كي لا تشرب طفلة أجنبية عيون الوطن

رؤى في شعر رشدي العامل

د. صدام فهد الأسدي

abo_aayan53@yahoo.com

كانت السنوات التي عاشها رشدي حافلة بالأحداث الوطنية والقومية، عاش الحرب العالمية الثانية شباباً طموحاً ثم دوى صوت الثورة في مصر عام 1952 في العراق 1958 ثم ثورة البعث عام 1968 وأعقبتها حرب القادسية عام 1980.

وتنحصر معاناة رشدي كلها في موضوعين (المرأة أولاً ثم المبدأ السياسي). كما أكد الناقد طراد الكبيسي ([1])، أن الطموح السياسي الذي كان يعمل من أجله منذ الخمسينات هو سبب معاناته، هو واحد من الشعراء الذين اجتذبتهم ظروف الحياة السياسية فانغمر فيها مستجيباً ودخل معركتها طوال ثلاثة عشر عاماً ثم ترك العمل السياسي وظل منتمياً فكرياً إلى المعسكر الاشتراكي ذلك المذهب الذي كان مطروحاً على الساحة الفكرية ومن أجل هذا فصل وتشرد . وكما قال الدكتور جليل كمال الدين: ثمة جيل معاصر من الشعراء تغنى بالثورة وسار في معاركها وضحى لها وعاشها وفق مفهومه ووجهة نظره ومنهم رشدي العامل " وهذا ما أكده يوسف الصائغ في رسالته العلمية( [2]): "وقد تميزت الأعوام 1950-1958 في العراق بنهوض عام وصراع حاد كانت صورته الأساسية الوضع السياسي فمنذ عام 1951 أصبح من التحدي للسلطة القائمة وكان ذلك ما نجد صورته في الاضطرابات العالمية والانتفاضات الفلاحية والمظاهرات التي شهدتها العاصمة بغداد". ورشدي دخل هذا المعترك السياسي شاباً ولم يعبر العشرين يحمل طموحاً سياسياً وشعرياً وهو يعيش طالباً في الثانوية فلا بد أن يحدد موقفاً من تلك الأوضاع التي يعيشها البلد أثناء الحكم الملكي. ولكن هذه البوادر السياسية لم نلمسها في ديوانه الأول (همسات عشتروت) عام 1951 فقد كان يحمل شحنات عاطفية وغزلاً صريحاً لذكريات ماضية .. أما ديوانه الثاني (أغان بلا دموع) قد ظهرت فيه ملامح ذلك الإحساس الوطني في قصيدته (إلى طفلة أمريكية) تلك الطفلة التي تشرب عيونها ضياء الوطن.

من موطني عيناك تشربان

لون الضياء الأبيض المطلول

في خضرة الحقول ... ( [3])

وتظهر علامات الرفض واضحة لديه عندما يساءلها :

لك الصباح والفراش الأبيض الوثير

لك العطور والزهور والعبير

وللسرى أبناء شعبي الليل والوحول والدم والذبول( [4])

لقد كان رشدي مبكراً في كتابة شعره الوطني وهذا لاعجب فيه .. وأكيد أن يكون محصلة لشاعر يحمل حب الوطن في عينيه لذا يقول في قصيدة (الجدار) مقلداً أبا القاسم الشابي :

سأصرخ بالقيد أن ينثني وبالليل أن ينجلي

سأصرخ ليس سوى رعشة تخبط من وهدات الأسار

أكاد أحس نشيج الهوى أكاد أرى لو يشف الجدار( [5])

وبفصل رشدي عام 1954 من كلية الحقوق وتزداد شعلة غضبه واحتجاجه ويسافر إلى القاهرة وهناك يعيش غربة وفراقاً لوطنه الذي يعاني من الاضطهاد والحرمان، فيولد ديوانه الثالث (عيون بغداد والمطر) ذلك الديوان الذي يجمع فيه يبين الوطنية والحب كما يقول صديقه علي الشوك( [6]): "إنها مجموعة نصف تموزية جذورها ثابتة في الماضي وفروعها طلعت بعد ثورة تموز" .

وقبل أن يصدر هذا الديوان عن ظهرت للشاعر وطنية عديدة فيه التحريض والثورة والاعتزاز بالوطن والأمل .. في التخلص من الاستعمار كما يقول الدكتور داود سلوم السامرائي: "قصيدة الصعود يطل عليك رشدي في ثوب أخر من التفاؤل والأمل( [7]) " فيقول الشاعر :

مدينتا لم تزل ثرة

بنبع الدماء ووهج السنا

ترد السياط دماً ثائراً عمره ما انثني

مدينتا ملكنا وطيب ثراها لنا( [8])

فهذه القصيدة تحكي مدينة الشاعر المتفجرة غضباً وتصنع من الليل فجراً يتحدى به الأعداء، ومن منفاه في القاهرة يبعث إلى بغداد قصيدة يقول في مقدمتها ..

غدا أشد الشراع

يا وطني غدا أقول الوداع

يا أرض منفاي الكئيب الحزين

يا قبضة من سنين

يا وطني يا وطن الجائعين( [9]) .

كان رشدي يتنبأ بولادة ثورة عام 1958 فيقول:

يا أيها الشاعر إن الشمس في العراق

يمسكها الأطفال يصنعون

منه نجوماً تملأ العراق ..

ولم يفقد الأمل في حتمية انتصار بغداد وفهو السجين الذي ينتظر إعلان النصر .. متيقناً إن الشعب سوف ينفجر وينتصر يوماً قائلاً:

إن الناس سيبنون الفجر إذا انفجروا

والشارع مهما يندحر ينتصر

الشارع ينتصر ، والعامل ينتصر، والموت( [10]) ..

ويرفض الدمع والبكاء فهو سبيل الضعفاء والنصر لا يأتي إلاّ بالتضحية والصبر قائلاً:

 

غير إن الدمع لا يغسل أحزان المدينة

مثلما تعرف إن الحزن وحده

لم يكن أكثر من حزن على صدر مخده

ويرى الدم ثمناً لكسب الحرية في سبيل الوطن قائلاً:

مدينة متعبة

تدفن في الليل خطاياها

تلثم قبل الدفن موتاها

تحلم بالسكين

في الأعياد

عيناها

تريد أن تصرخ في وجه ضحاياها

هذا الدم العاقر ما أخصبه( [11]) .

ويرى ليل بغداد قاسياً أشد قسوة من خنجر الجلاد ولكنه لن ينهزم أبداً إذ قال:

الليل في بغداد .. أقسى من النوم

على خناجر الجلاد ( [12])..

وتفصح عنوانات قصائده عن مواقفه الوطنية الصادقة: (الحرف والدم) (الاضطراب) (الضحية) (رسالة من زنزانة إعدام) (رسالة من معتقل ما) (مذكرات من المنفى) (رسائل من المنفى) .

وبالرغم من إن عناوينه الرومانسية الأخرى تخفي تحتها لونا سياسياً مطمعاً بالوجدان والحب ـ وكما يلمح يوسف نمر ذياب( [13])"لابد لنا أن نفهم رشدياً إنساناً وشاعراً وأن نقف عند حياته المضطربة سياسياً واجتماعياً. لابد لنا أن ندرس قصائده المتعلقة بحب الوطن وتلك القصائد التي برهنت على انتمائه الفكري والمبدأ السياسي الذي انتمي إليه ...

قصائد رشدي في حب الوطن

يؤمن رشدي بحبه لوطنه ويقول "تدري بأنني رجل ملتزم وربما أنا في الحدود القصوى من الالتزام كإنسان عاش وما زال يعيش مأساة عصره بكل ما فيه من أحداث وتحديات ومجازر ، بدقة ما رافق تاريخ شعبه من عنت وجهل وعبودية وتعسف واستعمار، وما تحمله روح الشعب من طيبة وثقة وشوق إلى المستقبل ، تلك قضيتي مواطناً وإنساناً وشاعراً"( [14]) ، وما كان رشدي إعلاناً وشعاراً كاذباً ولا مهرجاً في سوق النخاسة ولا متواطئاً ـ لقد عاش حياته في صمت ومات بهدوء يحب وطنه ويحترمه أبناء الوطن . وهو شاعر يحتقر الحب المصطنع والشعر الذي يبحث عن التصفيق العابر الذي لا ثمن له. ولا يدري كم هو حب الوطن وماذا يمثل إليه .

كم أحببتك يا وطني .. أنت الضوء

وأنت العتمة

أنت الفجر وأنت الليل

وأنت العاشق والمعشوق

وجبال الجلاد على عنقي والمشنوق

يا وطني يا أرض الوطن الفرح الناعم والأحزان

راودت النور من الزنزان / وطلبت الرحمة من كف السجان( [15]).

هذا الذي جعلنا ندرس رشدياً ونترك شعره أمام المحبين للوطن .. ذلك الشاعر الصادق المحب لوطنه حتى وحبال الجلاد تلتف على عنقه .. وحتى وهو يرى النور في زنزانة الوطن / فرشدي شاعر أحب وطنه وبقي فيه دون أن يغادره "حتى مات فيه، وكم حاولوا أن يطعنوا حب الوطن فيه واتهموه بجحوده له ولم يفعلوا ذلك وهو على قيد الحياة وإنما بعد مماته"([16]) .

وكم ذم رشدي الهاربين من الوطن ودعا أبنه علي المغترب أن يكون الوطن مرفأه الأول حين ألقت به الحياة هناك قائلاً:

هل تعرف أن يغريك العالم

لكنك لا تغرى

أن تمتد يد النخاسين لكفيك

ولكنك لا تشري

ماذا في عينيك ، سوى الحزن

وفي وجهك غير عذاب،

يأكل قلبي ..

ويقف رشدي رافضاً عندما يجد هذا الوطن مقيداً تخنقه يد الجلاد قائلاً:

وطني أحس القيد يخنقه شعبي أجل في حضن سرداب

السوط نام على ظهورهم والنار تأكل خضرة الغاب

حتى الصغار عيونهم ابدا ما بين أموات وأسلاب

مزق وأشلاء مقطعة تستلها سكين قصاب( [17])

وسجون الوطن لم تغير حبه لوطنه شيئاً فهو يحرض النفوس الذليلة المستكينة على الثورة وتحطيم القيود وفك الأغلال .. أنظر إليه محرضاً ..

كلنا جوعى ،

وفي أعيننا العالم يخبو والمدافن

يستفيق الموت فيها

وعذارانا حبالى – ذاك ما وزعه الله تعالى

فعلى أرضك يا رب

سلام الأرض ، من جرح بينها( [18])

ويستطرد في بث معاناة وطنه والشقاء الذي يعانيه والظلم الفادح ..

الفجر والليل في أهدابك اعتقنا هذا يدب وذا ينقض شيطانا

ونحن بينهما صوت بلا شفة ورعشة دون صوت في حنايانا

من ألف عام يشد القيد أوردة منا ونمنح في الظلماء ، إنسانا

وظل ينهض من أجداثنا نهم ويزرع الأرض أمواتاً وصلبانا( [19])

ويلقى التبعات الثقال على أبناء الوطن للتخلص من الاستعمار وقبولهم شظف العيش المرير قائلاً:

نحن نبيع الموت للموتى ..

نحن نبيع الموت للأحياء

نحن بلا ظل ولا أسماء

نحن هنا أشياء( [20])

وينادي بصوت غاضب (وطن العميان) (مدن النسيان)( [21]) .

وهو على بينة وقفة من تفهمه تلك المعاناة التي يرى البعض ساكتاً عنها .. ومع ذلك يقرر عدم ترك الوطن والهجرة عنه قائلاً :

إني أعرف أن شعبي في خبزه اليومي يعلك دمه المر المثابر

ودماً مثابر

لكن شعبي (لن يهاجر) ( [22])..

وكيف يرضى شاعر مثل رشدي أن يكون غريباً في وطنه .. لا يعرف أين يستقر به الموت ؟

غرباء نحن يا سيدتي عرفت كل المتاهات خطانا

طوفت في الأرض حتى تعبت أذرع الموتى وضجت من أسانا

نحمل العار على جبهتنا ميسما يعرفه فيه سوانا

نحن كالسائر في غفوته ليس يدري أي درب يتدانى ( [23])

ويستغرب ممن يصبرون على الرزايا وهم أصحاب المجد العظيم.في القصيدة ذاتها :

أمسنا يخجل أن كنا له شركاء زر بردية كلانا

والغد الآتي حزين أنه حلم هزته في المهد يدانا

حطب نحن فلا تكتئبي أن نرى في موقد النار مكاناً

وظلال نحن يا سيدتي لا نرى الماضي ولا الماضي يرانا

ومع تلك الأبيات لا نشم رائحة الفشل و اليأس واضحة على الشاعر . فهو يتهكم من وضع يعيش فيه على الناس أن تبدل الظلام وتغيره إلى صباح مشرق ..

ويتخذ رشدي من بغداد مدينة طفولته وصباه مكاناً بارزاً في شعره الوطني لذا سمي ديوانه الثالث (عيون بغداد والمطر). وأن قصيدته (بغداد والراية) التي يبدأها بمقدمة رائعة " بغداد ليست مدينة عندي ، ليست شوارع ولا أزقة ولا بيوتاً .. أنها عالم متفرد وكائن له ما للكائن الحي من عروق ووجه وجدائل "( [24])

أن أي قوة لم تستطع انتزاع هذا الرمز أبداً ، ويتألم رشدي عندما يراها ساكتة تملأ شوارعها الأملاح قائلاً :

الصمت في جدرانك العارية

الملح .. تحت البحار

واللؤلؤ الأبيض، والجلنار

والنخل في خضرته والمحار

في فمك الأحمر في كف يد عارية

يا شفة ، عروقها الباكية

تنشج صمت النهار( [25]).