الرواية الحقّة

محمد الأحمد

كلما وقعت بين ايدينا (رواية) تشعرنا امام عمل عظيم، لابد وان نتممه، ولابد وان يترك فينا اثراً عظيما.. مصطلح الرواية يغرينا للغور فيها، ولكننا بعد حين، نتركها جانبا بحثا عن رواية اخرى، غيرها. فما اكثر الروايات التي نعدل عن تتمة قرائتها.. لانها تفتقر لكثير من مقومات الرواية الحقة، فالرواية ليست سطوراً يدون فيها الكاتب لحظة متعة عابرة لاجل التدوين، وملىء مكان، وانما نهج يشاكس لأجل ان يبقى يتحدى الطمر والنسيان، يثابر كاتبه على ان يعطي لقارئه اكثر مما يعرفه كقاريء مثقف؛ تكشف مدى التطور الذي طرأ على العقل البشري، وايضا تضيف الى ذاكرة الانسانية تدويناً اضافيا يراهن على ان يبقى، كوننا على يقين باننا صرنا بعد الانتهاء من قراءتها، سوف نتاكد كقراء عشاق لجنس رفيع الفن، تصعب شروطه، وتكون رواية حقة، وليس الى التسليم التام بما كتب على غلافها بانها رواية.. اذا صرنا بذائقة تتطلب منا الحياد، وان نسمي الاجناس باسمائها، ولايمكن ان تكون الرواية رواية ما لم تقترب من اغلب شروطها، كون الرواية بشكل تام تتحدى تسطيح العقل، المفترض بانها كتبت لاجل ترسيخ العقل، (بعض الكتاب يشرعون بكتابة رواية، ويتوقفون عنها وبعد حين على وجه السرعة يجمعون دفاتر مذكراتهم، ويتعجلون تسليمها الى النشر)، فالرواية بوح فيه حركة تناقض ما بين مختلفين، وايضا مقارنة بين متشابهين... الرواية وجه عالم قد كان، ويجيب الآن عن اسلئتنا الراهنة حول الزمان والمكان.. الرواية معلومة محايدة لا تعطي نفسها بسهولة، لانها تمنح فرصة الاستنتاج، وتتطلب فرصة التفكير في امر ما، كونها الوجه الحق الذي كان يرى بمثلما حدثت الواقعة... تجعل من كاتبها العالم، المٌلم الذي يعرف اين يسير في طرقه، وليس يكتب لاجل ان يكتشف.. لأنه يجب ان يكون عليما، مقتدرا بمعلومته ولا يدع معلومه يفلت كما ينهمر الماء من بين الاصابع.. فالرواي المثقف يقنص الفرصة ولا يفرط بها موقنا بانه اعطى كروائي لنفسه فرصة عظيمة لان يكون خالقا، وعليه ان يستثمر الفرصة الى اقصى حدودها.. فكل فصل في الرواية الجميلة، يتقدم بثبات نحو فرصة محكمة، وكلما كانت اقفالها قوية، تجعل القارئ الاكثر اصرارا على اقتحامها، ومعرفة ما وراء الابواب.. الرواية تشترط الحبكة؛ فالحبكة هي العمود الذي يبقى القاريء مشدودا مع السطور، لانها وحدة يريدها القاريء لاجل ان لا يتشتت، كذلك الحروف الصقيلة، هي ايضا، لا تشكل عبءا على القارئ بل تشكل جذبا لا محدودا، ليغمره بالمتعة. والموقف النبيل، الجميل لا يبقى موقفا جميلا ما لم يكسب القارئ، وكسب القاريء يتطلب اصرارا حتى يتحقق فكلما تمكنت الكاتب من موضوعته، واعد لها عديدا جميلا من المعلومات، لاجل ان تكون الامور بقناعة وعقلانية، فكلمات لا تساوي شيئا عندما ينفر القاريء منها، والتقارب يعني الاندماج مع الرواية التي بين يديه... والمفترض بان قاريء الرواية اليوم اكثر معرفة بجنس الرواية، ولا يمكن ان يمر عليه النص دون يجنسه فالرواية تجنس لانها تحكي حكاية وجيل. فاكثر الروايات محبة هي التي تستدرج القارئ الى قراءاتها للمرة المتكررة. الرواية نعود لها في زحمة هذا العالم المتوسع القنوات، والانفتاحات، لانها حققت قضية فنية، ولانها كشفت، او عرت، فاعطت معلومة مقنعة؛ اليوم شرط الرواية ان تكون موقفا حادا واضحا من القوالب التي تقيد الانسان، وخاصة القوالب القديمة الرثة، المهترئة، التي تعود بالانسان ولا تتقدم به.. حيث سحر الرواية امتدادها الجميل على سردّ متواصل بالمعلومة.. سحر الرواية حدّة صوتها تجاه ما يقبر، وما يطمر، وما لا يستحق الطمر.. سحر الرواية الكشف الثابت، الراسخ، وليس المجارات مع ما هو متسيد.. سحر الرواية ان تكون مبضعا بيد جراح ماهر، يفتق مكان الالم لاجل ان يطببه، فالالم الاني الكبير، المتوقف.. ليس كما الالم المستمر الدائم..

الرواية ربما تكون بروازا جميلا يتحدى القباحة والبشاعة المعروضة بواسطته.. الرواية حبُّ عظيم ولابد ان يبقى ابدا، وهي دوما كما العطر الفاضح..