كتاب (التصوير الفني في القرآن)

للمفكر الإسلامي الكبير سيد قطب

سيد قطب رحمه الله

نجيب محفوظ

مقالة نقدية للروائي الكبير/ نجيب محفوظ. يخاطب فيها صاحبَ الكتاب حول كتابه

قرأتُ كتابَك "التصوير الفني في القرآن" بعناية وشغف، فوجدتُ فيه فائدتين كبيرتين:

أُولاهما للقارئ، خصوصاً القارئ الذي لم يُسعِده الحظُّ بالتفقُّه في علوم القرآن، والغوص إلى أسرار بلاغته. بل حتى هذا القارئ الممتاز لا شكَّ وَاجِدٌ في كتابك نوراً جديداً ولَذَّةً طريفة، ذلك أن كتاباً خالداً كالقرآن لا يُعطي كلَّ أسراره الجمالية لِجيلٍ من الأجيال مهما كان حَظُّه من الذوق وقَدْرُهُ في البيان، فللجيل الحاضر عَمَلُه في هذا الشأن، كما سيكون للأجيال القادمةِ عملُها. والمهم أنك وُفِّقْتَ لأن تكونَ لِسانَ جيلنا الحاضر في أداء هذا الواجب الجليل الجميل معاً، مستعيناً بهذه المقاييس الفنية التي يَأْلَفُهَا المعاصرون ويُحِبُّونها ويَسْرُون في وادي الفنِّ على هُداها ونورِها.

إن عصرنا - من الناحية الجمالية - عصرُ الموسيقى والتصوير والقصة، وها أنت ذا تُبَيِّنُ لنا بقوة وإلهام أن كتابنا المحبوبَ هو الموسيقى والتصوير والقصة في أسمى ما ترقى إليه من الوحي والإبداع. ألم نقرأ القرآن؟ بلى. وحَفِظنا - في زمنٍ سعيدٍ مَضَى - ما تَيَسَّرَ من سُوَرِه وآياته، وكان - وما يزال - له في قلوبنا عقيدةٌ وفي وجداننا سِحرٌ، بَيْدَ أنه كان ذاك السِّحرَ الغامضَ المغلَق، تحسُّه الحواس، ويهتز له الضمير، دون أن يدركه العقلُ أو يبلغه التذوقُ، كان كالنغمة المُطرِبَةِ التي لا يدري السامعُ لماذا ولا كيفَ أَطرَبَتْه، فجاء كتابُك كالمُرشِدِ للقارئ والمستمع العربي من أبناء جيلنا، يَدُلُّه على مَواطنِ الحُسن ومطاوي الجمال، ويُجَلِّي له أسرارَ السحرِ ومفاتنَ الإبداع. كان القرآنُ في القلب فصار مِلءَ القلب والعين والأُذُن والعقل جميعاً.

ولقد قلتَ بعد نظر طويل وتَدَبُّر: "التصوير هو الأداة المُفَضَّلَةُ في أُسلوب القرآن، فهو يُعَبِّر بالصورة المُحَسَّةِ المُتَخَيَّلَة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور.. وعن النموذَج الإنساني والطبيعة البشرية. ثم يرتقي بالصورة التي يَرسُمُها فَيمنَحُها الحياةَ الشاخصة أو الحركة المتَجَدِّدَة، فإذا المعنى الذِّهني هيئةٌ أو حركةٌ، وإذا الحالة النفسية لَوحَةٌ أو مَشهَدٌ، وإذا النموذج الإنساني شاخِصٌ حَيٌّ، وإذا الطبيعةُ البشرية مُجَسَّمةٌ مَرئيَّةٌ ...".

ومَضَيتَ تَستشهِدُ لكل حالة بالأمثال، مفسِّراً شارحاً مُوَضِّحاً، ولم تقتنع بذلك، فَتَوثَّبتَ للبحث عن القواعد التي يقوم عليها هذا التصويرُ المُعجِز من التَّخييل الحِسِّي والتجسيمِ في فيضٍ من الأمثال والشواهد، ثم لم تقتنع بما فَتَحَ اللهُ عليك من سِحر هذا الفَيضِ الإلهي فقلتَ: "حينما نقولُ إن التصوير هو القاعدة الأساسية في تعبير القرآن، وإن التخييلَ والتجسيمَ هما الظاهرتان البارزتان في هذا التصوير، لا نكون قد بلغنا المَدَى في بيان الخصائص القرآنية عامةً ولا خصائص التصوير القرآني خاصة.. هنالك التناسقُ الذي يبلغ الذّروَةَ في تصوير القرآن". فكان هذا الفصلُ الذي بلغتَ به أنتَ أيضاً الذروةَ في النقد والذوق والفهم.

كنتُ أَوَدُّ لو أَستَشهِد ببعض ما جاء في كتابك من النقد التطبيقي للآيات الكريمة، ولكن تضيق عن ذلك كلمتي الموجَزَة، ويأباه ذوقي الذي يَأبى المُفاضَلَةَ بين آي الذِّكر على أَيِّ وَجهٍ من الوجوه. ومهما يكن من أمر فينبغي أن أُقَرِّرَ هنا أنه في فَصْلَي "التناسق الفني" و"القصة في القرآن" قد باركَ القرآنُ مَجهودَك، فَرَفَعَكَ إلى مُرتَقىً يَتَعَذَّرُ أن يَبلُغَهُ ناقِدٌ بغير بَرَكةِ القرآن ..!.

أما أخرى الفائدتين فهي لك أنت! لأن الكتاب في جملته إعلانٌ عن مواهِبِك كناقد. إنك تستطيعُ أن تُعَبِّرَ أجملَ التعبير عن أَثَرِ النَّصِّ في نفسك، ولا تقفُ عند هذا فتجاوِزه إلى بيان مواضع الجمال في النص نفسِه، وما يَحفلُ به من موسيقى وتصوير وحياة، ثم تستنطق الموسيقى أنغامها وضُروبها، وتستخبر الصورة عن ألوانها وظِلالها، وتستأدي الحياة حرارتها وحركتها. ولا تَقنَعُ بهذا كُلِّه! فيقرن ذِهنُك بين النص والنص، حتى تظفر وراء الظواهر بوحدة، وخلف الآيات بطريقة عامة، تجعل من الكتاب شخصاً حيّاً ذا غاية واضحة، وسياسة بارِعة، وخطة موضوعة، تَهدفُ جميعاً إلى الإعجاز الفني، فتناله عن جدارة. فهذا ذوق جميل، وتَذَوُّقٌ عسير، وفِكرٌ ذو نَفحة فلسفية..

والآن اسمحْ لي أن أُوَجِّهَ إليكَ سؤالاً، وأن أَسوقَ مُلاحظةً:

أما السؤال: فإنك تحدَّثتَ عن التصوير والتخييل والتجسيم والتنسيق الفني، وكل أولئك رُوحُ الشِّعر ولُبابُه قبل أي شيء آخر، أفلم يَخطُر لكَ أن تُحَدِّدَ نوعَ كَلام القرآن على ضوءِ بَحثِك؟

وأما الملاحظة: فَعَنِ الفصل الذي خَصَّصتَه للنماذج الإنسانية، فقد وَجَدتُ فيما استشهدتَ به من آياتٍ ما يُعَبِّرُ عن طبائعَ بَشَريةٍ وسجايا نفسية لا نماذج إنسانية، فالنموذج الإنساني بمعناه العلمي شيءٌ أَشمَلُ من هذا، وهو قد يَحوي الكثيرَ من هذه الطبائع كما يحوي غيرَها، والمهم أنه يَعرِضُها على نحوٍ خاصٍّ يَتَّفِقُ ومزاجَه الأساسيَّ. والنماذج الإنسانية محدودةٌ معروفة - على اختلاف تقسيم علماء النفس لها - أما الطبائع فلا حَصْرَ لها، فلعلَّكَ قَصَدتَ الطبائعَ لا النماذج.

عن كتاب/ حول الأدب والفلسفة لنجيب محفوظ - الدار المصرية اللبنانية ص191.