دكتور جابر قميحة.. عطر الزمن الجميل

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

قراءة- د. خالد فهمي

شيءٌ من النشوة يتملك الإنسان وهو يقف أمام ماضٍ قريب كان بالإمكان أن يغيِّر وجه حياتنا لو امتدَّ تيار نهره ولو لم يقف في وجه حركة تدفقه عقبات من كتائب الشر.

هذا مدخل يصوِّر ما تملَّكني وأنا أقرأ الكتاب الجديد للدكتور/ جابر قميحة (ذكرياتي مع دعوة الإخوان في المنزلة دقهلية(. 

ومبعث النشوة والسعادة بهذا الكتاب الجديد راجع إلى قلةِ هذا النوع من الأدبيات بشكلٍ عام، وراجع إلى قلتها بشكلٍ واضحٍ جدًّا بين أعلام الإخوان المسلمين بشكلٍ خاص.

وربما تكون قلة أدبيات المذكرات والذكريات والشهادة على التاريخ الماضي راجعًا إلى تحذيرٍ قديمٍ افتتح به الأستاذ حسن البنا كتابه الشهير ) مذكرات الدعوة والداعية ) : ص9-طبعة المكتب الإسلامي، بيروت/ دمشق 1403هـ 1983م)؛ حيث يقول: "وإن كنت أوصي الذين يعرضون أنفسهم للعمل العام ويرون أنفسهم عرضةً للاحتكاك بالحكومات ألا يحرصوا على الكتابة؛ فذلك أروح لأنفسهم وللناس، وأبعد عن فساد التعليل وسوء التأويل ﴿وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾   ( الأحزاب: من الآية 4)

كان هذا التحذير القديم وليد أجواء لم يزدها الزمان إلا وحشيةً ولم يزدها تعاقب الحكومات والأنظمة في مصر والعالم العربي إلا ضراوةً وعنفًا.

وربما كان ذلك سببًا قويًّا في غياب محزن لهذا النوع من الأدبيات التي تمد الأجيال المعاصرة بمددٍ بديعٍ دالٍّ على صدق الطريق واستقامته ونبل غاياته ورشد توجهاته.

وربما كان الحنين الإنساني الفطري نحو إشباع غريزة الحكي سببًا ينضاف إلى أسباب النشوة التي امتلكتني وأنا أقرأ هذه الذكريات في هذا الكتاب الجديد، ولا سيما أن جابر قميحة مؤنس الحديث ودود إلى أبعد حدود الوداد.

والكتاب الذي جاء في مائة وثلاث وستين صفحة يتضمن ما يلي:

1- الأدبي أو العلمي (ص 13- 20(

2- المنزلة ودعوة الإخوان (21- 28(

3- وقالت مشاعري (29- 34(

4- عوامل الجذب والتحبيب (35- 40(

5- من جهود إخوان المنزلة (41- 68(

6- في المجال الرياضي والاجتماعي (69- 78(

7- المنزلة في غمار الجاهلية والدم (79- 84)

8- مع الجهاد من أجل فلسطين ومصر والعروبة (85( 90-

9- في مدرسة طلخا الثانوية (91- 98(

10- شخصيات في رحاب الدعوة (99- 122(

قيمة الذكريات

قفز إلى ذهني وأنا أتأمل اللوحة البديعة التي تُغطِّي غلاف هذه الكتاب بصفرته المحببة التي تتوارى كلما اقتربنا من الأرض لتتحوَّل إلى خضرةٍ تُنبت النخل المتفاوت في الطول، وهي ما يمكن أن تئوَّل جماليًّا لتكون عنوانًا رائعًا على أثر دعوة الإخوان في الأرض المصرية الطيبة

أقول: قفز إلى ذهني ما جاء في مقدمة "ما يكل هافلتون مورجان" في كتابه "تاريخ ضائع.. التراث الخالد لعلماء المسلمين ومفكريه وفنانيه"( وهو يقول ص 130- طبعة نهضة مصر- القاهرة 2008م): "الضياع هو إحدى السمات المميِّزة للتجربة الإنسانية؛ فما من شيءٍ داخل هذا العالم المادي يدوم ويبقى".

هذه نظرة فيها شيء من آثار الروح الغربية ولا شك، ولكننا نؤثر الروح العربية التي اغتذت بالإسلام، والتي يلخصها الشاعر العربي بقوله (للحطيئة في ديوانه بشرح ابن السكيت تحقيق د/ نعمان طه الخانجي 1407هـ)

مَن يفعل الخير لا يعدم جوازيَـهُ          لا يذهب العرفُ بين اللهِ والناس

 والعرف في البيت بمعنى المعروف، وهذه النظرة عربية قديمة زادها الإسلام رسوخًا وثباتًا على مرِّ الأيام، يقول النابغة الذبياني ديوانه ق 2/32 ص31، من البسيط- تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم دار المعارف 1990م:

أبى الله إلا عدلَه ووفاءه          فلا النكرُ معروفٌ ولا العُرْفُ ضائعٌ

من كل ذلك فنحن نرى في هذه الذكريات نوعًا من المعروف الذي لا يضيع؛ لأن فوائده ومنافعه لتحقيق الخيرية لا تُحصى

علامات في بداية الطريق

يفتتح جابر قميحة ذكرياته ببيان علاقته بالمنزلة بأقصى شمال دلتا نيل مصر باعتبارها مسقط رأسه وأول أرض مس جلدُه ترابَها ليقفز بنا مباشرةً إلى مرحلة التحاقه بالتعليم في حدود العاشرة من عمره بالمدرسة الابتدائية، وهي مسبوقة بأمرين مهمين جدًّا؛ هما:

1- مرحلة الكُتَّاب؛ حيث المصنع الحقيقي الذي كان يبدأ فيه المسلم حفظ القرآن الكريم.

2- المرحلة الإلزامية (الأولية)؛ حيث يتعلَّم فيها الطفل مبادئ القراءة والكتابة.

وهاتان المرحلتان سابقتان على المرحلة الابتدائية التي كانت مدة الدراسة فيها أربع سنوات، ثم تليها المرحلة الثانوية لمدة خمس سنوات؛ أربع منها للثقافة العامة، وسنة خامسة للتخصص الأدبي/ العلمي.

ويذكر جابر قميحة أسماء عدد من أساتذته من الإخوان الذين كان لهم فضل، وهم عباس عاشور (للغة العربية)، وإبراهيم العزبي (للإنجليزية) والمهدي قورة (للتربية الفنية)، وهو يذكر في هذا السياق أن الذي جذبه إلى دعوة الإخوان كان الأستاذ إبراهيم العزبي.

ومن الأمور العجيبة أن تتداعى الأحداث على جابر قميحة ليقف بنا أمام قضية الإسلام المعاصرة الماثلة في نكبة فلسطين؛ إذ تتداعى الذكريات على ذهنه مع "عبد الرحمن جبر" (رئيس منطقة الإخوان في المنزلة) في ذلك الزمان البعيد قبل نحو ستين عامًا و"عبد السميع قنديل" أحد شهداء الإخوان في حرب فلسطين.. كل ذلك وجابر ابن ثلاث عشرة سنة.

وبعد هذا الاستطراد التقصير يعود فيعرِّف بالمنزلة، وأنها سُمِّيت بذلك لأنها كانت منزل عمرو بن العاص عندما وصلت إليه رسالة القعقاع بن عمرو التميمي؛ يخبره فيها بأن نزل مصر وفتح أحد حصون الروم، فردَّ عليه عمرو قائلاً: بارك الله في منزلتك يا قعقاع، فسميت بذلك ونُسي اسمها القديم "تنيس" التي معناه "صناعة الحرير" لاشتهارها القديم بذلك، وقد اختصر جابر قميحة تاريخًا ماجدًا لهذه المدينة في صد العدوان عبر التاريخ.

دعوة الإخوان في المنزلة

يدخل جابر قميحة إلى هذه النقطة مقررًا أن ثمة لذةً لا توصف ترتبط بتاريخ تعرفه إلى دعوة الإخوان؛ إذ يعود بنا بعيدًا إلى مرحلة الدراسة الابتدائية إلى نحو ما يزيد عن ستين عامًا؛ يوم زار مدينتهم مؤسس جماعة الإخوان، يقول جابر قميحة ص 22 تحت عنوان (أنا رأيتهم.. عايشتهم): "كان ذلك في شارع البحر المردوم أوسع شوارع المنزلة وأطولها؛ فبعد صلاة الظهر في يوم شديد الحرارة رأيت مسيرة من خمسمائة رجل على الأقل ما بين شاب في العشرين وشيخ جاوز الخمسين؛ أزياؤهم واحدة، لونها كاكي.. عرفت بعد ذلك أن هذا الزى يسمى زي الجوالة، وأن هؤلاء جميعًا من شباب وكهول وشيوخ اسمهم جوالة الإخوان المسلمين". 

والحق قاضٍ هنا أن نقرر أن حظ هذه الذكريات من الصدق وافر جدًّا، ولعل في إيراد عدد كبير من الصور للدكتور جابر قميحة في آخر هذا الكتاب من ص 145- 162 دليلاً حاسمًا على هذا التاريخ الباقي، وقد كانت هذه المسيرة استعدادًا لاستقبال "حسن البنا" الذي كان على موعدٍ مع أهل البلدة ليلاً.

ويواصل قميحة بيان أثر هذا اللقاء الفريد في نفسيته، ويعزو تأثره إلى ما سمَّاه "البلاغة الإيمانية لحسن البنا"، وهو مصطلح جديد يصكُّه قميحة ويعرِّفه بقوله- ص 28: "والبلاغة الإيمانية صفة نفسية روحية؛ تعني القدرة الفائقة للمتكلم على التأثير في المستمعين وتوجيه هذا التأثير الوجهة التي يحرص عليها المتكلم، كأن بينه وبين السامعين وصلات لا سلكية غير مرئية".

ويستمر قميحة في التدليل على هذا الأثر الإيجابي الضخم للقاء المرشد في نفسيته بقصيدةٍ قديمةٍ نظمها سنة 1951م سبق أن حللتها ونشرتها هنا على الموقع بعنوان "نور من المحراب"؛ يقول فيها جابر قميحة مصورًا هذا اللقاء القديم:

"رأيته..

أمامه من القلوب ألف ألف تسمع

رأيته كأنما يلحن الضياء والشفق

ويرسل النشيد من نياط قلبه الكبير

ترتيلة من الذهب

قل يا إمام قل".

وكان مما استقر من رسائل الدعوة الفردية التي جذبت نفس جابر قديمًا إلى الإخوان ما يلي:

1- رؤية الأستاذ الإمام.

2- إجادة أساتذة الإخوان الذين درسوا له- وعلى رأسهم إبراهيم العزبي- لتخصصاتهم.

3- حسن المعاملة من الأساتذة الإخوان لتلاميذهم.

4- استثمار اللعب والرياضة في جذب نفوس الطلاب.

5- استثمار المكتبة في حفر التلاميذ الصغار.

وممن ذكرهم من أصحاب التأثير فيه في هذه البدايات الأساتذة "رأفت الخريبي، وشمس الدين المحلاوي، وطه الغوابي، وعبد الحميد زهرة".

ويقرر الدكتور جابر أن سنوات المرحلة الابتدائية كانت فترة الجذب والتحبيب والتأسيس والإعداد، وهو ما يفسِّر انطلاقه فيما بعد في مجالات الدعوة والحياة علمًا بارزًا وعالمًا كبيرًا وأدبيًّا رساليًّا من طراز فريد ومجاهدًا بسنان قلمه ومجالدًا بلسان الحق.

جهود دعوة الإخوان في المنزلة.. امتداد طبيعي لخدمة الأمة

يرصد الدكتور جابر قميحة عناية الإخوان المسلمين بإصلاح الأنفس والمجتمعات من خلال تجربته الشخصية في مدينته ومسقط رأسه.

حيث يقرر في رصده لعلامات جهد الإخوان في المنزلة خصائص هذه الدعوة والمجالات التي اقتحمتها خدمةً للمسلمين وتوجيهًا مما يلي:

أولاً: قيام إخوان المنزلة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثانيًا: التصدي لحركة التنصير: وهو ما أشاد به سلفًا حسن البنا في مذكرات الدعوة والداعية، ذاكرًا المنزلة تعيينًا.

وقد تمثَّلت الخطوات التي اتبعت لمحاصرة دعوات التنصير فيما يلي:

1- فرض الرقابة الشديدة على المدارس والمعاهد التي يمارَس فيها الدعوة إلى التنصير

2- سحب رخص المستشفيات التي يُعمل فيها بالتنصير.

3- إبعاد من يثبت للحكومة أنه يعمل بالتنصير في صفوف المسلمين.

4- الامتناع عن إعانة الجمعيات التنصيرية بالأرض والمال.

5- الاتصال بحضرات السفراء والوزراء المفوضين في مصر وخارجها بمساعدة الحكومة في تنفيذ خطة حازمة تحفظ الأمن وترعى العلاقات الحسنة.

ثالثًا: محاربة الشذوذ الجنسي والأخلاقي.

رابعًا: محاربة البدع والمنكرات المرتبطة بالموالد

خامسًا: المساعدة في محاربة الآفات الاجتماعية ومقاومة الأمراض عن طريق التوعية وإنشاء مراكز طبية

سادسًا: العناية بتربية النشء عن طريق المباريات الرياضية والرحلات والمعسكرات

ويرصد الدكتور جابر قميحة الأثر الرائع الذي أحدثه الإخوان بمحاصرة الآثار البغيضة للعصبية الإقليمية التي كانت سائدة قديمًا بين عائلات المنزلة.

مع الجهاد

وإذا كان الجهاد بأنواعه المختلفة وسيلةً مهمةً للحركات الإسلامية ضد العدوان الخارجي والفساد الداخلي، فإن الدكتور جابر قميحة يُطلعنا على صفحاتٍ نورانيةٍ لجهاد إخوان المنزلة ضد اليهود وضد الاستعمار الإنجليزي في مصر وبلدان الإسلام المختلفة.

ويذكر ما كان لشعبة المطرية (دقهلية) من جهادٍ ضد الإنجليز في القناة، وممن ذكرهم من إخوان هذه المنطقة "علي صديق، ويوسف علي يوسف، وفؤاد هويدي، والحاج عبده البسيوني".

شخصيات لا تنسى

ويذكر الدكتور جابر قميحة عددًا من إخوان الدقهلية ليُثبت قدرة هذه الجماعة على تجديد دمائها وترسُّخها في تربة الوطن المصري على امتداده كما يلي:

1- صلاح الشربيني.

2- محمود إبراهيم الجميعي.

3- عبد الحميد الزهرة.

4- عزب القوشي.

5- عبده حيدر.

6- أحمد الغندور.

7- الحاج أحمد الليثي.

8- الرفاعي شبارة.

9- الشيخ سيد الضويني.

10- أحمد سليمان زين الدين.

11- مختار البنان.

12- وجيه الزرقاني.

13- محمد عبد العزيز سعيد.

14- الشيخ عبد الرحمن القداح.

وغيرهم كثيرون، وقد تنوعت مواهب هؤلاء وتوزَّعت على طبقات المجتمع المصري كله ليدلِّل بذلك على ارتباط جماعة الإخوان بالنسيج المصري كاملاً.

بهذا الكتاب الذي نرجو أن يكون فاتحةً لأدبيات أخرى لرجال الإخوان وأعلامهم في المناطق المختلفة؛ يذكرون فيها ذكرياتهم لتكون منارةً للأجيال الجديدة؛ تسترشد بها وتستبقي ثوابتها

خالص التحية إلى الدكتور جابر الذي قدَّم لنا بهذه السطور خدمةً جليلةً تقف شاهدةً على تاريخٍ نبيلٍ من إرادة الإصلاح لمصر، وعلى تاريخٍ ممتدٍّ للوسائل النبيلة التي تسعى إلى تحقيق غايات نبيلة من إشاعة التسامح والتفوق والأخلاق الراقية.

* كلية الآداب- جامعة المنوفية.