شعرنا والحداثة

د. حبيب بولس*

[email protected]

إن الحديث عن الحداثة في الشعر بشكل عام محفوف بالمخاطر, وذلك لكثرة الاجتهادات التي صدرت بهذا الخصوص منذ أواسط السبعينات وحتى اليوم, هذا من جهة, ومن جهة أخرى فان موضوع الحداثة اليوم, صار موضوعا قديما نسبيا مقارنة مع ما

جدّ على الساحة الأدبية الأوروبية والأمريكية, فهذه الساحة تخوض اليوم في مواضيع أخرى يشكّل لبّها ومحورها موضوع ما بعد الحداثة. ولأنني ازعم- وسأبين ذلك فيما بعد-, أن شعرنا العربيّ المحليّ خاصة لا يزال يتخبط في قضية الحداثة بحيث لم يصل إلا في القليل منه- إليها ارتأيت الحديث في هذا الموضوع- علّ الحديث يسهم في تقريب شعرنا إلى الحداثة التي أرى إلى أهميتها من حيث الارتقاء به قدر الإمكان إلى مصاف الشعر الجيّد في العالم الغربي.

ولكن ونحن نحاول مقاربة هذا الموضوع الشائك, تلزمنا الموضوعية والأمانة العلمية بطرح مساءلة أساس تشكل قاعدة تنهض عليها هذه المقاربة. هذه المساءلة ترتكز على فرعين: الأول ما هي الحداثة أو الشعر الجديد كما يسميها بعض النقاد والدارسين؟! والثاني: أين شعرنا المحلي منها؟ وكي تتسنى لنا الإجابة عن الأول يتحتم علينا الرجوع إلى الأصول التي اهتمت بموضوع الحداثة, وذلك كي نعرفها ونرى إلى آلياتها, ليتشكل بالتالي لدينا منظور علميّ نأخذه معيارا نقيس عليه. أما الثاني فتستوجب الإجابة عنه الوقوف على مجمل شعرنا العربي المحلي بصبر وأناة وعمق لنرى إلى كيفية تجسد هذه الحداثة فيه سواء أكان ذلك في بنى القصائد وأشكالها, أو في مضامينها ورؤاها وكي لا تعدم هذه المقاربة علميتها كان من الضروري أن تستقي مادتها ورؤيتها النقدية من مراجع اهتمت بالموضوع, اعتبرها من أفضل ما كتب فيه.وهنا تجدر الإشارة إلى أن اعتمادنا على هذه المراجع انقسم إلى قسمين: الأول ارتكاز مباشر على كتابين مهمّين يشكلان في رأيي مرحلة هامة من مراحل تطور المنظور العلمي للشعر العربي عامّة هما: الحداثة والشعر ليوسف الخال, وزمن الشعر لادونيس. أما القسم الثاني فكان ارتكازنا عليه لماما, وهي مراجع تناولت الحداثة من جوانب مختلفة أهمها: كتاب اللغة الشعرية لجاك كوهين, ودراسات في الشعر العربي الحديث لميخائيل امطانيوس, والشعر كيف نفهمه ونتذوقه لإليزابيث درو, وفي الخطاب الشعري ليمنى العيد.

ارتكازا على ما تقدّم نقول:

كان المفهوم القديم والشائع للشعر والذي احتل مرحلة زمنية كبيرة, على انه "كلام موزون مقفى". وقد عبّر الزهاوي عن ذلك بقوله:

" إذا الشعر لم يهززك عند سماعه        فليس خليقا أن يقال له شعر"

أما شوقي فقد شرح هذا المفهوم بقوله:

" الشعر إن لم يكن ذكرى وعاطفة       أو حكمة فهو تقطيع وأوزان"؟

مما تقدّم تكون غاية الشعر هزّ الوجدان والعقل كما يقول "د. عبد الواحد لؤلؤة", وطريقته إلى ذلك الوزن والقافية من جهة, والذكرى والعاطفة والحكمة من أخرى. وهذه النظرة للشعر بطبيعة الحال تجعل مهمته تعليمية إخبارية, أو وصفيّة كالنثر. وقد تحكمت هذه الغائية وهذا المفهوم للشعر بشعرنا العربي قرونا عديدة إلى أن جاءتنا آليات الثقافة الغربية فحوّلت من خلال تأثرنا بها هذا المفهوم وهذه الغائية إلى شيء آخر يحدده يوسف الخال بقوله:" إن الشعر فنّ غايته التعبير الجميل عن الذات في لحظة الكشف والرؤيا, يخاطب العقل ولا يخضع لقوانينه, مهمته الفريدة هي النفاذ فيما وراء الظواهر المتناقضة المبهمة ليكشف بالحدس والرؤيا أسرار الوجود الحقيقي, ووسيلته إلى ذلك اللغة, ولذلك فان الشعر لغة, أي أنه وليد مخيّلة خلاقة لا تعمل عملها الفني إلا باللغة".

هذا التعريف الجديد لمفهوم الشعر يقودنا إلى قضية الحداثة أو الشعر الجديد. فانطلاقا مما تقدّم, تكون الحداثة عبارة عن إبداع وخروج بالشعر عن السلفية, أي تكون رؤيا, والرؤيا بطبيعتها ثورة خارج المفهومات السائدة, أي أنها تغيّر في نظام الأشياء ونظام النظر إليها. والقصيدة الجديدة من هذا المنطلق أيضا تمرد على كلّ الأشكال والطرق الشعريّة القديمة كما يقول أدونيس. ولهذا فان أهم ما في الحداثة أنها موقف كياني من الحياة في المرحلة التي تجتازها, فهي ليست أشكالا نقتبسها أو زيّا نتزيى به كما يقول الخال, لأن المهم هو ما وراء الأشكال والأزياء, وهذا الماوراء هو العقلية, فإما أن يكون الشاعر ذا عقلية جديدة أو لا يكون. وهذا يعني أن الحداثة حركة إبداع تماشي الحياة في تغيرها الدائم والشعر الجديد بهذا المعنى تصبح له حقيقته الخاصة, حقيقة العالم الذي لا يعرف الذهن التقليدي أن يراه, ولكن الذي يراه ويكشف عنه هو الشاعر, فالشعر الجديد يرى في الكون ما تحجبه عنّا الالفة والعادة ويكشف وجه العالم المخبوء كما يكشف علائق خفيّة ويستعمل لغة ومجموعة من المشاعر والتداعيات الملائمة للتعبير عن هذا كلّه.

هذه هي بعض مهمات الشعر الجديد كما يحدّدها يوسف الخال وهذا هو امتيازه في الخروج من التقليديّة, فقوامه معنى خلاّق توليدي لا معنى " سردي, وصفي, أي قوامه" الكشف عن عالم يظلّ أبدا في حاجة إلى الكشف" كما يقول رينيه شار: من هنا يتخذ هذا الشعر الجديد/الحداثة خاصية مهمة وهي أن يعبّر عن قلق الإنسان أبديّا, ومن هنا يصبح الشعر الجديد متفردا متميزا, ومن هنا ثالثا يصطدم هذا الشاعر الجديد بعملية الخلق الشعري بتحدّيين: حدود اللغة- قواعدها وأصولها. والأساليب- أي التعبير الشعري المتوارث والمتبع في التراث الأدبي. وبقدر ما يتحدى هذان الامران الشاعر بقدر ما يمتحنان اصالته وموهبته الابداعية فعلى الشاعر الموهوب أن يعترف بقواعد لغته وأصولها وبمبادئ الأساليب المتأثرة بهذه اللغة المتوارثة في تاريخها الأدبي, وفي الوقت ذاته بأخذ لنفسه قدرا كافيا من الحريّة لتطويعها ولينفخ فيها شخصيته. ومن هنا أيضا يكون على الشاعر الجديد في خلقه أن يجتاز عمليّة صراعيّة مع اللغة والأسلوب- شريطة ألا يطلقهما كليّا- كما عليه أن يخرج سيدا ومنتصرا. وهذا لا يمنع فرادة الشاعر ولا فرديته بل بالعكس ففرادته وفرديته لا توجدان إلا ضمن هذين العبئين. ففي قدرة الشاعر- وهذا امتحانه- أن يتناول اللغة والطريقة المتوارثة ويرغمهما على التفاعل كمعنى مع المعنى الفردي والفريد الذي جاءت به تجربته.

تأسيسا على ما ذكر تصبح القصيدة الجديدة بناء موضوعيا ذا معنى ينعم بوجود خاصّ به, وهذا البناء يتميّز بالتضمين وبتلاقي الأضداد وبالتلميح. كما يحدّد ذلك يوسف الخال. فبالتضمين  تكتسب القصيدة الجدّة والطرافة وتعالج القضايا في ضوء تعقيداتها الحقيقية. وبتلاقي الأضداد تكتسب التوتر والزخم وترتفع عن مساق الكلام العاديّ. وبالتلميح تكتسب الضّبابيّة والسريّة اللتين تثيران في القارئ حب الاستطلاع والتشويق والتحدي والمغامرة في المجهول. وحجارة هذا البناء الموضوعي هي الألفاظ لأنها في الشعر تؤدي إلى ما وراء المعاني فتنضاف إليها أبعاد جديدة وبذلك تتجدد وتحيا وتصبح اللغة في معنى الشعر لا في مبناه فقط. هذه الألفاظ تتركب في البناء الشعري على غير ما تتركب في النثر, بحيث تكون بعيدة عن المباشرة والوضوح قريبة من التكثيف والإيحاء, لذلك العبارة الشعرية هي التي تتجنب تقرير حقيقة مجردة في الذهن.

إذا أخذنا كل ما ذكر بالحسبان نجد أن الشعر الحديث يتجه الى التخلي عن أشياء عديدة. يحدّدها أدونيس بما يلي:

أولا: التخلي عن الحادثة.

ثانيا: في تخليه عن الحادثة يكفّ أن يكون شعر وقائع أي يبطل من الاقتراب من النثر العاديّ ومن المألوف من دلالات الكلمات.

ثالثا: التخلي عن الجزئية. واحتواء رؤيا للعالم ليست مباشرة.

رابعا: التخلي عن الأفقيّة كما هي في الشعر القديم, بحيث عليه أن يتجاوز السطح للغوص في الأشياء, ووراء ظواهرها بحيث نرى العالم في حيويته وحركته وطاقاته. في الشعر الجديد نجد شعرا لا يتسكع على السطح ويعاني الوجود من خارج بل يتحوّل إلى محايئة هذا الوجود.

خامسا: التخلي عن التفكّك البنائي أي عن التشقق في الهيكل وعن الخطابيّة والمباشرة والاستعاضة عن ذلك كلّه بالصورة التركيبيّة الصورة الرّمز.

انطلاقا مما تقدّم يقوم تنافر بين الشاعر والواقع يوازيه تنافر بينه وبين القارئ. هذا التنافر هو أبرز خصائص هذا الشعر الجديد وهو بمفهوم آخر الغرابة و "الجميل غريب دائما" كما يقول بودلير والغريب هنا هو الجدّة. والغريب لا يمكن فهمه بسهولة لأن الجديد يعني ان نحيد بطرائقنا ورؤانا الشعريّة عن طرائق الماضي ورؤاه.

وهذا التنافر يثير مسألة مهمة في رأي ادونيس وهي مسألة الفهم مسألة الغموض والوضوح. والحقيقة أنه ليس من الضروري لكي نستمتع أن ندرك معنى الشعر إدراكا شاملا لأن هذا الإدراك يفقدنا المتعة. ذلك لأن الغموض هو قوام الرغبة بالمعرفة, لذلك هو قوام الشعر, شريطة ألا يتحوّل إلى تعميات وأحاجِ شعريّة, لذلك شرطه في أن يظلّ خاصيّة شعريّة أن يكون إشارة إلى أن القصيدة تعني أكثر مما يقوى عليه الكلام العادي على تقله. من هنا تصبح عملية تعريف الشعر الجديد ليست سهلة.

ولكن خير ما نعرّف به هذا الشعر هو ما قالته مرّة الشاعرة والناقدة اميلي ديكنسون, حين سئلت عن الشعر الجيّد فقالت: " ما من تعريف له غير أني إذا ما بدأت أقرأ وشعرت أن قمة رأسي قد انتزعت حينئذ أقول أن ما أقرأه شعر" وهذه هي الحداثة بعينها, هذا هو الشعر الجديد. والسؤال الذي يرتفع الآن بعد هذه المقاربة الشائكة هل وصل شعرنا المحلي إلى هذا كلّه؟! بمعنى هل وصل في مسيرته الشائكة والشائقة معا إلى الحداثة؟!

(2)

في المقال السابق طرحنا قضية الحداثة ومفهومها النظري كما يراها النقاد والدارسون- واستمرارا لم قلناه سنتطرق هذه المرّة, وفي هذه العجالة إلى آليات الحداثة لنرى إلى تجسدها في شعرنا المحلي.

بداية أقول: إن أهم ما تطرحه الحداثة- وربما هو غايتها_, اختراق المألوف وتفتيق العادي إلى الإدهاش والشدهة شريطة عدم الوقوع في براثن السنتمنتالية الرخيصة أو السقوط في المباشرة والتصريح والشعار. من هنا تسعى الحداثة دائما إلى ترسيخ الضبابيّة والسريّة كميزتين أساسيتين تثيران حكّ الذهن والتشويق والتحدي والمغامرة وحب الاستطلاع والكشف. كما أنها تسعى إلى كسر حدود اللغة وحواجزها, وتنادي بتحدي الأساليب المتوارثة السلفيّة التي رسخت في الذهن وتدعو إلى الاستشراف والتداعيات وان تكون القصيدة حاملة لحلم ومشتملة على رؤيا. وهذه الأمور مجتمعة تحدّد الحداثة باليات وعناصر بدا شعرنا العربي عامة ومنذ أواسط السبعينات وربما قبل ذلك بقليل يدنو منها ويحاول الوصول إليها. من هذه الآليات وربما من أهمها قضية الترميز, ولكن شريطة أن ألا يكون الرمز نبتا شيطانيا منبتا عن القصيدة أو مستغلقا إلى حد الإبهام والتعمية بل عليه أن يكون نابعا عن ضرورات فنيّة. والترميز بهذا الشكل يستلزم أن تتحول اللغة في الخطاب الشعري من التصريح والوضوح إلى التلميح والإيحائية والتكثيف. ضرورتان شعريتان كالترميز والتكثيف وضرورتان أخريان كالتلميح والإيحائية لا يستقمن إلا مع التضمين وبه, ذلك التضمين الذي بواسطته تكتسب القصيدة جدّتها وطرافتها, فالتضمين يستدعي بطبيعة الحال تلاقي الأضداد الذي يعطي القصيدة زخمها وتوتراتها بحيث ترتفع مع هذا الزخم وهذا التوتر فوق مساق الكلام العادي. وهذه الأمور تقود بالتالي إلى شعر مكثّف موحِ ذي صور تركيبيّة رامزة, بمعنى ليست مسطحة, والى لغة نابضة حيّة. ومفردات وألفاظ تؤدي إلى ما وراء المعاني وتنضاف إليها أبعاد جديدة وبذلك تتجدّد وتحيا إذ أن اللغة ماء حياة القصيدة. وهذا يعني أن تكون الألفاظ بعيدة عن المباشرة والوضوح بحيث تتجنب التقريريّة من جهة وأن تخلو لغة القصيدة من الثرثرة والترّهل والكلام الفائض واللغو, من أخرى.

على الشعر الحديث بعد ذلك أن يستشرف المستقبل وان يسعى إلى مظاهر ذات ديمومة وصيرورة, كي يستطيع تحطيم العرض الإيضاحي والأيديولوجي المباشر ليصير تعبيرا عن التجربة الإنسانية كاسرا الرؤية الأفقية ليغوص في الأعماق معلنا فرديّة القصيدة وفرادتها وتميّزها. وينضاف إلى ما ذكر وكي يقرب الشعر الحداثة توظيف التراث بشكل ذكي تلميحي بحيث يولد هذا التراث تداعيات تضفي على القصيدة جوا ورونقا. كذلك توظيف لغة خلاّقة مؤثثة بمفردات منزاحة تقول ما لم نتعوده منها وتحتوي على تشبيهات مبتكرة ذات طرافة بعيدة عن المكيجة والأصباغ والمساحيق. كما أن من ضرورات الحداثة ومن آلياتها التناصّ الذي يُغني الخطاب الشعري ويؤكّد على بعد رؤيته وعمق فكرته وثقافة شاعره. وتوظيف التراث والتناص كعنصرين من آليات الحداثة يستدعي أيضا الاسطرة شريطة أن تتفاعل الأسطورة مع ما تقوله فكرة القصيدة لا أن تسجل كأسطورة فقط.

هذه هي آليات الحداثة التي وفدت إلينا من الغرب بعد انفتاحنا عليه. وتأسيسا على ذلك ينهض سؤال يقول: أين شعرنا المحلي من كل ما ذكر؟! وهو السؤال الأهم في هذه العجالة!والإجابة على مثل هذا السؤال تستلزم الصراحة من جهة والحذر من جهة أخرى. الصراحة لأننا نبغي من هذا الحديث توضيح مسألة مهمة تلحّ على واقع شعرنا ومستقبله والحذر لأننا ونحن نتحدّث عن الحداثة لا ننفي وجودها كليّا بل نؤشر على قلتها.

إن الاستقراء العميق والنظرة الفاحصة لمجمل شعرنا منذ الستينات يشيان بأن هذا الشعر في معظمه ما زال يدور في خانة السلفية, والقليل منه استطاع مع الزمن أن يرتفع إلى المستوى المطلوب الذي يتلاءم مع ما ذكر. ولكن وإنصافا لهذا الشعر تحتم الضرورة الموضوعية أن نرى إلى الظروف التي مرّ بها وجعلته يقصر عن مواكبة ركب الحداثة- وفي هذا سنختصر لضيق المجال- وتجدر الإشارة هنا إلى أننا في كلامنا عن الظروف لا نهدف إلى إيجاد المبررات بل إثبات الحقائق.

لا يستطيع أي ناقد أو دارس اليوم أن ينكر ما مر به شعرنا منذ النكبة إلى اليوم, والشاعر بطبيعته يتأثر بالظرف ويعكس المرحلة. ومنذ النكبة التي حلت بنا عشنا حصارا واستلابا حضاريين ثقافيين رهيبين مذهلين بحيث أدى هذا الحصار إلى أن يتخذ الشاعر موقعا وطنيا فوق موقعه الشعري, بمعنى أنه أدى إلى أن يكرس الشعراء أدبهم في خدمة قضايا شعبنا وان كان ذلك على حساب قضية الأدب وادبيته أي على حساب شعرية الشعر, ومن هنا سيطر نوع معين من الشعر على معظم إنتاج شعرائنا ونعني بهذا النوع المعين شعر المقاومة. وشعر المقاومة هذا جمع الموقف والتعليم معا. إذ لا يمكن أن نتخيّل شاعرا في تلك الفترة تصادر أرضه وارض شعبه ويضرب حول حريته الخناق بيد من حديد يتخلى عن الموقف وينظم شعرا لفينوس, أو يتعامى عن الموقف ويفتش عن الشعريّة. الشعر في مثل هذا الحالة يتدفق ليثور وليثوّر ولأنه كذلك يصير خطابيا مباشرا صريحا. الضرورة إذا والمسؤولية جعلت هذا الشعر يزج بنفسه في خضم المعركة وفي حمى المقلاة, فكانت للشعر رسالة تثويرية تنويرية لا بل قيادية وعظية إذ كيف يمكن لنا أن نرى شعبا يقع تحت الحصار وعلى جميع الأصعدة ويقاوم ليكسر الطوق ويدفع الثمن ضحايا وشعراؤه مشغولون بقضايا فنيّة بحتة لا تخدم هذا الصراع ولا هذه المقاومة ولا تساعد على كسر هذا الطوق؟! كيف يمكن لنا أن نرى شعبا يصارع يوميّا من أجل انتزاع لقمة العيش وتعليم أولاده وتوفير أدنى شروط الحياة من جهة وان نجد شعراءه يتناقشون على لفظة هنا وصورة هناك؟!

الظروف إذن هي التي دفعت بشعرنا وشعرائنا إلى اتخاذ موقف لا مهرب منه ولا حيدة عنه, والظروف هي التي وجّهت شعرنا وشعراءنا تلك الوجهة التي نتحدث عنها فحتى هؤلاء الذين هربوا من المعركة وابتعدوا بشعرهم عنها بحجة الفنية نبذ شعرهم وابتعد عنه القراء والناس لأنهم رأوا فيه تزييفا للمرحلة.

المرحلة إذن بقسوتها وظروفها وملابساتها فرضت على شعرنا النبرة التعليمية الإخبارية الخطابية المباشرة والمهمة الوصفيّة القريبة من النثر, وكل هذه الأمور أبعدته عن مفهوم الحداثة. ولكن الحقيقة تستوجب القول انه رغم كل ذلك استطاع عدد قليل من شعرائنا أن يفلتوا من إسار هذه النبرة وهذه المهمة لينطلقوا إلى الجديد. وهذا جهد يسجّل لصالحهم, لصالح هؤلاء الشعراء الذين استطاعوا بمهارة وبذكاء رغم ضرورة المرحلة التي بيّنّاها سابقا أن يطوّروا قصيدتهم- وحتى المقاومة منها- وأن يكسروا حواجزها وحدودها زان يقدموها بشكل جديد ارتفع عن المباشرة التصريحية والسطحيّة والإخبارية آفة هذا النوع من الشعر. ولكن هؤلاء الشعراء قلّة كما ذكرت والحركات الشعريّة لا تقاس بالأفذاذ وبالقلة. ومن هنا أرى إلى انه رغم التطور الذي حصل أن عددا كبيرا من شعرائنا لغاية اليوم لم ينجحوا في كسر النبرة التعليمية الوصفية الإخبارية في قصائدهم لينطلقوا إلى الشعر الجديد/ شعر هذه المرحلة, ومن هنا يستمد هذا الكلام شرعيته, ومن هنا أيضا نعود إلى ما قلناه: إن معظم شعرنا ما زال يدور في خانة السلفيّة. ومن هنا ثالثا نقول على هذا الشعر اليوم وكي يكون صادقا وأمينا للمرحلة الجديدة أن يحاول الإفلات من إسار الماضي, الإفلات من قيوده, والاتجاه نحو الجديد/ نحو الحداثة ليلائم روح العصر. على هذا الشعر اليوم أن ينطلق ليعانق الحداثة, ومعانقة الحداثة لا تعني بالضرورة أن يطلّق الشاعر تراثه الشعري ولا أساليبه الشعريّة القديمة المتوارثة, ولكنها تعني أن يستفيد منهما من ناحية وان يخترقهما من أخرى. وهذا لا يمنع فرادته ولا فرديته إذ أنهما لا توجدان إلا ضمن هذين العبئين, وفي قدرة الشاعر وهذا امتحانه أن يتناول اللغة والطريقة المتوارثة وان يرغمهما على التفاعل كمعنى مع المعنى الفردي والفريد الذي جاءت به تجربته.  

على الشاعر اليوم ونظرا لتطور المرحلة أن يطوّر مجاله الانطولوجي لتّتسع مضامينه ولتتلون افكاره ليصبح شموليّا رحبا, عليه أن يكفّ عن الدوران على محور ثيمي واحد, لينطلق إلى رؤية شاملة شمولية للكون. عليه أن ينتشل شعره من التسكع على السطح ومعاناة الوجود من خارج وأن يحوّله إلى محايئة هذا الوجود. عليه أن يفهم أن الشعر يرى الكون في حركته وفي حيويته ويرى فيه ما تحجبه عنا الألفة والعادة. فالشاعر  الشاعر الذي يكشف العالم المخبوء كما ويكشف علائق خفية ويستعمل لغة ومجموعة من التداعيات الملائمة للتعبير عن ذلك.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن وكيف ذلك؟! بمعنى كيف يمكن ان ننتشل شعرنا مما يعانيه؟ إن انتشال شعرنا لا يتم إلا  بتقريبه وبدفعه نحو الحداثة أي أن انتشاله لا يتم إلا إذا اقتحم الشاعر بجرأة عالم الشعر الحديث, وطرق أبواب التجديد غير هيّاب. وهذا الاقتحام وهذا الطرق رغم أنهما أشبه بقشرة موز لزجة من الممكن أن ينزلق عليها الشاعر وان يرتكس بالأزمة ذاتها, إلا أنهما الوسيلة الوحيدة للانطلاق. ولأنهما كذلك علينا أن نكون حذرين. وحين نقول لا, لا يمكن انتشال شعرنا الا بتبنيه الحداثة ودفعه نحوها نعني أن نحاول فهم آليات هذه الحداثة وتوظيفها في شعرنا. وكي يكون شعرنا مقاربا لهذه الحداثة لا يعني ذلك أن نوظف كل الآليات دفعة واحدة إذ يكفي أن تطرح القصيدة مباشرتها وان تلجأ للتلميح لكي تقارب هذه الحداثة.يكفيها أن تستغني عن نبرتها الإخبارية وان تلجأ إلى الإيحاء لتقارب الحداثة. يكفيها أن تتخلى عن لغتها التعليميّة وأن تلجأ إلى الترميز, يكفيها أن يتناول الشاعر فكرة ما وأن يقدّمها بطريقة حديثة كي يكون شعره قريبا من الحداثة. يكفي القصيدة اليوم أن تتوسّل الأسطرة لتوظفها أو أن توظّف التناص لتغني بذلك خطابها الشعري. يكفيها أن تتكئ على التراث وأن توظفه لترتفع بهذا الخطاب الشعري إلى مستوى الحداثة. يكفيها أن تلجأ إلى الصورة الرامزة المركّبة لتبتعد عن السطحيّة والأفقيّة, يكفيها أ تلجأ إلى الضديّة لتكتسب زخمها وتوترها لتقترب إلى الحداثة, ولترتفع عن مستوى الكلام العادي. يكفيها أن تتخلى عن الحادثة وأن تبتعد عن المألوف من الكلام وتوظيف لغة منزاحة كي تكون حديثة. يكفيها أن تقترب من لغة القصّ والاسترجاع والتداعي كي تكتسب طرافتها وجدّتها وحداثتها. يكفيها أن تجدّد شريطها اللغوي وتغنيه بلغة جديدة بعيدة عن الوضوح والمباشرة. يكفيها أن تلفّ نفسها بالسريّة والغموض المعقول- ولكن ليس الإبهام والتعميّة- كي تصبح حديثة.

بهذه الآليات وبها فقط نستطيع أن ننتشل قصيدتنا من الرتابة والمباشرة ومن النبرة التعليميّة الإخبارية ومن الوصفيّة النثريّة. ولكن مرّة أخرى هذا لا يعني أن تتزاحم كل هذا الاليات في قصيدة واحدة كي تصبح قصيدة حدائثية بل يكفيها أن تأخذ منها ما يلائمها وهنا طبعا تكمن مهارة الشاعر ومن هنا يكون التفاوت.

وللحقيقة أقول أنه في شعرنا اليوم نجد بعضا من هذه الاليات, ولكن هذا البعض وهذا الموجود ما زال قليلا, وعلى قلته نجده حييّا خجلا ليس مطمئنا من جهة أو موظّفا بشكل فج في معظمه من أخرى.

وهذا الكلام طبعا لا ينفي وصول القلّة ولكن نحن لا نريد القلّة ولا نكتفي بها إذ أن الشعر لا يقاس بالقلّة بل بالكثرة والعامّ, وحتى نصل إلى ذلك على شعرائنا أن يطوّروا أنفسهم وأن يخرجوا من دائرة العتمة إلى الضوء, كي نقول أن شعرنا بخير. وهم يستطيعون ذلك لو بذلوا جهدهم وهم يحاولون وأنا في ذلك متفائل, لا بل منه على يقين

              

* د. حبيب بولس – ناقد أدبي  ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية.