيـف ( رواية الريف، رواية المدينة...)، والثاني بمسألة التأسيس( زينب، حكاية العشاق...). وإذا كان الأول جائزا على الأقل من الناحية النظرية كونها -أي التصنيفات- حدودا وهمية، فإن الإشكال الثاني يظل مطروحا في غياب مخابر بحث في البلاد العربية تتولى وضع النصوص في سياقاتها الفعلية، وبالتالي يتجاوز تاريخ الأدب معطياته الأولى، ويكتسب صفة الديناميكية المستمرة.

تعبتر قضية الأرض من الشواغل الأساسية للرواية العربية، حيث اكتست العناية بالفلاح والحياة الريفية مكانة مهمة في الفكر العربي عامة، والأدبي على وجه الخصوص بداية من القرن العشرين، حيث لجأ الكتاب إلى طرح هذه القضية من زوايا ورؤى متعددة و متنوعة، تعكس الروح الريفية المنتشرة  في دواخل هؤلاء الكتاب، سواء كانوا ينحدرون من أصول ريفية، أو عاشوا قسطا من حياتهم في الريف، أو الذين "خاضوا تفاصيله عبر مرصد مراقبة خارجي"([1]).

وإذا كانت رواية الريف العربية لم تجد طريقها إلا في مطلع القرن الماضي -على رأي النقاد- مع تجربة حسين هيكل في روايته (زينب)،  فإن هناك إشارات إلى قصص عبد الله النديم حيث أصدر مجموعته القصصية سنة (1881م) يصور فيها استغلال الخديوي وأصدقائه من الأجانب للفلاحين([2]) كما يشير محمد عبد الغني([3]) إلى أن للمدرس لمحمد خيرت السبق التاريخي بين القصاصين الذين اهتموا بقضية الريف حيث كتب سنة(1905م) روايتين هما (القناة الريفية) و(الفتى الريفي) وهذان العملان يدرجان ضمن ما يسمى بالروايات "الحبية" العاطفية، حيث ألف الكتاب في هذه الفترة هذا التوجه في الكتابة (الجانب العاطفي) وكان يعقوب صنوع([4]) محرر "المقتطف" قد انتقد سنة (1882م) مثل هذه الروايات في مقال نشره بعنوان (ضرر الروايات والأشعار الحبية).

غير أن هذين العملين-المشار إليهما سابقا- "لم يلقيا الاهتمام كما هو الحال في "زينب" وذلك راجع إلى أن الكاتب أحمد خيرت قاهري المولد والنشأة، يضاف إلى سذاجة مستواهما الفني"([5]).

لم يكن مخاض رواية الريف العربية عسيرا كما كان الشأن في فرنسا مثلا في القرن التاسع عشر، على الرغم من أن المدينة هي ظاهرة روائية (لوكاش) فالنص الروائي ابتدع ليعبر عن المدينة وليس على الريف وهذا راجع بالدرجة الأولى إلى أن المجتمعات العربية هي مجتمعات عالم-ثالثية (Tiers-mondiste) على رأي "فرانز فانون" (Frantz Fanon) تقوم حياتها على استغلال الأرض. فالفلاح([6]) يمثل النسبة العظمى في طبيعة البنية الاجتماعية العربية، والتي تفرض على الأديب أن يتوجه لهذه الفئة فيخاطبها، ويعرض مشاكلها وحياتها وتطور أفرادها، كما أن انتماء عدد كير من الأدباء إلى الريف يدفعهم –دوما- للحديث عنه باعتباره مكان نشأتهم. ولا يخفى أيضا أن الريف هو المكان الأنسب للكشف عن علل المجتمع وقضاياه، فعلاقات أهله البسيطة وحياتهم الخالية من التعقيد تسهل تتبع المشكلات الطارئة على حياتهم، والقضايا المعكرة لمزاجهم والحائلة دون سعادتهم، كما تسهل فضح المستغل، ومعرفة مدى ظلمه وإيذائه.

    إذا كان حضور رواية الريف واهتمام الروائيين بحياة الفلاحين للاعتبارات المذكورة آنفا، فإن المدينة شكلت في المقابل حيزا كبيرا للأحداث لدى الروائيين خصوصا مع نضج الرواية العربية في الثلاثينات، وتنامي المدينة العربية، واحتكاك المثقفين العرب ببيئة المدينة، إلا أن هؤلاء المثقفين سرعان ما يصابون بالدهشة خاصة إذا كانوا من الوافدين فتراهم يكتبون عنها بروح الكراهية، أو بالسخرية،  لأنهم لم يستطيعوا فهم المتغيرات والتطورات، فتتملكهم "النوستالجيا" والحنين إلى رومانسية القرية حيث البراءة والحب بما يمكن تسميته "ترييف المدينة"، هذا على الرغم من اهتمام القارئ ووسائل الإعلام في عصرنا بـ"رواية المدينة" أكثر من اهتمامهم بـ"رواية الريف".

"رواية الريف" إذن نتاج طبيعي لإحساس الروائي العميق بالانتماء إلى الأرض وإلى القرية الهادئة الوادعة التي ظلت تحافظ على نقائها، وعلى بساطتها فلم تطلها المدينة بحضارتها فتفسدها.

فما هي طبيعة الموضوعات التي رصدها الروائي العربي في الريف؟

بداية ينبغي الإشارة إلى أن الموضوعات التي تناولتها رواية الريف العربية أو الغربية تكاد تكون متشابهة، وهذا ما يفسر تأثر بعض الكتاب العرب بنظرائهم في الغرب ممن سبقوهم إلى هذه التجربة، على غرار محمد ديب([7]) الذي استلهم من بعض كتاب الواقعية الجدد من جنوب إيطاليا في روايته "الحريق" من أمثال "كارلو ليفي" (Carlo Levi) و"إليو فيتوريني" (Elio Vittorini) وأيضا من الأدب الفرنسي ممثلا في الكاتبة "جورج صاند"(George Sand)  وتجربتها مع "الرواية الريفية" (Le Roman Champêtre).          هذه الأخيرة التي  سنتوقف مع تجربتها كمؤشر على تشابه القضايا التي تعرضها رواية الريف (الأرض، التفاوت الطبقي، صراع القيم، الهجرة الريفية، العلاقات الإنسانية...).

لم يهتم الأدب الفرنسي([8]) كثيرا بحياة الفلاحين كمجموعة اجتماعية خاصـة في "العصـر الكبيـــر"(Le grand siècle). لقد كان يرمزلـ "اقصص الرعاة"(Les Bergeries) بكلمة الـ"هناك"(Les Ailleurs) أي "بلاد الأحلام"(Pays de rêves). وهي الحكايات المستلهمة من واقع الريف الفرنسي غير أن هذا التناول لم يكن عميقا. فالريف كإطار لم يكن يمثل سوى الحنين إلى الأرستقراطية، ولم يكن مكانا واقعيا يجسد حقيقة حياة الفلاحين بكل أبعادها الاجتماعية والإنسانية.

لقد كانت الشخصيات التي عرضتها تلك الروايات الريفية غريبة بالنسبة لأصحاب "الصالونات" بسبب سلوكياتها وتعبيراتها غير المعهودة، فهي في نظرهم غير "أنيقة"(Non-Stylisée) فعلى سبيل المثال عبارة (Alors ç'ai-je fait)  التي تبدو لديهم "تافهة".

تعتبر روايات "جورج صاند"(1804-1876م) واسمها الحقيق (Amantine Aurore-Lucile Dupin)

فريدة من نوعها فهي لا تؤمن إلا بما له علاقة بالفضائل الرعوية(Vertus Patriarcales) خاصة بعد أن طلقت المجتمع الباريسي لتصرف إلى ريفها الهادي بمهنة في بيريBerry).).

إن واقعية "صاند" لم تكن واقعية "يلزاك" "أو زولا"، ففي الدراسة التي قام بها "جورج لوكاش" )(Georges Lukacs)[9])  لرواية "بلزاك" "الفلاحون"(Les paysans) وجد أ ن الروائي تمكن من تصوير حياة الطبقات الاجتماعية في الريف بصورة واقعية، تجلت فيها عناصر الحيوية والتنوع والثراء. إلا أن الوصف المقدم في الرواية يتنافى مع قناعاته الأيديولوجية، فالرجل يعتبر المدافع عن البرجوازية ولسان حالها، والشخصيات قدمت بشيء من السلبية والتجريد. أما "صاند" فإنها لم تصل إلى الناس فقط عن طريق الكتاب، إنها تعرف منذ شبابها في نوهان(Nohant) فلاحين يحملون أسماء لأبطال رواياتها الريفية (Romans Champêtres). من هذه الروايات "رفيق الرحلة حول فرنسا" (Le compagnon du tour de France) "فرانسو القيط" (François le champi) "مستنقع الشيطان" (au diable  La mare) و"الساحرة الصغيرة"(La petite Fadette) في رواية "مستنقع الشيطان" التي نشرت سنة (1946م) تروي الكاتبة حياة الفلاح الشاب جرمان (Germain) الذي ماتت زوجته و تركت له ثلاثة أطفال، اقترح عليه حموه البحث عن زوجة تعتني بأطفاله، وتدير له المنزل. يرحل الشاب إلى القرية المجاورة للبحث عن هذه المرأة، وترافقه في هذا السفر "ماري"  (Marie)التي دفعتها ظروف العيش القاسية إلى العمل لدى إحدى الأسر الغنية. ويأخذ جرمان أصغر أطفال معه في هذه الرحلة غير أن الأحوال الجوية السيئة تدفعهم إلى الاختباء قرب "مستنقع الشيطان"  تقع "ماري" في غرام "جيرمان" ولكنها لا يتوح له بذلك. يخيب ظن "جرمان" في الخطيبة الموعودة في حين تتعرض "ماري" لتحرشات سيد المنزل. يعود الاثنان إلى قريتهما. يطلب "جرمان"من "ماري" الزواج فتقبل دون تردد.

تعج هذه الرواية المناظر الطبيعية الجميلة، كما تحفل بالنوازع الإنسانية والفضائل والعادات الريفية (علاقة جرمان بحموه وحماته، دور المرأة في تربية الأولاد والقيام على شؤون البيت في غياب، مراسيم الخطبة والزوج..([10]).   

وإذا عدنا إلى الرواية العربية عندنا، فإن ما يمكن الإشارة إليه أن الأدباء مع مطلع القرن العشرين انتبهوا إلى "ضرورة أن تحمل رواياتهم أبعادا إنسانية، وقضايا فلسفية وفكرية واجتماعية كبرى حيث أصدر فرح أنطون رواية سنة(1903) تحت عنوان (الدين والعلم والمال) ومن الواضح أن كل كلمة في هذا العنوان تدل على قضية إنسانية كبرى([11]). وبما أن الرواية كما وصفها "ادوارد سعيد" "مصنع ثقافي" وأنها "شكل ثقافي اشتمالي شبه موسوعي"([12]) فإنها بهذا البعد الإنساني عمل إبداعي يؤثر في الأخريين ويتأثر بهم، وهذا ما يفسر أن أول عمل فني عربي ناضج حمل في طياته هذه النزعة الإنسانية ونقصد به رواية "زينب" لحسين هيكل التي صدرت سنة (1914م) حيث عالج فيه الكاتب مسألة العلاقة بين الرجل والمرأة في الريف المصري، باعتبار أنها من المشاكل الإنسانية الهامة، ولكنها لا تمثل قيمة مطلقة مفصولة عند المشاكل البشرية الأخرى ومعزولة عنها. وإذا كان الأستاذ هيكل يربط ازدهار الأدب في كل زمان ومكان بالمرأة، فإنه أيضا يربط تخلفه بخلوه من أي أثر للمرأة حيث يقول: "فلم يكن أثر السيدات هو الذي حفز الأدب في الغرب وحده إلى نهضة كبرى كالتي نهضها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بل كان كذلك هو الذي حفز الأدب في كل الأمم وفي كل العصور"([13]). لقد جعل هيكل من علاقة المرأة بالرجل في روايته موضوعا غطى على جميع العلاقات الأخرى، وكأن هذه القرية تحيا بدون مشاكل حتى أن الأديب "عبد الرحمان الشرقاوي" في مطلع روايته "الأرض" على لسان الراوي الصبي يتمنى أن يعيش في القرية التي عاشت فيها "زينب " حيث يقول :"وتمنيت لو أن قريتي هي الأخرى بلا متاعب كالقرية التي عاشت فيها زينب،  فالفلاحون لا يتشاجرون على الماء، والحكومة لا تحرمهم من الري، ولا تحاول أن تنزع منهم الأرض، أو ترسل إليهم رجالا بملابس صفراء يضربونهم بالكربيج([14]).

لقد ضخم هيكل دور علاقة (الحب) وأخضها لتصوره الخاصة المبني على موقف طبقي، ففي تصوره أن الحب "إذ لم يتحقق بين الأفراد من طبقة اجتماعية واحدة، فإنه ليس حبا،  ولكنه مجرد خداع، وأن الحب الحقيقي هو الذي يقوم بين أبناء الطبقة الواحدة"([15]). وهذا ما يفسر موت "زينب" في الرواية بعد أن زوجت من (سعيد) وهي التي أحبت (إبراهيم)، ولم تستطيع أن تنسى حبها له، فمرضت مرضا لم يعرف طبيعته، وعلى الرغم مما قيل من أنه "سل فظيع يناوشها الحياة"([16])، فإن "زينب" كانت مدركة بأن داءها الحقيقي هو حبها لإبراهيم، فهي تقول لأمها حين سألتها عن حالها: "حالي زي ما أنت شايفة.....ودي أموت قريب وكله من تحت ايديكو فضلت أعيط وأقلك يمه مش عاوزة أجوز"([17]).

أبدت "زينب" إخلاصا لا نظير له لإبراهيم، حتى اللحظة التي ماتت فيها لذلك كانت تذهب إلى (الغيط) على أمل أن تراه وهو قادم من بعيد، كما ضلت محتفظة بمنديله الذي قدمه إليها كهدية "وكانت آخر كلمة لها أن يوضع المنديل معها في قبرها. وفي وسط الليل أقفلت عينيها، وراحت إلى أعماق سكونها وارتفع صراخ العجوزين يعلن في القضاء وفاتها"([18]).

وإذا كان هيكل أيضا في هذه الرواية قد ضحى بالموضوع من أجل فكرة يؤمن بها، فإن أدباء آخرين جاؤوا بعده قد تناولوا موضوع الريف من باب إيجابية العلاقة بين الذات والموضوع، فأصدر توقيف الحكيم "يوميات نائب في الأرياف" بين عامي (1929-1931) ونشرت سنة (1937) وهي عبارة عن صور متتابعة حول الجريمة في الريف، ومحاولة من المؤلف لعرض أحوال الفلاحين في صور مختلفة من تعاقب الظلم والتخلف عليهم وفيها نقد لعاداتهم وبيان لحاجاتهم الماسة  إلى الإصلاح، والتعليم حتى يخرجوا من ظلماتهم إلى نور الحياة الكريمة، ويصور الحكومة مشغولة عنهم  بالأحزاب والانتخابات([19]). وألف طه حسين (المعذبون في الأرض) سنة (1939) حيث "نلتقى لوحات قصصية تذكرنا على الفور بلوحات الحكيم في يوميات نائب في الأرياف، لكن لوحات طه حسين تقنعنا بدعوته إلى "العدل" يعكس الحكيم الذي كان يحلم فقط بتعديل القانون المستورد([20]).

وفي رواية "الأرض" (1950) يعلن عبد الرحمان الشرقاوي اتجاه حب الفلاح لأرضه، ودفاعه عنها ورسم طريق الخلاص، حيث انتقل بـ "الأرض" إلى مرحلة عميقة ومهمة في تاريخ الكتابة عن الريف والأرض والفلاح. اعتمد الكاتب على تقنيات الانعكاس في رصد مواقف الفلاحين المحتدمة في صراعهم مع ممثلي الإقطاع والسلطة عبر لحظات درامية مشحونة، واستطاع أن يستشرف طرفا من منظور المستقبل في انتظار العدل بالإصلاح الزراعي، ونجاح الفلاح بالرغم من الهيمنة الإقطاعية أمام دكتاتورية صدقي  في الثلاثينات في التناهي مع الارض الشرف والعرض. "وإذا كان الشرقاوي يرى مغايرة شبه كاملة بين رؤيته للقرية في الأرض وبين رؤية المازني في ابراهيم الكاتب فذلك في حقه لأن الريف لا يوجد في إبراهيم الكاتب إلا وجودا هاشيا"([21]).وهو إلى جانب ذلك "يجد في قرية زينب لهيكل بعض صور تربط بينها وبين قريته إلا أنه يرى قرية هيكل لاتشغل نفسها بالمشاكل الحقيقية التي تواجهها"([22]) "...وكانت النساء في قريتي يحملن الجزار كنساء القرية التي عاشت فيها زينب ... ومن بينهن وصفة ضاحكة ريانة منعمة بيضاء ممتعة بثير الخيال أكثر مما كانت زينب في الكتاب الذي قرأته ولم أجد فيه مأساة قريتي"([23]).

وبالنظر إلى رواية الريف في الجزائر، فإنها ارتبطت بأحداث الثورة حتى أن الناتج الروائي بعد الاستقلال يكاد ينحصر في هذه الموضوعات، ذلك أن "الصراع مع الاستعمار لا يكلفهم عناء اتخاذ الموقف الواضح من مختلف القضايا الملحة المطروحة أمامهم".([24]) وما يعزز هذا الرأي ما ذهب إليه الروائي الطاهر وطار بقوله: "لقد عبر الأدب الجزائري قصة ورواية عن الحرب التحريرية أحسن تعبير لن في عالم واحد هو عالم الريف، حتى لكأن الريف وحده هو الذي خاض الثورة، ولأن المدينة ظلت طوال تلكم الفترة نائمة  لا تحيى سلبا ولا إيجابا، وقد ظل هذا نقطة ضعف أدبنا"([25])، كما ظل الريف فضاء ضاغطا حتى حين عرفت الجزائر جملة من المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ومن الطبيعي أن تحاول الرواية فهم هذه المتغيرات والمشاكل التي تطرحها كالصراع الطبقي والتفاوت الاجتماعي، مسألة الأرض، العادات والتقاليد، النزوح الريف.. .

من الروايات التي عالجت مشكلة الصراع القيمي بين الريف المتشبث بأعرافه وقيمه، وبين المدينة بكل ما تحمله من تنوع جنسي وإثني وطبقي وفكري.. رواية "الجازية والدراويش" لعبد الحميد بن هدوقه.     

تلعب الفضاءات المفتوحة دورا بارزا في رواية (الجازية والدراويش) )[26]) لعبد الحميد بن هدوقه. ومن أهم هذه الفضاءات المدينة والقرية. في هذه الرواية تظهر المدينة مكانا ثانويا، جاءت صورتها باهتة كما لو أنها فقدت ارتباطها بالشخصيات. فعلى الرغم من أنها أمكنة حضارية لها ثقافتها وتاريخها -كونها ارتبطت بقيم العلم والثقافة- إلا أنها فقدت الكثير من القيم الإنسانية، فقد جاء ذكرها كعالم مقابل لعالم الدشرة، حيث تتشكل صورة المدينة في أذهان القرويين من خلال ما يرد منها من أفكار ومشاريع عن طريق الوافدين إلى الدشرة كالطلاب المتطوعين، خاصة الطالب "الأحمر" الذي تنم سلوكاته عن التطرف الذي لم يألفه أهل القرية مما جعلهم ينفرون منه، كما أثار لباس صافية الفاضح –على حد تعبيرهم- وجرأتها على التدخين حفيظة أهل الدشرة، فبدأوا ينسجون حكايات حول حياة المدن وسكانها، من ذلك قولهم إن النساء في المدينة يتزوجن بستة رجال. وبالإجمال لم تنل المدينة ولا أهلها استحسان أهل القرية، فقد كان هؤلاء يعارضون مشروع الطلبة المتطوعين و"الشامبيط" الهادفين إلى ترحيل السكان عن الدشرة وبناء قرية سهلية تجعل الدشرويين أكثر اتصالا بالحياة الحديثة ويمكن "الشامبيط" من تسليك بضائعه التي تأتيه من أمريكا وكان من الصعب إيصالها إلى الدشرة وهي على تلك الحالة، ويمثل الرحيل إلى القرية الجديدة في نظر "الجبايلي" حالة هبوط وهو يستعمل هذه الكلمة للدلالة على التخلي عن قيم مثالية عالية من أجل أمور دنيوية تافهة.

في المقابل يهيمن الفضاء القروي بحضوره المكثف والمتألق، حيث ينقلنا السارد إلى الدشرة المجال الطبيعي للمجتمع الزراعي، حيث المناظر الأخاذة من جبال وأشجار ومياه وسماء.. وصف له دلالته الظاهرة والخفية، فمن جهة يظهر الطامعين ممثلين في "الشامبيط" ومن جهة أخرى تعلق أهل الدشرة بدشرتهم. "الشامبيط" يمثل الأطماع الخارجية القادمة من أمريكا حيث يسعى بالتعاون مع شركة أجنبية في بناء سد وترحيل السكان إلى قرية جديدة. هذا المشروع يمثل قمة الانسلاخ عن الماضي والارتماء في أحضان التبعية للأجنبي. ويمثل الحكومة الطالب "الأحمر" والذي أرسل في مهمة إقناع سكان الدشرة بتركها إلى قرية سهلية حيث المرافق الحياتية العصرية، نقلة نحو الحاضر. فهو يكره العلو حيث الحصانة والرفعة والسمو، كما يمقت كل ما يمثل هذه القيم (الجامع، الجبل، الصفصاف) والتي تمثل الدين، الماضي والفطرة. نظرة تخالفه فيها صفية التي ترى فيها الجمال وحقيقة الحياة.

الطيب الشخصية التي تمثل الشعب يفكر في مشروع آخر تشاطره فيه صفية، مشروع قرية جديدة تجمع بين الماضي والحاضر، فهو يرى الصفصاف الذي ترك يعلو على راحته يحجب النور على القرية فينبغي قص أطرافه ولكن دون اجتثاثه من الأرض، ويرى الخرافات وقد تمكنت من عقول الناس بسبب ممارسات الدراويش والتي سمحت لهم ببسط سلطتهم عليهم، فيقرر محاربة كل أشكال البدع وغرس مبادئ الدين الصحيحة في عقول أهل الدشرة، وكان عليه أيضا أن يقنعهم بضرورة التمسك بالتاريخ لأنه أساس وجودهم كما ينبغي عليهم أن يعيشوا حاضرهم بكل التزاماته.

اتخذت القرية إذن في هذه الرواية صورة الصراع مع المدينة، فهي تجسد القيم الإنسانية والأخلاقية بكل أبعادها، في المقابل تبدو ملامح المدينة -وقد انسلخت عن تلك القيم- مثقلة بأوهام الحضارة الوافدة، والتي كرست شهوة التملك والسيطرة، فأحدثت خراب الروح والإنسان.

رواية الريف منتوج ثقافي، تاريخي، يرصد واقع الريف وقضاياه، ويستمد مواضيعه من نسيج المجتمع الريفي. وإذا كانت هذه الرواية في السابق قد عالجت قضايا مصيرية كبرى للأمة كمواضيع الاحتلال والتحولات الجذرية التي شهدها الريف بعد الاستقلال، فإن السؤال الذي يبادر إلى الذهن في الوقت الراهن هو مدى قدرة رواية الريف على فرض نفسها في ظل الاهتمام الكبير الذي يوليه القارئ والإعلامي لرواية المدينة؟ أي عن ديناميكيتها واستمرارها، أو ثباتها؟  وهل ما زال هناك روائيون يتناولون حياة الريف، هذا العالم المنسي، خصوصا بعد أن ركن معظمهم إلى عوالمهم الداخلية، وابتعدوا عن قضايا المجتمع؟.  

              

الهوامش

1-  فافاتح عبد السلام: ترييف السرد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،ط1 2001، ص5

2-  font> حسحسن محسب: قضية الفلاح في القصة المصرية، المكتبة الثقافية، القاهرة، 1971، ص5

3-  font> محمد عبد الغني: الفلاح في الأدب العربي، المكتبة الثقافية، القاهرة، 1965، ص70

4-  محمد كامل الخطيب: نظرية الرواية، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1990،ص19

5-  محمد عبد الغني: المرجع السابق، ص5

6-  ماجد صلاح الدين: الواقعية في الأدبين السوفيتي والعربي، (دن)، دمشق، 1984،ص266

7-  François Deplanques: aux sources de l'incendie, litteratue comparée, Paris 1971,p612

8-  George Sand: La Petite Fadette, Pocket Classiques, Paris 1999,6-8

9-  جورج لوكاش: دراسات في الواقعية الأوروبية، ترجمة أمير اسكندر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1972.

10-George Sand: La mare au Diable, Garnier Flammarion,1964

11-محمد كامل الخطيب: المرجع السابق، 1999

12-ادوارد سعيد: الثقافة والامبريالية، ترجمة كمال أبو ديب، دار الآداب ط2، ، بيروت،1998ص139

13-عبد المحسن طه بدر:الروائي والأرض، دار المعارف، القاهرة، 1979 ص54-75

14-عبد الرحمان الشرقاوي: الأرض، دار الكتاب العربي، القاهرة، ط3، 1968،ص313-315

15-طه بدر:الروائي والأرض، ص55

16-هيكل: زينب، مطبعة السنة المحمدية، ط7، القاهرة ص314

17-المصدر نفسه، ص 330

18-المصدر نفسه، ص335

19-حسن محسب: قضية الفلاح في القصة المصرية، ص 61

20-المرجع نفسه، ص74

21- عبد الرحمان الشرقاوي: الأرض، ص317

22-المصدر نفسه، ص313

23-نفس المصدر، نفس الصفحة

24-واسيني الأعرج: اتجاهات الرواية العربية في الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1986، ص277

2525-عثمان عبد الفتاح:الرواية العربية الجزائرية،الهيئة العربية العامة للكتاب، مصر 1993، ص86

26-عبد الحميد بن هدوقة: الجازية والدراويش، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1983