الشاعر محمد المليجى
في فلسطينياته
أ.د/
جابر قميحةالشاعر من مواليد الدقهلية بمصر سنة 1971 - حصل على ليسانس كلية أصول الدين بالأزهر سنة 1993 - حصل على الماجستير بامتياز عام 2001، وهو يعمل مدرسًا مساعدًا بكلية أصول الدين، بجامعة الأزهر بالمنصورة، نشر له عدد كبير من القصائد فى الصحف والمجلات العربية والمصرية.
فوقفتنا فى هذه الدراسة مع شاعر معلم، تعلم فى الأزهر الشريف، وفيه تخرج، وفيه يعمل معلمًا، وإذا كان التعليم رسالة ربانية إنسانية، فإن إبداع شاعرنا المعلم الشاب يشى بأنه يؤمن «برسالية» الشعر، أى أن الشعر له هدف عليه أن يعمل على تحقيقه بالكلمة المعبرة، والعبارة الآسرة، والوجدان الصادق.
وواضح أن هذا المعنى يختلف تمامًا عن الالتزام بمفهومه «الوجودى»، ومفهومه «الماركسى»، وهو فى الحالين يكاد يكون مرادفًا «للإلزام»، الذى يمثل ضريبة قهرية - من الخارج - على شخصية الأديب، أما إيمان المسلم برسالية الإبداع - وهو ما يمكن أن نسميه «الالتزام الإسلامى» - فمصدره العمق الإيمانى للأديب، وبتعبير آخر يتلاحم بنسيج شخصيته الأدبية التى تعبر بصدق عن الفطرة الإنسانية بتلقائية، ويكون مادة ذائبة فى هذا النسيج.
* * *
وإبداع شاعرنا يتمثل فى ديوانين هما بترتيب الصدور: ديوان «أذن يا بلال» ، وديوان «أشجار رام الله تنادى» ، ثم عدد من القصائد صدرت بعد ذلك.
وككل الشعراء الإسلاميين نرى لقضايا الأمة العربية والإسلامية وخصوصًا قضية فلسطين تحظى باهتمام واف ، كما نرى لهموم المسلمين، و للشخصيات الإسلامية التراثية، ووقائع التاريخ الإسلامى - مساحة ملحوظة فى إبداع الشاعر.
ويهمنا فى هذا المقام ما يعالج الفلسطينيات شعبًا وأرضًا وتاريخًا، وقيمًا، وهو يمثل أغلب ما نظم . ويتمتع الشاعر فى شعره بطول النفس، ولكن بلا إسراف، وإن لم يحرم شعره من مقطوعات قصيرة ورباعيات جيدة كقوله موجهًا حديثه إلى الحجارة المجاهدة:
يا حجر التحرير الباسلْ فلتُهلك كفرًا ومروقا
ولتزهق بالحق الباطل إن الباطل كان زهوقا
وإلى حماس المجاهدة:
يا أمل الأرض المحتلة يا سيفًا فى وجه لعينْ
يا عزًا فلتمحُ الذلهْ عن وجه الوطن المسكين
وفى شعر الشاعر مساحة واسعة «للشخصية الفلسطينية» ونلتقى منها نوعين أساسيين: مسماة، وغير مسماة:
الشخصية الفلسطينية المسماة شخصية «أحمد ياسين»، والشاعر يستهل قصيدته فيه استهلالاً طيبًا فيقول:
شـيـخَ الـجهاد تحيةً لبيتَ صوت القدس يَنشد مسلما نـاديتَ حى على الجهاد تهزنا وبـرغم كرسيِّ القعيد تعاظمتْ فـرأيـتُـه جبل الصمود بمقعد | وسلامايـاسـيـن طـبت معلمًا عمرًا .. صلاح الدين - أو قسَّاما نـبـرات صوتك عزة .. إقداما خـطـوات دربـك ثبَّتت أقداما ورأيـتـهـم بعروشهم .. أقزاما | وإماما
وبعد حديث وافٍ فى بضعة أبيات عن أثر أحمد ياسين فى إيقاظ المشاعر، وإلهاب الأحاسيس، وبعث الجهاد فى الرجال والنساء والأطفال، يختم الشاعر قصيدته بالالتفات إلى القدس بالأبيات الآتية:
يـا قـدس صبرًا فالجهاد بـشـراك بالنصر القريب تزفه وكـتـائـب الـقسام ترفع راية هـذى دمـانا يا عروس عروبتى | سبيلنايـا قبلتى الأولى، ويا مسرى النبي قسمات صبح العيد فى وجه الصبي يـا شمس لا تستسلمى، لا تغربي ظـمـأى لـتربك، قبّليها واشربي |
وياليت الشاعر انطلق على نحو أوفى فى رسم ملامح الصورة النفسية للبطل أحمد ياسين، وما عاناه فى مسيرة الحياة والجهاد.
ومن الشخصيات المسماة كذلك «محمد الدرة» الطفل الشهيد، وللشاعر قصيدتان متتاليتان فى ديوانه «أشجار رام الله تنادى»، الأولى بعنوان: «يا درة الشهداء هل تفتيني؟» وهى مطولة تقترب من الأربعين بيتًا، لم يظفر الدرة منها إلا ببيتين فى المطلع؛ لأن الشاعر - كما يظهر من سياقة القصيدة - لم يقصد بمطولته تصوير الطفل الشهيد، ولكنه اتخذ من شخصية الدرة منطلقًا لإسقاطاته السياسية الواضحة التى تدين الكبار الذين - بخنوعهم وضعفهم - أضاعوا الأرض، وفرطوا فى العِرض، وخانوا القضية.
فى مطلع القصيدة يعبر الشاعر عن ألمه وحزنه؛ لأنه يتمثل دماء الدرة، وأحزان والديه لفقده، ومواكب الشهداء متجددة متواصلة، والقدس تهود، وتنهب، والمسجد الأقصى يصرخ ولا مجير، وكل أولئك جعله مسهدًا لا يذوق للنوم طعمًا، وبعد ذلك يوظف الشاعر حيلة فنية تتمثل فى إبراز شخصية - واقعية أو مبتكرة - لتكون وسيلة للإسقاطات السياسية وإدانة الأوضاع والشخصيات التى يحرص الشاعر على إدانتها وإلقاء المسئولية عليها، وفى كل الأحوال يجب أن تكون «الشخصية الوسيط» - فى نسيجها الفكرى والعقلى والعقدى، وإمكاناتها الذاتية - مناسبة لما تفرغه من إسقاطات، حتى يقتنع المتلقى، ويستجيب لما حرص الشاعر على تحقيقه عقليًا ووجدانيًا.
وتمثلت الحيلة الفنية فى «الشخصية الوسيط»، شخصية محمد الدرة، وهذا ما يشي به العنوان ابتداء يا درة الشهداء هل تفتيني، فقد نصّب الشاعر الطفل البريء الشهيد محمد الدرة مرجعًا أو مفتيًا، بل قاضيًا صارمًا، يقصده الشاعر ويسأله أو يستفتيه ببيت كرره عدة مرات، وهو:
من يدخل القدس الشريف محررًا يا درة الشهداء هل تفتينى؟
وهذا البيت يتصدر مجموعات من الأبيات، يتمثل فيها قرارات الإدانة التى تجرى على لسان الطفل، وكأنه فيلسوف، أو خبير سياسي كبير، فنرى الدرة يدين سياسة القمم والشجب، والسكوت المخجل، وتزوير الانتخابات، والنفاق، وانتهاك سيادة القانون، ودكتاتورية الحكم، والفجور الإعلامي... إلخ.
ثم يكرر الشاعر البيت السابق للمرة الأخيرة، فيكون الجواب النهائى للدرة:
سأحرر القدس الشريف مجاهدًا والله سدد رميتي بيميني
ومعى الذين توضئوا بالنوريم لأ وجههم وفؤادهم بيقين
ونخلص بعد الانتهاء من القصيدة أن الصوت الزاعق هو صوت الشاعر، وتوظيف شخصية الدرة فيها لا قيمة له؛ لأن الشاعر ألبسها ثوبًا فضفاضًا جدًا، فأسقط القيمة الفكرية والفنية للشخصية المستدعاة، وخصوصًا إذا كان الدرة مجرد ضحية، وأنه لم يرفع حجرًا، ولم يهتف بسقوط العدو، إنما كان يقوم بعبور الشارع مع والده فى طريقهما إلى المنزل، وبهذا التشكيل المسرف يصعب - بل يستحيل - إقناع المتلقي بالتناسب بين الشخصية، وما ساقه الشاعر على لسانها.
**********
وحرصًا منا على أن يفيد أبناؤنا من القيم والقواعد النقدية السديدة يبقى أمامنا استيفاء نقدي يتعلق بسابقة للشاعر فى التعامل مع شخصية صحابية جليلة هى شخصية بلال رضي الله عنه ، وسيتضح لنا أن قصيدة «أذن يا بلال» تعد أصلاً لمنهج الشاعر فى تمكين الشخصية من إسقاط ما يؤمن به الشاعر على المجتمع المعاصر، وهى سابقة فى نظمها على قصيدة الدرة ببضع سنين، ويظهر أن الشاعر يعتز بها اعتزازًا خاصًا، فعنون ديوانه الأول بعنوان القصيدة «أذن يا بلال».
والمفروض - كما ذكرنا - أن تكون الشخصية التاريخية المستدعاة غنية بالقيم النفسية والسلوكية، وأن يكون لها دور فى المسيرة الإنسانية على نحو من الأنحاء، بحيث يمثل وجودها الذاتي من القيم والمعاني ما يمكنها من أن تكون معينًا للأجيال، فى نطاق ما عرفت به، واشتهرت من ملامح وأعمال، ففى نطاق الدعوة إلى تحرير القدس يكون من البدهي استدعاء شخصية صلاح الدين الأيوبى.
وفى نطاق البطولات الإسلامية الخارقة تكون شخصيات خالد بن الوليد، وأبى عبيدة، وسعد بن أبى وقاص (رضى الله عنهم) هى أنسب الشخصيات للاستدعاء، لتنفث فى جيل الشباب روح البطولة والفداء والتضحية والثبات.
وبلال رضي الله عنه يحمل - على مدار التاريخ الإنسانى كله - قيمتين عظميين: الأولى: معنوية وهى الصبر، والثانية: مادية وهى نداوة الصوت، وجماله، وقدرته على التأثير، لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يناديه قائلاً: أرحنا بها يا بلال، أى ادْع إلى الصلاة بصوتك الندي حتى نستشعر راحة النفس والقلب.
وهذا لا يلغى السمات الأخرى من تقوى وصلاح، وحرص على الجهاد، وصلة الرحم... إلخ، إنما نحن فى مقام إبراز الشخصية بصفاتها الغالبة التي تقترب مما يسميه عباس العقاد «بمفتاح الشخصية».
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أحاديثه يؤكد هذه الصفات الغالبة، ويعرف المسلمين بها: فخالد هو سيف الله المسلول، وزيد بن ثابت كان أقرأ الناس، وأكتب الناس، أى أبرعهم فى القراءة والكتابة، وأبو هريرة كان أشهر الرواة عن رسول الله . وابن مسعود من أحفظ الصحابة لكتاب الله، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يسمع منه تلاوته، وهو الذى نزل عليه، ولم يكن فى بطولة خالد فى القتال، كما أن خالدًا لم يكن يحفظ من القرآن إلا القليل جدًا؛ لأن الجهاد استغرق سني حياته بعد إسلامه، وهو الذى اعتبر سنة الهدنة بين المسلمين وأعدائهم «سنة النساء» أى سنة لا تليق بالرجال؛ لأنها خلت من المعارك والجهاد.
وتبقى شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم هى المعين الأعظم لكل الملامح الإنسانية العليا، فهو القدوة والأسوة، وهو على خلق عظيم بشهادة الله سبحانه وتعالى.
وفى قصيدة «أذن يا بلال» يدعو شاعرنا الصحابى الجليل أن يقوم ويؤذن، ويمزق نوم الرجال، ويبعث حب الكمال، ويحول ذرات الجبال رمالاً، وينظم صفنا، ويُحَكِّمُ فينا قرآننا، ويعيد أمجادنا، ويحرر القدس، وينقذ الطفولة البريئة، ويحطم الزور، ويبعث من فى القبور «كذا»، ويطهر الأرض من النفاق، والكفر....إلخ.
وكل أولئك يعد خروجًا بالشخصية التاريخية عن طبيعتها، وهو نهج - كما ذكرنا - يرفضه المنطق التاريخي، والمنطق الفني، والأغرب مما مضى أن الشاعر يختم قصيدته الطويلة بقوله:
ليس من أعنى بلالْ
إنما كل الرجال
من عهدناهم جبال
وهى نتيجة غريبة تحسب على الشاعر؛ لأن من حق المتلقي أن يسأل الشاعر، فلماذا اخترت بلالاً بخاصة، ولم يكن الاستنهاض موجهًا إلى الرعيل الأول من الصحابة؟
هذا ، ولاشك أن الشاعر سيحاول أن ينقذ القصيدة مما يثقلها من كسور عروضية، وأخطاء لغوية وقاعدية مما لا يتسع المقام لعرضه.
**********
وفى إبداع الشاعر، يواجهنا نوع آخر من الشخصيات هو «الشخصيات غير المسماة» أى المذكورة بالوصف لا الاسم ، كشخصية الشهيد، دون تحديده فى شخصية معينة، وبين يدى من هذا اللون قصيدة من ثمانية وعشرين بيتًا نظمها الشاعر بعد صدور ديوانيه، وهى - فى نظرى - تمثل طفرة فنية وفكرية للشاعر، وهى قصيدة «أم الشهيد» وفى القصيدة ثلاث شخصيات:
الأولى: شخصية الشهيد.
والثانية: شخصية أمه.
والثالثة: شخصية أبيه.
ولا نسمع فى القصيدة كلها إلا صوت الأم تتحدث إلى زوجها بعد أن دفن بيديه الابن الشهيد، وبعاطفة الأمومة الصادقة، وبطريقة الاسترجاع Flash back)) تذكر الأم زوجها بابنهما الشهيد من مهده إلى لحده، تقول الأم مخاطبة زوجها بعد دفن ابنهما الشهيد:
أهـلتَ التراب على وعـدت بـلـيل به ما به وتغمض عينيك كى لا تُرى | وجههوغـيبت بسمتَه فى تـخـبئ دمعًا حزينًا جرى فـتبصر فى مقلتي ما جرى | الثرى؟
وتمضى الأم بأسلوب عفوي صادق تذكر زوجها بمراحل حياة ابنهما، وخصوصًا طفولته الباكرة فى ضحكه وبكائه ودلاله، إلى أن لقى الله شهيدًا بتفجير نفسه فى الأعداء، وترجع عظمة هذه القصيدة إلى المظاهر الآتية:
1 – التنزه عن الغلو الزاعق فى التصوير والتعبير.
2 - براعة التوفيق بين عاطفة الأمومة ومنطق الوقار العقلي القدير على الاستعادة والاسترجاع، ورواية الذكريات.
3 - التصوير الآسر الموحي، وخصوصًا فى تلك الصور غير المحلقة، وأتمثل هنا ببيتين:
وتغمض عينيك كيلا تُرى فتبصر فى مقلتي ما جَرَى
فالأب المفجوع - وقد امتلأت عيناه بالدموع - يغمض عينيه حتى يخفى دموعه، فيثير دموع زوجته.
والبيت الثانى:
أتذكر قبلته كلما هتفتُ به «أعطنى سكرا»
والتعبير بالسكر عن ريق الطفل تصوير بسيط بارع يدور فى بيوتنا، ويوحى بالحب والاعتزاز.
كما نسجل للشاعر هنا أنه استطاع أن يبتكر بعض الصور التى يغبط بحق عليها، كما نرى ونسمع على لسان الأم:
بربك لا تبكين ابننا فما مات لكنه قد سرى
إلى الله يرفل فى لغمه يدندن: إن الله اشترى
4 - قدرة الإيحاء فى الألفاظ ، وقد راحت ترسم جو الأسرة والطفولة والأمومة، وطبيعة العلاقة بين زوجين مؤمنين بحق الله والوطن . وأغلب ألفاظ القصيدة تصلح أن تكون تمثيلاً دالاً على هذه السمة.
فالقصيدة معمار فنى متكامل من حق الشاعر أن يفخر به، ومن حقه علينا أن نقدره.
ونرى بصمات القرآن الكريم واضحة فى كثير من ألفاظ الشاعر وصوره . كما أن له قصائد من شعر التفعيلة تفوق قصائده الخليلية، وأنا على يقين أنه سيراجع «علم العروض» من جديد؛ لأن الكسور كثيرة فى تضاعيف القصائد، وفقه الله شاعرًا، ومعلمًا، وجنديًا من جنود الإسلام.