مصطلح الحكاية الصوتية في القرآن الكريم

د.  أسامة عبد العزيز جاب الله

كلية الآداب – جامعة كفر الشيخ

[email protected]

يحتمل هذا المصطلح الصوتي في تنوع دلالاته أكثر من احتمال فيما يُُراد به ، تتمثل في :

1 – أنه قد يُراد به حكاية اللفظ المسموع ( سلفاً ) بصورته الشكلية والإعرابية دون أي مراعاة للموضع الإعرابي الذي يتم التوظيف فيه ، والإبقاء على تلك الهيئة كما سُمعت ، حتى لو تعارضت الصورة المحكية مع الحالة الإعرابية .  فمثلاً إذا سمعنا من يقول : ( قرأتُ اليومَ كتاباً) فنسأله : ( أي كتاباً )  على الحكاية .  ولهذا الاحتمال في تفسير المصطلح تفصيل مكانه أمهات كتب النحو (1) .

2 – وقد يُراد بالحكاية الصوتية حكاية الجملة بعد القول على صورتها السمعية دون تغيير أو تعديل ، وهي حينئذ تدخل في دائرة الجمل التي لها محل من الإعراب ، فتسمى ( الجملة المحكية ) .  ومثال ذلك قوله تعالى : ( قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ) (2)  فجملة ( إني عبد الله ) جملة محكية بعد القول ، أو ما تصرف منه من فعل أو وصف بأنواعه ، وتعرب في محل نصب مقول القول (3) .

ويمكن أن تكون الجملة المحكية بعد القول مقتصرة على حكايتها بالمعنى ، فنقول في حكاية ( محمدُ نائمُ ) ، ( قال أحمد : نائمُ محمدُ ) حكاية بالمعنى دون التقيّد بالترتيب الإعرابي لمفردات الجملة ، أي بإعمال فنية التقديم والتأخير .  ويقدم الجزولي تقسيماً لطيفاً للجملة ليصل بها إلى المحكي وغيره فيقول : " والجملة تنقسم إلى : ُمسَمَّى بها وغير مُسَمَّى بها .  فغير المسَمَّى يُحكى بالقول ، والقول تُحكى به الجملة الواقعة بعده أو جزء منها " (4) .   

3 – وقد يُراد بالحكاية الصوتية حكاية الصوت للمعنى ، أي تمثل الأصوات لمعانيها ، وهو ما يُسمَّى في علم اللغة الحديث بالقيمة الدلالية للصوت(5) .  وقد أدرك اللغويون القدماء هذه المسألة وفصلوا القول فيها .  فابن جني يقول: " أما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع ، ونهج متلئب عند عارفيه مأموم ، وذلك أنهم كثيراً ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبَّر بها عنها ، فيعدلونها بها ويحتذون عليها ، وهذا أكثر مما نقدره ، وأضعاف ما نستشعره .  فمن ذلك قولهم : ( خَضَمَ ، وقَضَمَ) ، فالخضم لأكل الرَّطِب كالبطيخ والقثاء وما كان نحوهما من المأكول الرطب .  والقضم للصلب اليابس نحو : (قضمت الدابة شعيرها) ونحو ذلك .  فاختاروا (الخاء) لرخاوتها للرطب ، و (القاف) لصلابتها لليابس ، حذواً لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث " (6)

فالفرق الدلالي بين (الخضم) و(القضم) فرق صوتي في المقام الأول ؛ إذ حدث تبادل بين صوتي (الخاء) و(القاف) تبعه فيما بعد تغير دلالي واضح .  ولابن جني جهد مشكور في تبيان هذه الجزئية (7) .

وهذا الذي ذهب إليه ابن جني من إثبات القيمة الدلالية للصوت ، أو حكاية الأصوات لمعانيها بما يشاكل تلك المعاني هو عين ما توصلت اللغوية الحديثة التي تقرر أن الانتقال من الفونيم ( الصوت ) الذي يدل على نفسه بنفسه إلى الكلمة التي تدل على شيء آخر لا يُعَد انتقالاً كبيراً ، وذلك لأن الكلمات في أصلها تتألف من فونيمات ، والمعاني الناتجة من وضع الكلمات في تراكيب بنائية معينة تختلف تماماً عن معاني الكلمات في صورتها المقررة (8) .

ويلحظ تواتر اللغويين على معالجة ابن جني لهذه المسألة ، وتمثلهم لها بصورة دقيقة ، كما يتضح في مؤلفاتهم الثرية (9) .  

وهذه الاحتمالات لدلالات مصطلح الحكاية الصوتية نجدها بصورة واضحة متمثلة في آيات النص القرآني أيما تمثيل .  وذلك يتضح أكثر من خلال تحليل بعض الأمثلة القرآنية التي نختار منها ما يوافق دلالة مصطلح الحكاية الصوتية خاصة حكاية الصوت لمعناه ؛ إذ نجده مدللاً على التلوين الصوتي بصورة أكيدة في سياقات القرآن الكريم . 

فقد توافرت طائفة من الألفاظ الدقيقة عند إطلاقها في القرآن ، وتتميز هذه الدقة بكون اللفظ يدل على نفس الصوت ،  والصوت يتجلى فيه ذات اللفظ ،  بحيث يستخرج الصوت من الكلمة ،  وتؤخذ الكلمة منه ، وهذا من باب مصاقبة الألفاظ للمعاني بما يشاكل أصواتها ،  فتكون أصوات الحروف على سمت الأحداث التي يراد التعبير عنها .  و فيما يأتي أمثلة لهذا الملحظ في ألفاظ القرآن العظيم :

1- مادة ( خرَّ ) :

توحي هذه المادة في القرآن بدلالتها الصوتية بأن هذا اللفظ جاء متلبساً بالصوت على سمت الحدث في :

- قوله تعالى : ( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ) (10) .

- قوله تعالى : ( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهمْ ) (11) .

- قوله تعالى : ( وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَكأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ ) (12) .

- قوله تعالى : ( فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ ) (13) .

- قوله تعالى : ( فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ) (14) .

فإن هذا اللفظ وقد جاء بصيغة واحدة في عدة استعمالات يدل بمجمله على السقوط والهوى ، وهذا السقوط ، وذلك الهوى مصحوبان بصوت ما ، وهذا الصوت هو الخرير ، والخرير هو صوت الماء ، أو صوت الريح ، أو صوتهما معاً ، فالحدث على هذا مستلٌّ من جنس الصوت ، ومن هنا يستشعر الراغب ( ت 502هـ‍ ) دلالة اللفظ الصوتية فيقول :" فمعنى خرّ : سقط سقوطاً يسمع منه خرير ، والخرير يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من علو ؛..  وقوله تعالى: ( خَرُّوا سُجَّداً ) (15)  فاستعمال الخرّ تنبيه على اجتماع أمرين : السقوط ، وحصول الصوت منهم بالتسبيح ، وقوله من بعده ( وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) فتنبيه أن ذلك الخرير كان تسبيحاً بحمد الله لا بشيء آخر" (16) .

ووجه الدلالة فيما يبدو أن الخر يأتي بمعنى السقوط من شاهق ، وأن الخرير إنما يستعمل لصوت الماء أو الريح أو الصدى محاكياً لهذا اللفظ في ترديده ، فلم يرد مجرد السقوط من ( خر ) وإنما أراد الصوت مضافاً إليه الوقوع والوجبة في إحداث هذا الصوت ،  وكانت هذه الإضافة الدلالية صوتية سواءً أكانت في صوت الماء ، أم بالوقوع والسقوط ، أم بالتسبيح (17)

2 ـ مادة ( صرّ ) :

كما في كلمة ( صر ) من قوله تعالى : ( كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ) (18) .  أو كلمة ( صرصر ) في كل من قوله تعالى : ( إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ ) (19) .  وقوله تعالى : ( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ) (20)

هذه المادة في هذه الصيغ الثلاث : مرفوعة ، ومجرورة ، ومنصوبة ، وردت في القرآن على نحو توظيفي  نلمس فيها اصطكاك الأسنان ، وترديد اللسان ، فالصاد في وقعها الصارخ ، والراء المضعّفة ، والتكرار للمادة في صرصر ، قد أضفتا صيغة الشدة ، وجسّدتا صورة الرهبة ، فلا الدفء بمستنزل ، ولا الوقاية متيسرة ، وذلك ما يهدد كيان الإنسان عند التماسه الملجأ فلا يجده ، أو النجاة فلا يصل شاطئها ، أو الوقاية من البرد القارس فلا يهتدي لها (21) .  في لفظ ( الصر ) ذائقة الشتاء ، وأصوات الرياح العاتية ، وهذه المادة كما عبر عنها الراغب " ترجع إلى الشدة لما في البرودة من التعقد " (22) .

ويرى الزمخشري أن : الصر الريح الباردة نحو الصرصر ، وفيه أوجه : أحدها : أن الصر في صفة الريح بمعنى الباردة ، فوصف بها القرة بمعنى فيها قرة صر ، كما تقول : برد بارد على المبالغة .  والثاني : أن يكون الصر مصدراً في الأصل بمعنى البرد فيجيء به على أصله .  الثالث : أن يكون شبه ما كانوا ينفقون بالزرع الذي جسه البرد فذهب حطاماً (23)

ويمكننا نضع أيدينا على الحس الصوتي في اللغة ، فيعطينا دلالة خاصة مواكبة لسياق الحدث في هذا الصوت ؛ فريح صر وصرصر شديدة البرودة ، وقيل : شديدة الصوت ، وصر وصرصر : صوت الصرير .  قال ابن الأنباري ( ت 327 هـ ) في قوله تعالى : ( كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ) (24) فيها أقوال : أحدها :  فيها صر أي برد ، والثاني فيها تصويت وحركة .  والصرة أشد الصياح تكون في الطائر والإنسان .  وصر صماخه صريراً : صوّت من العطش ، وصرصر الطائر : صوت .  ويقال صر العصفور يصرّ إذا صاح ، وصر الجندب يصر صريراً ، وصر الباب يصر ، وكل صوت شبه ذلك فهو صرير إذا امتدّ ، فإذا كان فيه تخفيف وترجيع في إعادة ضوعف كقوله : صرصر الأخطب صرصرة ، كأنهم قدروا في صوت الجندب المد ، وفي صوت الأخطب الترجيع فحكوه على ذلك (25) .

فالصوت هنا ملازم لـ ( صر ) و ( صرصر ) تارة في الشدة ، وأخرى في صوت الريح ، ومثلها في أشد الصياح ، وتارة في التصويت من العطش ، وسواها في تصويت الطائر ، وأهمها ( الصر ) سمي بصوته ، ويليه العصفور إذا صاح ، ومن ثم صرير الباب ، وصر الجندب ، وكل صوت يشبه ذلك في التخفيف أو الترجيع .  و ( صر ) في الآيات ليست بمعزل عن هذه المدلولات في الشدة والصوت والتصويت ، وتسمية الشيء باسم صوته .  والذكر الحكيم حافل بالألفاظ دالة على الأصوات ، جرياً على سنن العرب في تسمية اللفظ باسم صوته . 

والنص القرآني يحقق معادلة نصية دلالية مفادها أن توظيف اللفظ المناسب يكون بالصوت المناسب لهذا اللفظ .  فكل لفظ في القرآن الكريم اختير مكانه وموضعه من الآية أو العبارة أو الجملة بصورة محددة بحيث إن غيره لا يسد مسدّه بداهة .  فقد اختار القرآن اللفظ المناسب في الموقع المناسب من عدة وجوه ، وبمختلف الدلالات ، إلا أن استنباط ذلك صوتياً يوحي باستقلالية الكلمة المختارة لدلالة أعمق ، وإشارة أدق ، بحيث يتعذر استبدال ذلك بغيره ، إذ لا يؤدي غيره المراد الواعي منه ، وذلك معلم من معالم الإعجاز البياني في القرآن . 

* فمثلاً في قوله تعالى : ( يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ) (26) نلمس جرس موسيقي حالم ، وصدى صوتي عميق ، وإطلاق للأصوات من أقصى الحلق  وضمها للشفة ثم إعادة إطلاقها ، فيما يتعين به موقع لفظة ( أوبي ) بحيث لا يسدّ مسدّها غيرها من الألفاظ ، فالمراد بها ترجيع التسبيح من آب يؤوب ، على جهة الإعجاز بحيث تسبح الجبال ، وهو خلاف العادة ، وخرق لنواميس الكون في ترديد الأصوات من قبل ما لا يصوت .  ولو استبدل هذا اللفظ في غير القرآن لما أحسسنا بمثل هذه الدلالة التوظيفية الرقيقة ، ولانعدمت الدلالة الصوتية (27) .

يقول الزمخشري  : " فإن قلت : أي فرق بين هذا النظم وبين أن يقال : ( وآتينا داود منا فضلاً تأويب الجبال معه والطير ؟ ) قلت : كم بينهما ؟ ألا ترى إلى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى من الدلالة على عزة الربوبية ، وكبرياء الألوهية ، حيث جعلت الجبال منزّلة منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا ، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا ، إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد ، وناطق وصامت إلا وهو منقاد إلى مشيئته ، غير ممتنع عن إرادته " (28) .

 وتقرأ الآية : (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ)(29) بالتشديد ، وتقرأ بالتخفيف(30) ، فمن قرأ (أوِّبي) بالتشديد فمعناه : يا جبال سبِّحي معه ، ورجعي التسبيح لأنه قال : سخرنا الجبال معه يسبحن ، ومن قرأ  (أوبي) بالتخفيف ؛ فمعناه : عودي معه بالتسبيح كلما عاد فيه .  فالنظام الصوتي هو الذي يحقق المعنى الجملي ، فإن كانت (أوبي) بالتشديد ، وهي القراءة المتعارفة ، فالمراد : التسبيح في ترديده وترجيعه ، وإن كانت بالتخفيف ؛ فتعني الرجوع والأوبة ، وعليه فالمراد إذن : العودة إلى التسبيح كلما عاد .

* وكذلك قوله تعالى : ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (31) .  تبرز كلمة (أوهن) لتعطي معنى الضعف ، و كان من الممكن تحقق هذا المعنى  بتوظيف كلمة (أوهى) ، ولكن القرآن الكريم استعمل لفظة (أوهن) دون (أوهى) ، وذلك لما يحققه ضم حروف الحلق ، وأقصى الحلق إلى النون من التصاق وغنة لا تتأتى بضم الألف المقصورة إليها صوتياً ، وحينئذ تصل الكلمة إلى الأسماع ، وتصك الآذان ، وهي تحمل لوناً مشعراً بالعجز ، مؤكداً بضم هذه النون ـ من ملحظ صوتي فقط ـ إلى تلك الحروف لتحدث واقعًا خاصاً يشعر بالضعف المتناهي لا بمجرد الضعف وحده .  وكان هذا بتأثير مباشر من دلالة اللفظ الصوتية ، إذ أحدثت فيها النون وهي من الصوامت الأنفية صدى وإيقاعاً لا تحدثه الألف المقصورة وهي صوت حلقي خالص ، لا غنة معه ، ولا ضغط ، ولا إطباق . 

وهذا التشبيه باختيار هذا اللفظ صوتياً ، يجمع إليه إيحائياً دلالة أن الأصنام والأشخاص والقيم اللاإنسانية جميعها واهنة متداعية عاجزة حتى عن حماية كيانها ، وصيانة وجودها ، لأنها في تكوين واهن ، وبناء تتداعى أركانه ، ومثل هذا التكوين وذلك البناء لا اعتماد عليهما ، ولا اعتداد بهما ، إنما القوة بالله ، والحماية من الله ، والالتجاء إلى الله فهو وحده الركن القويم (32) .  يقول الزمخشري: " وقد صح أن أوهن البيوت بيت العنكبوت ، وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتاً بيتاً بيت العنكبوت ، كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها ديناً ديناً عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون " (33)

وإذا كان القرآن الحكيم قد امتاز بتخير الألفاظ وانتقائها ، فإنه يرصد بذلك ما لهذه الألفاظ  من قوة تعبيرية ، بحيث يؤدي بها فضلاً عن معانيها العقلية ، كل ما تحمل في أحشائها من صور مدخرة ، ومشاعر كامنة ، لفّت نفسها لفاً حول ذلك المعنى العقلي .  وهو ما تنبّه إليه الزمخشري في تعليله . 

* وفي قوله تعالى : (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (34) .  تنهض كلمة (كَلٌّ ) وهي صارخة مشرأبة ، لتوحي عادة بمعنى التواكل والعالة  في أبرز مظاهرها ، وقد استعملها القرآن لإضاءة المعنى- بما فيها من غلظة وشدة وثقل- لهذا الصدى الصوتي الخاص المتولد من احتكاك الكاف وإطباق اللام على اللهاة ، وما ينجم عن ذلك من رنة في الذاكرة ، وشدة على السمع ، فصوت ( الكاف ) في العربية ، وهو من حروف الإطباق ، شديد انفجاري مهموس ، وصوت ( اللام ) وهو من حروف الأسنان واللثة ، مجهور متوسط بين الشدة والرخاوة (35) .  وقد اجتمع المهموس والمجهور معاً في هذا اللفظ .  فإذا علمنا أن المهموس هو الصوت الذي يظل النفس عند النطق به جارياً لا يعوقه شيء ، وأن المجهور هو الصوت الذي يمتنع النفس عن الجريان به عند النطق ، أدركنا سر اجتماع الكاف المهموسة واللام المجهورة في هذا اللفظ ، وما في ذلك من عسر في اللفظ دال على المعنى وغلظته .  يقول د .  مهدي المخزومي : "  فإذا اجتمع صوت مجهور ، وآخر مهموس ؛ فقد اجتمع صوتان مختلفان لكل منهما طبيعة خاصة ، والجمع بين هذين الصوتين يقتضي عضو النطق أن يعطي كل صوت منهما حقه ، وفي ذلك عسر لا يخفى ، فإذا تألفت كلمة وقد تجاور فيها صوتان ، أحدهما مجهور ، والآخر مهموس ، فما يزال أحدهما يؤثر في الآخر حتى يصيرا مجهورين معاً ، أو مهموسين معاً " (36)

لقد ظل النفس جارياً مستطيلاً في اللام عند مجاورتها للكاف ، وزاد التشديد في استطالتها ، لتوحي الكلمة بأبعادها الصوتية : بأن هذا العبد شؤم لا خير معه ، وبهيمة لا أمل بإصلاحه ، فهو عالة وزيادة ، بل هو ( كَلٌّ ) بكل التفصيلات الصوتية لهذا اللفظ .  لقد كان اختيار اللفظ المناسب للصوت المناسب حقلاً يانعاً في القرآن الكريم لا  للدلالة الصوتية فحسب ، بل لجملة من الدلالات الإيحائية واللغوية والهامشية ، وتلك ميزة القرآن الكريم في تخير الألفاظ .  وفي السياق ذاته نجد ارتباط الصوت بما يشاكل معناه في أجلى مظاهره متمثلاً في سياق آيات العذاب عندما ينقل لنا النص القرآني صورة النار من خلال التخويف والتهويل والإنذار .  فالكلمات بأصواتها تصور لنا بجرسها العنيف هذا الجو المشحون بالسياق الموضوعي لهذه الألفاظ ، وذلك لأن " الصورة الصوتية للحرف تشكل المادة الأولى للقيم اللفظية " (37) .

ولنأخذ مثالاً لهذه التصويرات : فمثلاً ما نجده من تقارن صوتي (الظاء) و(الشين) في كلمة (شواظ) في قوله تعالى : ( يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ )(38) ، وكذلك ما نجده في صوتي (الشين) و(الهاء) في كلمة ( شهيقاً ) في قوله تعالى : ( إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ ) (39) ، وكذلك صوت ( الظاء ) في كلمة ( تلظى ) في قوله تعالى : ( فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى )(40) .  فهذه الأصوات في الكلمات السابقة تنقل إلى مستمعها صورة النار بكل صفات الغضب والغيظ والهياج ، فتزلزل نفس هذا المستمع ، وتهز أركانه بما يحقق المراد من هذه التصويرات (41)

وفي السياق ذاته أيضاً نجد قوله تعالى : ( إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِلْطَّاغِينَ مَآباً لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً و لاَ شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً ) (42) ، فكلمة ( غساقا) تقدم بنية صوتية خاصة تشد السمع ، وتثير الانتباه ، لاحتواء اللفظ على وعورة توحي بالهول الذي ينتظر هؤلاء الكافرين ، وتوائم ما قصدت إليه الآيات خير موائمة .  وهذا التأثير الصوتي للكلمة في حقيقته " عبارة عن توفيق بين أحد تأثيراتها الممكنة والظروف الخاصة التي توجد فيها " (43) .  أو كما يقول ابن طباطبا : " وللمعاني ألفاظ تشاكلها فتحسن فيها وتقبح في غيرها " (44)

فالأمر هنا أمر تهويل لا يناسبه إلا مثل تلك الألفاظ ذات الجرس الصوتي الخشن ، ولذلك نراها وقد احتوت من الأصوات على ما يثير في النفس رهبة كصوت ( الغين ) في كلمة ( غساقا ) الذي يرتبط بإيحاءاته الدالة على التكرر وعدم الصفاء .  وكذلك القاف اللهوية الانفجارية الصلبة .  وهذا النوع من الدلالات الإيحائية للألفاظ يسمى (الحكاية الصوتية الثانوية   Secondary Onomatopoeia) (45) ، ويقصد بها انتماء الحكاية إلى حدث مجرد أو نوع محدد .  والنوع الأول من الحكاية هو الحكاية الصوتية الأولية الذي تطابق فيه البنية الصوتية للكلمة معناها ، أو توافق هذا المعنى (46) .  وعلى هذا النسق يمكن تلمس الحكاية الصوتية للمعاني في سياقات النص القرآني .

              

الهوامش :

1.   ينظر في تفصيل ذلك : - سيبويه ، الكتاب ، 2 / 407 – 424  ،  3 /  268 ، 323 ، 330 .  – المبرد ، المقتضب ، 2 / 304 – 310 ، 4 / 78  .  الجزولي ، المقدمة الجزولية في النحو ، تحقيق : د .  شعبان عبد الوهاب ، مطبعة أم القرى ، القاهرة ، 1988 ، 263 -  266 .  ابن معطي ، الفصول الخمسون ، تحقيق : د .  محمود الطناحي ، عيسى البابي الحلبي ، القاهرة ، 1977 ، 268 .  – ابن هشام ، أوضح المسالك ، 4 / 262 – 269 .    

2.     سورة مريم : آية رقم ( 30 ) . 

3.     ابن هشام ن أوضح المسالك ، 4 / 262 . 

4.     الجزولي ، المقدمة الجزولية ، 263 . 

5.   د .  محمد بو عمامة ، الصوت والدلالة في ضوء التراث وعلم اللغة الحديث ، مجلة التراث العربي ، دمشق ، ع 85  ، يناير 1985 ، 83  . 

6.     ابن جني ، الخصائص ، 2 /  157 . 

7.     ينظر : - ابن جني ، الخصائص ، 2 /  149 -  158 .  – ابن جني ، المحتسب ، 2 / 18  ، 2 / 55  .  

8.     د .  محمد بو عمامة ، الصوت والدلالة ، 93 – 95  . 

9.   ينظر : - ابن فارس ، مقاييس اللغة ، 4 / 438 – 441  ، 4 / 485 ، 5 / 101 – 106  .  – السيوطي ، المزهر في علوم اللغة ، تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم وآخرين ، دار التراث ، القاهرة ، ط3 ، 1987 ، 1 / 52 – 55 .  – د .  إبراهيم أنيس ، من أسرار اللغة ، مكتبة الأنجلو المصرية ، القاهرة ، ط2 ، 1972 ، 126 . 

10.   سورة الأعراف : آية رقم ( 143 ) . 

11.   سورة النحل : آية رقم ( 26 ) . 

12.   سورة الحج : آية رقم ( 31 )  . 

13.   سورة سبأ : آية رقم ( 14 ) . 

14.   سورة ص : آية رقم ( 24  )  . 

15.   سورة السجدة : آية رقم ( 15 )  .

16.      الراغب الأصفهاني ، المفردات في غريب القرآن ، تحقيق : محمد سيد كيلاني ،  مطبعة مصطفى البابي ، القاهرة ، 1961 ،  144 .

17.   سيد قطب ، التصوير الفني ، 132 – 133  . 

18.   سورة آل عمران : آية رقم ( 117 ) .

19.   سورة القمر : آية رقم ( 19 ) . 

20.   سورة الحاقة : آية رقم ( 6 )  . 

21.   د .  محمد حسن الصغير ، الصوت اللغوي في القرآن ، دار المؤرخ ، بيروت ، 2002 ، 188 . 

22.   الراغب ، المفردات ، 279 ,

23.   الزمخشري ، الكشاف ، 1 / 404 – 405 . 

24.   سورة آل عمران : آية رقم ( 117 ) .

25.   ابن منظور ، لسان العرب ، مادة ( صر )  ، 4 / 368 – 370  . 

26.   سورة سبأ : آية رقم  ( 10 )  . 

27.   د .  محمد حسن الصغير ، الصوت اللغوي ، 210 . 

28.   الزمخشري ، الكشاف ، 3 / 571 . 

29.   سورة سبأ : آية رقم  ( 10 )  . 

30.      القراءة بالتخفيف هي قراءة الحسن ، والجمهور على التشديد .  ينظر : -  الفراء ، معاني القرآن ، 2 / 355  .  السيوطي ، الإتقان ، 2 / 110 . 

31.   سورة العنكبوت : آية رقم  ( 41 )  . 

32.   سيد قطب ، التصوير الفني ، 42 – 43 . 

33.   الزمخشري ، الكشاف ، 3 / 455 . 

34.   سورة النحل : آية رقم ( 76 )  . 

35.   ابن جني ، سر صناعة الإعراب ، 1 / 69  . 

36.   د .  مهدي المخزومي ، في النحو العربي ، قواعد وتطبيق ،  مكتبة الشباب ، القاهرة ، ط2 ، 1978  ، 8 . 

37.      د .  عبد الفتاح لاشين ، من أسرار التعبير في القرآن  ؛ حروف القرآن ، دار عكاظ للنشر والتوزيع ، الرياض ، 1983 ، 44 . 

38.   سورة الرحمن : آية رقم ( 35 )  . 

39.   سورة الملك : آية رقم ( 7 )  . 

40.   سورة الليل : آية رقم ( 14 )  . 

41.      ينظر :- د .  أحمد بدوي ، من بلاغة القرآن ، عالم الكتب ، القاهرة ، ط3 ، 1977 ، 69 .-  سيد قطب ، التصوير الفني ، 74 – 75  .  – د .  عبد الفتاح لاشين ، من أسرار التعبير ، 44  . 

42.   سورة النبأ : الآيات رقم ( 21 – 25 )  . 

43.      أ .  أ  ريتشاردز ، مبادئ النقد الأدبي ، ترجمة : د .  مصطفى بدوي ، المؤسسة المصرية للتأليف والترجمة ، القاهرة ، 1963 ، 191 . 

44.   ابن طباطبا ، عيار الشعر ، 14 . 

45.   د .  محمد العبد ، المفارقة القرآنية ، دار الفكر العربي ، القاهرة ، 1994 ، 134 . 

46.   نفسه .