حسَّاسيةُ اللحظةِ الشعريَّة عند منير مزيد
الموت يعطي الإشارة
منير مزيد / رومانيا
د. حمد محمود الدُّوخي
شاعر وناقد وأكاديمي في جامعة تكريت العراق
مزيد يعيد إلى ذهن القراءة الفعل الملحمي في بناء النص من خلال نصِّه الأخير 'نشيد الأرض والخلود'.
(منير مزيد) اسم إبداعيٌّ متمكِّن من أدواته وله ما يميِّزهُ في المجال القوليِّ، فهو فاعل في حقل المعنى .. شاعرٌ، دائماً، وروائي ومترجم. وهو صاحب ترجمة العمل الأنطولوجي الشعري المهم من اللغة الرومانية إلى اللغة العربية، إذ قدَّم في هذا العمل أعلاماً من شعراء القصيدة الرومانية المعاصرة، وهو عمل فريد من نوعه احتفى بأسماء شعرية لها الأثر الفاعل في تغيير حال رومانيا مما كانت عليه إلى ما هي عليه اليوم كدولةٍ أوروبية تتجهُ بخطوات واثقة نحو الحرية والاعتزاز بإنسانيتها.
وقدّم قبل ذلك عملاً أنطولوجياً عن الشعر العربي سبق وأن صدر بثلاث لغات هي العربية والرومانية والإنكليزية وذلك في شهر مارس/آذار 2008.
مزيد
اسم ارتفع كثيراً ولم يعد بحاجة للغة الطبول، وهو يؤكد لنا ذلك بمجموعته الشعرية هذه التي تنهضُ على لحظة شعرية حساسة تنقدحُ بعيداً في جيوب الذات، تلك الذات المحمَّلة بحسَّ الفجع المسكون بهواجس الفقْد، لذا وجدنا مجموعته (وجوديات) ناهضةً على أساس إنساني تبشِّرُ به الإرسالية العنوانيِّة الفاعلة (وجوديات) والتي وقع اسم الشاعر تحتها لتكون هذه الوجوديات وجودياته هو:
وجوديات منير مزيد
بعد ذلك يفتتح المسار الشعري سبيله بقصيدةٍ جنائزية مطوَّقةٍ بعلامات التدليل على الفجع والحزن بدءً من عنوان القصيدة "مراثٍ كربلائية" حيثُ نلاحظ أنه عنوانٌ يتركَّب من دالَّتين لهما مكانهما المعلوم في بيئة الحزن العربي، فالرثاء منصَّة الوقوف على أثر الراحلين، وكربلاء هي البيت الشرعي للفجيعة، وهذا ما يؤكّده (مزيد) بقوله:
لا تناد
لا أحد يسمعُكَ
غيرُ منازلٍ طينيةٍ قديمةٍ
شبعتَ من حكايا البشر
وشختَ من الذكرياتِ
إنْ سمعتَ زقزقةَ العصافيرِ
لا تحسبْها غناءً
بل مراثٍ كربلائية ...
وفي ذلك خبر دالٌّ على القصديَّة التي ينحوها (مزيد) في مجموعته هذه، فهو مفجوعٌ نعم، ولكنه يغنِّي لغد الإنسان الصالح والشعوب الطاهرة.
كذلك هي الحال مع قصيدة "جدارية الحب والإلهام" فهي تنبني على استهلالٍ أثيري يضع القارئ في منطقةِ تلقٍّ مُهيَّئةٍ لاستقبال مقولٍ يتمتَّع بلغةِ تجاورٍ خاص يتضح من طبيعة اللغة التي يتشكَّلُ منها الاستهلال، إذ يقول:
في خيالي
قيثارةُ ربةِ الشعرِ
لا تكفُّ عن العزفِ
أغنِّي ...
في البدء
كانت حبيبتي
وروحُ اللهِ يرفُّ فوقَ الماءِ ...
أما في قصيدة "زهرة الحب الباكية" فإنه يتواصل مع الحسِّ السايكولوجي الذي تأسست عليه مجموعته، إذ نرى هنا الضدِّيِّة في التجاور قد أنتجت معنى لذائذيَّاً خاصاً نتعرَّف عليه من الخطاطة المبسَّطة هذه:
زهرة الحب الباكية
بعد ذلك يعود (مزيد) إلى توكيد الجانب الإشهاري الذي يتغيَّاه، وذلك من خلال اشتغاله على الجانب الإعلاني في البناء، على مستوى العنونة:
(جدارية الحب والإلهام / جدارية الشعر)
وعلى مستوى المتن:
(جدار الشوق / جدار الذكرى / على جدار كابوس)
ففي ذلك تدليلٌ على نزوع (مزيد) إلى رفع مستوى المعنى الذي يريد متخذاً من لفظة (جدار) مكاناً إشهارياً للإعلان عن المعنى المطلوب للدلالة، جدار لل:
الحب والإلهام
الشعر
الشوق
الذكرى
كابوس
أما قصيدة "سندريللتي" فقد احتفت بلغةٍ تتلاءم والمتن المرسوم وفق هذا التضمين، أي استعارة رمز من تراثٍ آخر معروف بحُلميتهِ:
السماء لها لون الحزن
والاغتراب
وللأشجار رائحة الانتظار
الفراشات لا تجسر أن تطير
حتى لا تفزع الزهرة النائمة
والفراغ اللامتناهي يتجمَّد..
وهذا غير ما نجده في قصيدة "الطريق إلى العولمة"، وهذا تنويع في الكتابة يغني مجال التلقي، إذ يخبرنا عنوان القصيدة أنها قصيدة موجَّهة (إلى)، لذا وجدنا النصَّ مسيَّراً من خلال لوازم التوجيه، ومثال ذلك (حرف اللام) في قوله:
أصلي
ل أجل طفولة
تباع في البورصة
والسوق السوداء.....
ل أجل أمومة
يجف حليب نهدها.....
ل أجل سماء تموء بالغضب
والحزن..
ل أجل طائر
أضناه البحث عن عش
ل أنثاه.....
ل أجل وطن يعذبني
يشردني بأحزانه
ويغتال فينا الحلم....
بعد ذلك يدخل (مزيد) في لغة ترفع من منسوب الذاتية والغنائية في جملة من القصائد أهمها (الوحي وأنا / الحزن الأسود / من يفهم الشاعر / الشعر وأنا / انبعاثي) وهو بهذه القصائد، الواضحة المنهج الذاتي من العنونة إلى المتون، والتي وضعها على شكل متسلسل، يفيد في الدلالة على أنه أراد أن يسجِّل نسبة الذاتية على شريط ملفوظي تستحضره القراءة بشكل مستمرٍّ مما يؤكِّد الغاية التي يرمي إليها (مزيد).
بعدها يقطع هذا المجال الغنائي بقصيدتين تنحوان نحو كتابة أوسع في التوجُّه هما (طائر الجنة / شكراً هيروشيما)، إذ في الأولى نلاحظ النص كونياً بلغته وعنوانه، في حين في الثانية نراه مخصوصاً بعنونة (شكراً هيروشيما) ولكنه ينفتح على حسٍّ إنسانيٍّ حياتيٍّ مُعاش.
بعد ذلك يعود إلى غنائية مكثفة في قصيدتين لهما شيء من الطول يميِّزهما عن بقية القصائد، كما أن المجال الغنائي يهتمُّ شيئاً ما بالإطالة، والقصيدتان هما: (من رحلات منير مزيد / خيال .. أحلام .. وموت) وعلى هذا يتأكد لنا أنه تقصَّد هذه الوقفة مع القصيدتين السابقتين ليعطي لفعل القراءة فرصة المراجعة التمييز.
بعد ذلك يعود (منير) إلى انطلاقته البكائية الأولى، ليؤكد حضور هاجس الفقْد والفجع بالراحلين، وذلك من خلال شريط شعريٍّ آخر تشكل من القصائد الآتية: (مرثية فلسطينية / قصيدة حب لفلسطين / غزة تحترق .. نموت جوعاً).
وكذلك يجدد العودة إلى لغته الأثيرية وذلك بقصيدته (شاطئ الحوريات) بينما أكَّد في قصيدته (فقراء وشتاء) على الإشارة إلى حال الآخر المشارك في الحياة وذلك بلغة لزجةٍ تحتفي بوضوح عميق:
في المدن المترفة
الغارقة
في الصخب والضجيج
منازل منسية
عارية
تئن
تتألم
تحت لسع سياط المطر……
أسقف بالية
ترتجف
ووجوه المنازل باسرة
ترتعش خوفاً ورعباً
يستفزُّها
يرعبها غول الشتاء…
بعدها يقدِّم لنا (مزيد) وصفةً سريعةً لحالٍ من أحواله أثناء الكتابة، وذلك في قصيدته
"ما يرضي خرافة هذياني" إذ يقول:
سأكتفي
بالجلوس على مائدة الإلهام
أدخن تبغ القصائد
أطهو سيرة الحلم
وأحتسي نبيذ التصوف
أهذي كما أشاء
ما يرضي خرافة هذياني ....
أما في قصيدة "أنا في البحر، والبحر فيَّ" فقد بنى (مزيد) العنوان بتقانة أشعرنا بها بحركته نحو البحر، حيث نستشعر حركة التناوب بواسطة تكرار حرف ال (في) ولفظة (البحر).
بعدها يدخلنا (مزيد) في حيزٍ ملحميٍّ وبلغةٍ حادةٍ وذلك في قصيدته المعنونة "حلم في قوارب الموت"، حيث نرى أن اللغة بهذه القصيدة لغةً صوتيةً مركِّزةً على ما يُظهر وحشية الحياة، وذلك بقوله:
بين أحلام موؤدة
وأخرى بلغت حد الكهولة
وأصابها عقم الخيال
تشتد وحشية الخريف..
ينطلق طائر الظلمة
تنين العدم الأعمى
من بيض القهر
يرفرف بجناحين مشرعين
فوق مراعي الخصب
ينفث الرماد في رئة الحياة...
وفي قصيدته "الشعر والآلهة المتهالكة" يقدم لمحات من سِيَر غيرية للشعراء على اعتبار أنهم مجموعة من الآلهة التي لا تمتلك القرار، وذلك ما يختزله الاستهلال الذي ضمنه (مزيد) لغة قرآنية النَفَس:
سكارى
محنطون بزيت العقم
مطأطأة رؤوسهم
تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ...
أما في قصيدته "أفول أوثان الجهل" فإننا نجد (منيراً) ثائراً من أجل الحياة والسلام ومطالباً بعودة روح الفطرة المفقودة إلى العالم .. فهو:
في مُدنِ الصحراء
الملوثة بالفسادِ
والاستبداد
بالملح والدخان والدموع
أُراقبُ هذا البؤس
أتجرع عرق الموت
فأسمع صيحات المُضطهدينِ
في قيثارات الريح
في أوراق الشجر
في بكاء العصافير
في دوامات الماء
في الصحون والأواني
تشنق أنفاسي
وتغتال أحلامي....
ويقدِّم في قصيدته "ألا يزال فيك متسع للحلم" نصاً مشهدياً مبنياً بمسار صوريٍّ مكوَّنٍ من ثلاث صور، هي:
رأيت في منامي
نحلات ذهبية
تخرج من الروح
وتصنع من مرارة الغربة
شمعاً أبيض
وعسلاً إلهياً
ورأيت الشمس
تتوهج في القلب
والقمر امرأة
تستظل تحت شجرة زيتون ....
والصور هنا كالآتي:
يفتتح الفعل (رأيت ..) مجال التعداد الصوري، فالصورة الأولى (نحلات ذهبية ..) والثانية (شمساً ..) والثالثة (والقمر امرأة ..)، وبعد هذه الصورة الكلية يعمد إلى كسر أفق التلقي وتحطيم هذه الصورة السحرية لكي يعطي حسَّاسيِّة خاصةً لهذا المشهد العام في القصيدة، إذ أنه مشهد حافل بروح الحنين والذكرى:
فجأة
هبَّت ريح
من صدر مشروخ
خلف جدار الذكرى
حلَّ الخريف مكان الحلم
والحلم فرَّ من جديد
عائداً إلى وطني
استيقظتُ متسائلاً
ألا يزالُ فيك متسع للحلم
يا وطني....
أما في قصيدته "من يشنق الشموع" فإنه ينحو بها منحى سيرياً يتشكل بمظهر شعريٍّ، حيث يبدأ بالاستهلال بصيغة تعريفيةٍ، ومن ثم يدخل الفعل السيري في النص بمظهره الشعريِّ الخاص، إذ يقول:
أنا منير مزيد
ولدت في أحراش اللوز والزيتون
في أرض أنجبت كل الأنبياء
أنام في ردهة السماء الدافئة
خلف وجه القمر اللامع في بهو الروح
ومن هناك أصرخ:
بعدها يعود (منير) مرة ثالثة إلى منطقته الشعرية الأكثر حضوراً في نصوصه، وهي منطقة الفقْد والرثاء كما سبق وأشرنا، مما يؤكد أنه شاعر / إنسان، إذ:
تمتزج البداية مع النهاية
في كأس الفجيعة
كما يقول في قصيدته "وداعاً تشيزار أفينسكو"، وكما يقول في قصيدته "القمر يصرخ في حنجرتي":
صمت ما
ينظر إلى مرايا الماء
بعينين لا تشبعان من التأمل
تقطران وجهاً يتأمل الذبول
ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ من الحزن
الحزن الذي يثقب عين القمر
برمح الرثاء....
وكذلك يعود (مزيد) إلى ذات اللغة التي تركِّز على ما يُظهر وحشية الحياة، وذلك في قصيدته "بين الحلم والروح" والتي يقول فيها:
الموت يحدق في الساعة
يعطي الإشارة للغراب
لمهاجمة العش...
وهنا تهمُّنا ملاحظة أن الحلم لدى (منير مزيد) يرتبط دائماً بإظهار الجانب الوحشيِّ من الحياة، وكأنه سلطتَه الوحيدةَ لمقاومةِ الموت في الحياة، إذ جاء في القصيدة الأولى وهي "حلم في قوارب الموت" وفي هذه القصيدة "بين الحلم والروح".
وأخيراً يعيد (منير) إلى ذهن القراءة الفعل الملحمي في بناء النص، وذلك من خلال نصِّه الأخير في المجموعة "نشيد الأرض والخلود"، وبهذا الشكل نلاحظ أن الشاعر (منير مزيد) قد كتب مجموعته هذه بشكل مثير للاهتمام، حيث افتتحها بنَفَسٍ رثائيٍّ ومن ثمَّ عاد إلى ذلك في مجرى السياق الحاكم للمجموعة، وكذلك الحال مع بقية المتكآت التي استندت إليها المجموعة من لغةٍ أثيريةٍ ونهجٍ ملحميٍّ، وما إلى ذلك، مما يؤكد للقراءة الفاحصة أن (مزيد) يتعمَّد ذلك لكي يحكم الفعل العام لقراءة مجموعته بذاكرة تتحرَّك تحت النصوص.
وعلى هذا الشغل يستمرُّ (مزيد) في تدشين مجموعته، التي أراهن بصفتي قارئاً أكاديمياً على منزلتها في ساحة التلقي، فهي مجموعة شعرية حقيقية منهمكة بالإنسان المعاصر وبمشاكله إزاء الحال والوجود.