أدب المقاومة: أدب فاعل دائما
السيد نجم
يردد البعض أن أدب المقاومة مفعول به ومنفعلا, وكأنه رد فعل لعدوان من السحاب, وليس لموقع أقدامنا على الأرض دورا. فكان التساؤل: "الأدب المقاوم: أدب فاعل أم أدب منفعل؟" والطريف أن القائلين بتلك المقولة الحائرة المتحيرة.. لم ينتبه أحدهم إلى مبرر مقنع يردده، اللهم الا الاحساس بالقهر الداخلى والاحساس بالهزيمة.. دون أن ينتبه الى عوامل وعناصر القوة فيه وفى قومه. وما أظنه الا سببا لا يقاومة سوى "أدب المقاومة"! خصوصا ونحن نعيش الآن مرحلة من تاريخ الأمة العربية في حاجة إلى حسم وليس إلى تشكيك.
إذا كان "أدب المقاومة" هو الأدب المعبر عن ألذات الجمعية, الواعية بهويتها, المتطلعة إلى حريتها في مواجهة الآخر العدواني.. (وهو اجتهاد بالتعريف لكاتب المقال). أي أن محور المقاومة هي تعضيد ألذات الجمعية والبحث عن عناصر قوتها, ثم البحث عن عناصر ضعفها لتلافيها.. وبالتالي أدب المقاومة يبدأ قبل ممارسة العنف أو الصراع مع الآخر العدواني.. تبدأ بالذات. لذا كان أدب المقاومة معنيا بقضايا: الهوية والحرية والأرض والانتماء.. وفى جانب منه الاهتمام بالتجربة الحربية.
بداية سوف أقتطع من أدب المقاومة, ما يخص التجربة الحربية, فالتجربة الحربية معقدة, ومنبه غير تقليدي.. لا هي أحادية ولا هي بسيطة, ومع ذلك لا تكتسب دلالتها إلا بوجود دوافع داخلية.. مثل دوافع القيم العامة للمجتمعات, ودوافع الانضباط والخضوع لأوامر الجماعة .
عادة درجة استجابة المرء, إما مباشرة أو غير مباشرة لحدوث اللذة أو الألم, فتكون جملة الانفعالات التي يعانيها المرء هي التي ستحدد اتجاهاته وسلوكه. وقد يلجأ إلى "الخيال", تلك القوة السحرية الساحرة القادرة على إنجاز الفن أو الأدب بأشكاله المختلفة.
ما سبق لا يعنى أن أدب الحرب في جوهره وسيلة للخلاص الفردي, ولكن يعنى قدرة "الصفوة" من الناس الذين خاضوا التجربة (الحربية), وقد امتلكوا الخيال والقدرة على التعبير (بأى وسيلة كانت), يحفظون لنا خصوصية تلك التجربة بكل خصوصيتها.. بحيث تصبح دوما نبراسا هاديا للعامة والخاصة.
يأتي "أدب الحرب" في النهاية للتعبير عن هول التجربة ذاتها: يكفى القول بأن النفس البشرية جبلت على حب الحياة, بينما يخوض الأفراد التجربة الحربية مدفوعا بأمر الجماعة (المجتمع) وبناء على رغبتهم, وقد يباركون موته. فالتجربة الحربية ليست ذاتية بالكامل, وتحمل بين طياتها التناقض, فالمقاتل يسعى لاثبات الوجود وتحقيق الأهداف السامية, بينما الواقع المعاش فظ وقاس. لكل ما سبق نحن في حاجة إلى رصد التجربة الحربية وتأملها.
فالصراع باق.. والأفراد الموهوبون لتسجيل التجربة (المبدعون) فرصتنا كي تقف مؤشرات الزمن عند تلك اللحظات أو الأزمنة الخاصة لتصبح عونا ودعما.
فضلا عن أهمية تلك الأعمال في تغطية الجانب النفسي والتربوي الضروري للأجيال الجديدة, حتى تصمد أمام تحدياتها الآتية يوما ما, أي الجانب التوثيقى.
وعلى النقيض، قد يصبح بنى البشر يوما ما قادرون على كبح جماح غوائل أنفسهم, ويصبح للصراع شكلا بديلا عن "الحروب", إذا كانت الأعمال المرصودة عن التجربة الحربية أكثر إنسانية, وتسعى كي تصل رسالة الكاتب/المفكر الحقيقي الغرض الحقيقي من وراء رصد تلك التجربة القاسية, وأنها تجربة إنسانية يجب تأملها.
إن "أدب التجربة الحربية" الحقيقي (الجيد) هو أدب إنساني, يرفع من قيمة الانسان وشأنه, ويزكى القيم العليا في النفوس.. انه أدب الدفاع عن الحياة, والمتأمل قد يجد أن أجود الأعمال الحربية (الإبداعية) هي التي دافعت عن الحياة, ولم تزكى القتل من أجل القتل.
وحول التجربة الحربية..المعنى والدلالة, تعددت الأقوال ووجهات النظر.
: قال الناقد الإنجليزي "ستيفن سبندر":
"لا شك أن الألم والشر ليسا من الأمور الجديدة , وان كانا يزيدان وضوحا في أثناء
الحرب , وربما زاد الألم في الحرب الحديثة"
..إن خصوصية أدب الحرب ترجع إلى أنه أدب التعبير عن الأضداد: الموت مقابل الحياة, رهافة المشاعر مقابل شراسة وفظاظة المقاتلة, انه أدب اشتهاء الحياة حتى قال "هيمنجواى " عن تلك التجربة :
"إن حياة المحارب مصارعة من اجل الأمعاء المفتوحة"
:قال "مارتن فان كريفلد"..
"الحرب هي الشيء الوحيد الذي يتيح ويقتضي في نفس الوقت إظهار كل ملكات
الإنسان وتوظيفها"
:قال "فوكوياما"..
"أن انتصار الليبرالية الديمقراطية الغربية لا يدعو للابتهاج..لأن الزمن المقبل يدعو للملل وهو زمن حزين, لأن "الصراع" من أجل إثبات الذات واستعداد المرء للمخاطرة بحياته من أجل هدف مجرد , والصراع الأيديولوجي العالمي يدعو إلى الجسارة كالإقدام , ويثير الخيال والمثالية ..."
:قالت باحثة أمريكية في شئون الحرب..
"الحرب لا تبدأ مع إعلان اندلاعها , وأنها تنتهي عند وقف إطلاق النار..إذا ما عرفنا أننا في وضع حرب عرفنا أنه مسموح لنا بالقتل والنهب والاغتصاب... أن دخول المرء المعركة وهو على قناعة برفض الحرب سوف يكشف زيف مبرراتها وفشلها... ومع ذلك تجديد معنى "المشاركة" في المعارك على الرغم من رفضها"
:قال "هيجل"..
"تعتبر الرواية مجالا ملائما لوصف الصراع بين شاعرية القلب ونثرية العلاقات الاجتماعية معلنا في الآن نفسه, وظيفتها الاجتماعية."
:قال "باختين"..
"جنس الرواية يتلازم مع التعددية اللغوية..أي تقتضى تعدد وجهات النظر من مواقع اجتماعية مختلفة وهو لا يتم إلا في مناخ قسوة الحرية"
:قال "فتحي غانم"..
"التجربة الحربية توازى الأحداث فى الرواية الجيدة"
:قال "السيد نجم"..
"التجربة الحربية تعبر عن المفارقة في الحياة, فالنفس البشرية جبلت على حب الحياة لكن الناس تريد بطلا!"
وسوف نعرض هنا إلى جنس الرواية في النثر الإبداعي أساسا:
أولا: تصنيف الرواية الحربية من خلال خصوصية المكان..
التجربة الحربية ليست واحدة ولا هي متماثلة, وان جمع بينها جميعا قدر وافر من الوضوح والمكاشفة والشفافية والصدق, وليس فيما قيل من مبالغة ولا تكرارات لفظية لمعنى واحد, هي دراجات وصور النفس البشرية التي تعيش التجربة.
والمتابع للأعمال التي تناولت "ميدان المعركة" يلحظ أنها تتشكل بعدد من الملامح.. غلبة الزمن المستقيم, من الماضي إلى المستقبل.. نوعية الأمكنة الفريدة والغريبة التي قد لا تبرز إلا فيها (الخنادق –الدشم – الأدب خانة – السلاحليك..وغيرها) مع جملة مفردات تتناسب وخصوصية المكان.. بالإضافة إلى الحكاية والو صفية.
أما النوع الآخر من خصوصية المكان, في الأعمال التي تتناول التجربة من خلال المدينة أو القرية, أو الجانب البعيد عن ميدان المعركة المباشر. وربما عظمة بعض الأعمال الخالدة, أنها جمعت بين خصوصية مكان ميدان المعركة والحياة المدنية والريفية. وهى غالبا أكثر إنسانية, ليس بمعنى الأفضل, بمعنى عنصر المشاعر والانفعال حول مفاهيم: الغياب والموت والأسر والتهجير والطرد وغيرها, تعد من محاورها القريبة. وتبدو وكأنها تبدأ بعد الغارة أو الهجمة العسكرية. وربما تلك الأعمال أكثر من غيرها في إتاحة الفرصة للروائي لعرض وجهة نظرة في التجربة الحربية.
ثانيا: تصنيف الرواية الحربية من خلال موقع الروائي
وهى على صنفين, الروائي المشارك في المعارك الحربية في الميدان.. والروائي المشارك للتجربة أو المعايش لها من خلال الحياة المدنية.
وكثيرا ما تبدو روايات الصنف الثاني, روايات تحليلية.. غير حريصة على تفاصيل المعارك.. وربما تبدو فير منفعلة. وهى بذلك على النقيض من الأولى, المتوهجة المنفعلة وربما لا تتضمن إناث البتة!
ثالثا: تصنيف الرواية الحربية من خلال زمن كتابتها
وهى على ثلاثة أحوال.. تلك التي تكتب قبل المعارك..أو أثناء المعارك.. أو بعد المعارك.
ربما تلك القسمة هي التي تبرز بعض اللبس, وربما النقد إلى الرواية الحربية.
فتلك التي تكتب قبل المعارك وأثنائها..كثيرا ما تبدو منفعلة, معبأة بالتحذيرات التي قد تبدو مباشرة أحيانا, وقد يصل الأمر إلى حد رفع الشعارات وإبراز الإيديولوجيات السياسية.
لكن ما دور الفن والأدب إن لم يكن محذرا لجماعته لتهيئتهم في مواجهة الأخطار..حتى وان لم يعد أدبا خالدا؟! أليس من دور الأدب إضاءة المظلم وإرشاد الغافل, خصوصا أثناء فترات الخطر, وما أعظم خطر الحروب على الشعوب.
أما النمط الثالث فهو الذي يكتب بعد المعارك.. حيث يعلن المنتصر أنه الأقوى وأفكاره هي الأبقى, وتزدهر الأفكار المنتشية بالنصر لتعضيد عناصر قوتها. أما المنهزمة فيبقى الروائي على حال أهبة واستعداده للمقاومة. المتابع للمنجز الأدبي خلال فترة الحروب الصليبية, وخلال مائتي سنة, وبالمقارنة بالفترة السابقة عليها, تتأكد له حقيقة تأثير تلك المحنة في دفع المجتمع العربي (حتى في مجال الفقه, وشكل الدولة وتنظيم الجيوش.. ونشير هنا إلى أن فن اليوميات في النثرية العربية لم تعرف إلا أثناء تلك الفترة, على يد صاحب كتاب "الاعتبار" لأسامة ابن المنقذ).
والآن ربما يصعب أن نقرر أن أدب المقاومة انفعالي, اللهم لو اعتبرنا الأناشيد الحماسية وقت الحروب وطبول الحرب الأفريقية.. غير ذات قيمة.