تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 72

تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 72

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[ تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " أَسْرارُ الْبَلاغَةِ " لِعَبْدِ الْقاهِرِ الْجُرْجانيِّ ]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

تَتَصَوَّنُ عَلى وَدائِعِها .

قال أستاذنا محمود محمد شاكر - رحمه الله ! - قارئ الكتاب والمعلق عليه : " " تَتَصَوَّنُ " فِي الْمَخْطوطَةِ ، وَحَذَفَها رَيْتَرْ لِأَنَّه لَمْ يُحْسِنْ قِراءَتَها ، وَهِيَ ساقِطَةٌ في مَخْطوطَتِهِ الْأُخْرى ، وَفي طَبْعَةِ رَشيدْ رِضا . وَ" تَتَصَوَّنُ " أَيْ تُحْكِمُ الصِّيانَةَ عَلى وَدائِعِها " . قلت : بمثل هذا يعجز المستشرق والمحقق الضعيف منا ، ويفتضحان ! ولكن ثَمَّ عجزا بهذا الكتاب ، لم ينج منه أستاذنا نفسه ؛ هو عجزه عن طباعته بيده ، كما صرنا نفعل الآن على حَواسيبنا ؛ فقد كثرت أخطاؤه على رغمه ، حتى عرفتُ وكنت من جلسائه ، أنه غضب على طابعه صديقه محمود المدني !

ثم لقد كنت زرت أستاذنا قبل عصر الجمعة 24/4/1992م ، واعتذرت عن التبكير بأنْ : قرأتُ الكتاب قراءة سريعة ، فصادفتُ أشياء أردتُ إطلاعكم عليها ! لم يكن عنده غيري ، فقال : قل ! فقرأت عليه بعض ما صادفت ـ ثم أَسْكَتَني بَدْءُ برنامج خواطر الشيخ الشعراوي - رحمه الله ! - في تفسير القرآن الكريم ، وكان يتتبعه ، وكنت أعرف ، فسكتُّ . فرغ الشيخ الشعراوي ، وقد بلغ الجوع من أستاذنا ، فنادى : الطعام ! واستتبعني ومن معي ممن جاءه بعد ، فتبعناه إلا صاحبا أغريتُه بالحضور ، فبقي مستحييا من عوائد آل البيت ! أكلنا ، وشربنا ، وتجاذبنا أطراف الأحاديث بيننا ، عن يسار أستاذنا على كرسيه ، فإذا به ينادي فهرا ، يطلب نسخته من الكتاب ، ويناديني : صقر ، أجبته بنسختي ، فقال : اقرأ واحدا واحدا ، ولا تتكلم ( لا تتجاوز حدود تعليقاتك ) ! ثم تَذاكَرْنا من كلام سيدنا في هذا الكتاب ( أسرار البلاغة ) ، جَليسينِ يُظَنّان تِرْبَيْنِ ، وبينهما من بون العمر ستون سنة شمسية ، ومن بون العلم سبعون سنة ضوئية ! فقَبِلَ أكثر ما ذكرتُ ، وتوقَّف في بعض ، ودفع ما لا يكاد يتجاوز الموضعين ! حتى إذا ما فرغنا طرب أستاذنا ، فخاض في حديث الكتب والكُتْبيّين ، ثم طلب نسخا من الكتاب هدايا ، فأبيت إلا أن يهديني " تهذيب الآثار للطبري " الذي قرأه وشرحه وخرجه وفعل به وهو الكاتب الأديب ، كل عجيبة لا يقوم لها علماء الحديث المعاصرون - ولم تكن عنده منه نسخة ، فأهدى صاحبي ، وكتب له عبارة الإهداء الثمينة ، ولم أَحْلَ بطائِلٍ !

ثمت أرى أن أتحرى إلى تعليقاتي ، إيرادَ كل ما ذاكرتُ فيه أستاذنا - وإن لم يكن مما أستسيغ اليوم أن أعلقه - تبركا به ، ولا سيما أنني الآن بين آله آل بيت النبوة بالمدينة المنورة ، أخطو بكلية التربية والعلوم الإنسانية من جامعة طيبة ، خطاي الأولى ، على أسبوع من حجي البيت العتيق ، أَبَرَّه الحق - سبحانه ، وتعالى ! - وغَفَر به !

تَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ ما يُعْطِي التَّجْنيسَ مِنَ الْفَضيلَةِ ، أَمْرٌ لَمْ يَتِمَّ إِلّا بِنُصْرَةِ الْمَعْنى ؛ إِذْ لَوْ كانَ بِاللَّفْظِ وَحْدَه لَما كانَ فيهِ إِلّا مُسْتَحْسَنٌ ، وَلَما وُجِدَ فيهِ مَعيبٌ مُسْتَهْجَنٌ ؛ وَلِذلِكَ ذُمَّ الِاسْتِكْثارُ مِنْهُ وَالْوَلوعُ بِه ؛ وَذلِكَ أَنَّ الْمَعاني لا تَدينُ في كُلِّ مَوْضِعٌ لِما يَجْذِبُهَا التَّجْنيسُ إِلَيْهِ ؛ إِذِ الْأَلْفاظُ خَدَمُ الْمَعاني وَالْمُصَرَّفَةُ في حُكْمِها ، وَكانَتِ الْمَعاني هِيَ الْمالِكَةَ سِياسَتَها ، الْمُسْتَحِقَّةَ طاعَتَها ؛ فَمَنْ نَصَرَ اللَّفْظَ عَلَى الْمَعْنى كانَ كَمَنْ أَزالَ الشَّيْءَ عَنْ جِهَتِه ، وَأَحالَه عَنْ طَبيعَتِه ، وَذلِكَ مَظِنَّةُ الِاسْتِكْراهِ ، وَفيهِ فَتْحُ أَبْوابِ الْعَيْبِ ، وَالتَّعَرُّضُ لِلشَّيْنِ .

ذكرت بهذا جُحا حين عالج بيده اليسرى أذنه اليمنى ؛ فسخر منه المصريون في مَثَلِهم : " وِدْنَكْ مِنينْ يا جُحا ! مِ النّاحْيَه التّانْيَه " !

وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّكَ لا تَجِدُ تَجْنيسًا مَقْبولًا وَلا سَجْعًا حَسَنًا ، حَتّى يَكونَ الْمَعْنى هُوَ الَّذي طَلَبَه .

كنت أستنكر عاطِفَيْ هذا التركيب " وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّكَ " ، فلما رأيته في كلام الكبار ، كفكفت من شأو استنكاري ، وخرجته على أن " عَلَى الْجُمْلَةِ " ، بقية جملة محذوفة ، تقديرها كلامي ذلك على الجملة - أو  قلت ذلك على الجملة - عُطِفت بالواو على ما قبلها ، أو استؤنفت عنه ، والاستئناف أخو العطف ؛ فإذا تخرجت على هذا ، انعطفت عليها جملة " إِنَّك (...) " بالفاء السببية .

ثم لما ذاكرت في ذلك أستاذَنا - رحمه الله ! - ذكر أنه فصثيح .

فَقَدْ أَصْبَحْتَ أَغْلَبَ تَغْلَبَيٍّ عَلى أَيْدِي الْعَشيرَةِ وَالْقُلوب

ظننت فتحة لام " تَغْلَبَيٍّ " خطأ كفتحة بائها هذه العجيبة ، فلما ذاكرت فيها أستاذنا ، لم ينظر في كسر الباء وهو بديهي ، وذكر أن فتح لام " تَغْلِب " في المنسوب إليها ، شاذ وارد ، ولكنه قَبِلَ كسرها ، وفي قبوله الكسر مع شهرة الفتح ، تنبيه على ما صرنا نقوله من أن الأصل الطبيعي في النسب إلى الكلمة ألا يغير منها ما لا يعوق إضافة لاحقة النسب ، كما في " بَديهيّ ، وطَبيعيّ " ، نسبة إلى " بَديهة ، وطَبيعة " !