الغموض/ الإبهام: الدلالة والإشكال

الجزء الرابع

د. محمد دخيسي - وجدة المغرب

[email protected]

3 مظاهر الإبهام: التشتت واللاوضوح الدلالي:

قال محمود درويش في إحدى قصائده:

تتحركُ الأحجارُ

فالتفُّوا على أسطورةٍ

لنْ تفهموني دون معجزةٍ

لأنّ لغاتَكم مفهومةٌ.

إنَّ الوضوحَ جريمةٌ..[1]

إن الخطاب الشعري الموقع بين أيدينا يوضح جليا ما يمكن أن نقوله في صفحات متعددة، لذلك فلن نكثر الكلام في هذا الباب من بحثنا ، ما دمنا أعطينا المباحث السابقة حقها من العناية والتمحيص، وما دمنا في هذا المجال الخاص بالغموض ، فلا بأس من أن نعطي بعضا من ملامح التحول الدلالي في النص الشعري المساهم في هذا الغموض."إن قراءة القصيدة مثل جدول من المفردات تتيح تجميع مثل هذه الطبقات الدلالية، غير أن عملية التجميع هذه لا تحسب حسابا ل(سياق المعنى) نفسه الذي يحدد المعنى ويضبطه، أي يختصر من احتمالاته، فإذا كانت كل مفردة تتألف من عدة سمات دلالية، فإن هذه السمات تتموضع في سياق وتنسج علاقات مبرزة سمات دلالية على حساب أخرى."[2] لذا فقد حاول الشاعر الحداثي تقمص قناعات كل التيارات الأدبية مستلهما الخواص والدوال التي بإمكانها أن تعطي له صفة الخصوصية عن غيره، وبذلك يحاول كل واحد أن يتجاوز سابقيه بإعطاء الدلالات الجديدة. إن الشاعر بذلك لا يتغيا  الغموض أو الإبهام بل الخلق والإبداع. تقول يمنى العيد في صدد الحديث عن القصيدة الجيدة:" حقول الدلالات لم تعد في النص الحديث منضدة ومفروزة على قاعدة الموضوع المشترك، بل هي متداخلة ، متشابكة بحيث يبدو النص كلا معقدا وبالتالي غامضا..تسري الدلالات في النص، تغور وتدعونا لأن نجول ببصرنا بحثا عنها ..هكذا حين نقرأ عبارة أو مقطعا تصلنا لأنها حاضرة، ولا تصلنا لأن حضورها يسري، ويغيب ..  وعلينا أن نراه في غيابه أو في إسرائه، في الظلمة التي تغيبه."[3]

إن، القول بالغموض فيما يخص الدلالات يتبدى نهائيا بالتمحيص في النص الشعري والتحري في أبعاده المعرفية والفكرية والغوص في ذات الشاعر الداخلية والنظر في الإطار الذي يحكم النص. لذلك لا يبقى مجالا للقول بالغموض وإنما بعد الرؤى عن القارئ العادي، والشعر رؤيا تحكمه ضوابط موضوعية وذاتية وفكرية...

" إن القصيدة الحديثة رؤيا، ووعي حاد باللحظة الراهنة.. تتحول الممارسة الشعرية إلى نبوءة ترهص بنذر التغيير، ويتحول الشاعر إلى أن يكون نبي عصره يستمد وحيه من أعماق الحدس فتتشكل رؤيا من عناصر معقدة يلعب فيها الرمز والأسطورة دورا فاعلا في جميع المتناقضات على صعيد واحد، والتأليف بينها على نحو يفقد شبكة العلاقات التي تنتظم القصيدة منطقيتها،   فيمنح العالم توهجا جديدا ودلالات جديدة."[4]

لا معنى في هذا الموقف أن نقول إن الشعر العربي الحديث غامض أو مبهم، فلا غرو أن المحاولات التي سبق أن فصلنا فيها جلبت للمتلقي محاسن الصدف كلها، بين القائل بالغموض والذاهب مذهب الإبهام، بين القابل والرافض للأشكال الحداثية الجديدة، ونحن في مقامنا لا يسعنا إلا أن نؤكد أن الشعر الحداثي كما يمكن أن نسميه خطا خطوات ثابتة من أجل إقحام الذات الشاعرة والإطارات الخارجية لتشكيل النص الغائب الحاضر، الغائب على القارئ العادي ، والحاضر عند المحترف للقراءات الشعرية والدراسات النقدية الغربية والغربية.

والمعرفة بالضوابط والآليات تسهم بشكل جلي في إبراز هذه الكوامن :" لأن الشعر العربي الحديث تصعب قراءته في غياب معرفة بالشعرية العربية القديمة كما أن أسراره اللامتناهية لا تنفتح."[5]

فإذا كانت اللغة الشعرية كذلك، وإذا كانت الدلالات غائبة/ حاضرة حسب نوعية المتلقي، فإن الغموض يبقى أمرا مرجأ وليس نقصا في الشعر وأن الوضوح التام هو الكمال الشعري. يقول أدونيس:" أن يعرف الغموض في الشعر ليس بذاته نقصا، وأن الوضوح ليس بذاته كمالا، على العكس دليل غني وعمق.. ولو كان الغموض نقصا لسقط من شعر الإنسانية أعظم ما أنتجه."[6]

 خاتمة وتركيب:

من المحتمل أن نكون قد وضعنا علامات على بعض القضايا التي تهم الشعر العربي الحديث من حيث غموضه، وقد استطعنا أن نصل إلى القول إنه غامض على القارئ العادي  وليس مبهما. لأن الإبهام يقف موقفا أحاديا من النص الشعري  ويعتبره مغلقا لا يمكن فتحه. أما الغموض فإنه يرجئ الحديث إلى ما بعد القراءة المتأنية والدقيقة للقصيدة ، وإن غلقت أبوابها فالتـأويل هو المفتاح[7].

إن الظواهر المعقدة والملتوية التي استحدثها الشاعر الحديث ( من شكل للقصيدة وفراغات..) كلها خاصيات لا يمتلك مفاتيحها إلا المتلقي اللبيب. كما أن ظاهرة الغموض ليست قضية جديدة وإنما سارت مع الشعر العربي منذ نشأته وهزت كيان القصيدة وحمَّلتها مقولات غريبة. ويمكن أن نجمع شتات هذا البحث في القول إن:" ظاهرة الغموض ليست مستحدثة، ولكن تغيير قوانين بلاغة النص الشعري المعاصر هو الذي نبه الناس إليها. حيث تعرض الشعر العربي المعاصر لهزة نوعية متكاملة تشمل محيطه العام، ومن ثم فإن الغموض ليس إلا انتقالا نوعيا من قوانين شعرية إلى قوانين أخرى،لا يلبث معها أن يتحول إلى شيء مألوف مع توفر شروط معقدة، أدبية واجتماعية وتاريخية."[8]

فما أحوج الناقد العربي إلى التبصر الحقيقي والواعي حتى لا يتيه في متاهات التهم، ويشك في مصداقية الشعر الذي هو ديوان العرب، إن كان لازال كذلك.

 لائحة المصادر والمراجع:

القرآن الكريم

أدونيس:- زمن الشعر:دار الفكر، بيروت،ط-5،1986.

-  الصوفية والسريالية:دار الساقي، ط- 1، 1992.

الآمدي: الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري، دار المعارف مصر،ط- 2، 1972.

ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط-1، 1990.

ابن طباطبا: عيار الشعر، دار الكتب العلمية، ط-1، 1982.

بول ريكور: إشكالية ثنائية المعنى، ترجمة فريال جبوري غزول، مجلة ألف، الهرمينوطيقا والتأويل، ط-2، 1993،دار قرطبة للنشر.

الجاحظ: الحيوان،تحقيق عبد السلام هارون،ط- 3، 1969.

روبلت هولب: نظرية التلقي، ترجمة عز الدين إسماعيل،كتاب النادي الأدبي الثقافي بجدة، 97،ط- 1، 1994.

سيزا قاسم: توالد المعنى وإشباع الدلالة، مجلة ألف (م-س)

شربل داغر:الشعرية العربية الحديثة، تحليل نصي، ط- 1 ، 1988.

عبد الرحمن محمد القعود: الإبهام في شعر الحداثة،العوامل والمظاهر وآليات التأويل، 279، مارس 2002.

عز الدين إسماعيل: الأدب وفنونه، دار الفكر العربي، ط- 7، 1978.

عبدالقاهر الجرجاني:دلائل الإعجاز (في علم المعاني)، دار المعرفة،بيروت، 1978.

عبد الكريم امجاهد:شعرية الغموض،قراءة في شعر عبد الوهاب البيات،منشورات الموجة، ط- 1،98 .

عبد الله راجع:القصيدة المغربية المعاصرة،بنية الشهادة والاستشهاد،منشورات عيون،ط- 1، 1978، دار قرطبة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء..

عبد الله محمد المهنا: الحداثة وبعض العناصر المحدثة، عالم الفكر، م- 19، 1988.

عبد الوهاب البياتي: تجربتي الشعرية، دار العودة بيروت، 1971.

محمد بنيس:- حداثة السؤال، بخصوص الحداثة العربية في الشعر والثقافة، المركز الثقافي العربي، ط- 2، 1988.

-  الشعر العربي الحديث،صدمة الحداثة (4)، دار توبقال،ط- 1، 1991.

محمد مفتاح: - تحليل الخطاب الشعري، استراتيجية التناص، المركز الثقافي العربي، ط- 2، 1986.

-         في سيمياء الشعر العربي،دار الثقافة، طبعة 1989.

-         مجهول البيان، دار توبقال للنشر، ط- 1، 1990.

-          النص من القراءة إلى التنظير، المكتبة الأدبية، ط- 1، 2000.

محمود درويش: الديوان، دار العودة، بيروت، ط-1 ، 1977.

مصطفى ناصف: نظرية المعنى في النقد العربي، دار الأندلس، ط- 2، 1981.

نازك الملائكة: قضايا الشعر المعاصر، دار العلم للملايين،ط-6، 1981.

نصر حامد أبو زيد: إشكاليات القراءة وآليات التأويل/المركز الثقافي العربي،ط- 2، شتنبر 1992.

يمنى العيد: في معرفة النص، منشورات دار الآفاق الجديدة ، دار الثقافة الدار البيضاء، ط- 2، 1984.

تم بحمد الله.

              

[1]  -محمود درويش: قصيدة الخروج من ساحل المتوسط، الديوان،دار العودة بيروت،ط- 1، 1977، ج- 2، ص- 245.

[2] - شربل داغر: الشعرية العربية الحديثة، تحليل نصي ، دار توبقال، ط-1، 1988، ص- 98.

[3] - يمنى العيد: في معرفة النص، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت/ دار الثقافة، الدار البيضاء،ط- 2، 1984، ص- 101.

[4] - عبد الله أحمد المهنا: الحداثة وبعض العناصر المحدثة في القصيدة العربية المعاصرة، عالم الفكر، مجلد- 19، ع- 3، أكتوبر- نونبر- دجنبر- 1988،ص- 31.

[5] - محمد بنيس: الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها،ج- 4، مساءلة الحداثة، دار توبقال، ط- 1، 1991، ص- 176.

[6] - أدونيس: زمن الشعر، (م-س)، ص- 276.

[7] - نشير أن العرض لم يقف عند هذه الخاصية لأننا كنا قد أفردنا لها بحثا سابقا، والتعرض لها في هذا المجال يعرضنا لمتاهات التطويل والتفصيل.

[8] -عبد الكريم امجاهد: شعرية الغموض، (م- س)، ص-105.