شعرية الحرب وعنف المتخيل

الكاتب المغربي عبد الحق ميفراني

يتناول "شعرية الحرب وعنف المتخيل"

في أعمال الكاتب العراقي جاسم الرصيف الروائية

الرباط ـ عن مطبعة وليلي للطباعة والنشر صدر للشاعر والناقد المغربي عبدالحق ميفراني كتاب نقدي بعنوان "شعرية الحرب وعنف المتخيل"، وهو قراءة في أعمال جاسم الرصيف الروائية.

 ويعد هذا الكتاب الإصدار الثالث في بيبلوغرافيا الكاتب بعد ديوانيه "كولاج الشاعر" 2001، وديوان "صمت الحواس" 2008 الصادرين عن منشورات اتحاد كتاب المغرب.

 يقع الكتاب في 86 صفحة من القطع المتوسط، وتزين غلافه لوحة للفنان التشكيلي المغربي صلاح بن جكان. ويحتوي على ثلاثة فصول أساسية: شعرية الحرب، عنف المتخيل، وخاصيات الخطاب الروائي، إضافة إلى تقديم وتصدير نظري وخاتمة مرفقة بملحقات.

 يقدم الناقد عبدالحق ميفراني تصديرا نظريا لكتابه، فيقول:

 "خط أحمر" 1987، و"حجابات الجحيم" 1990، و"أبجدية الموت حبا"1991، و"تراتيل الوأد" 1992، و"ثلاثاء الأحزان السعيدة" 2001، رحلة روائية ممتدة، يخط خلالها الروائي جاسم الرصيف حروبا ومعارك وشخوصا وأحداثا تاريخية بعينها لكنها روايات تنبني على متخيل بما تنتجه لنا هنا كنصوص. وبما أن النص "نظام من الترابطات المتعددة والمتنوعة التي تؤلف بنية من الشبكات حيث يأتي المعنى الأدبي متعدد التحديد"، فإن الصوت السارد يتأبط النص ليحوله لمجال قصد إبلاغ صوته المفرد خارج أعراف الواقع وأنظمة مقتضياته الاجتماعية.

 وللنص الروائي طبيعة خاصة بحكم نوعيته إذ تتخذ صيغته الشمولية المتعددة الأشكال والطرائق سبل المغامرة لتتحول لصيغة مفتوحة على التأويل والمقاربة، وما اتخاذ الرواية لرحلة الاكتشاف اللانهائية إلا دليلا إضافيا لهذا الغور الذي تسلكه داخل الذات والعالم.

 ومنذ لحظة الانتصار المجازي في القرن 19، أكدت الرواية أنها النوع الذي لا نوع له، إنها شكل مفتوح يتسع لكل شيء ولكل أنواع الخطاب، وعندما نشير هنا لمقولة النص فإن هذا الأمر يقودنا إلى موضوع ابستيمولوجي آخر هو فعل القراءة، إذ لا يوجد معنى حقيقي للنص.

 وعند قراءتنا للمتن الروائي لجاسم الرصيف، نكتشف هذه اللانهائية من الخصائص التي تميز النص الروائي، مما يستدعي فعلا متعددا ومركبا للقراءة والتأويل، وهنا نكون إزاء مفهوم أولي لعتبات القراءة المقترحة كاقتراح نقدي، فخصوبة النص الروائي عند الروائي العراقي جاسم الرصيف تولد مرجعا تخييليا لا واقع افتراضيا لبنيته السردية، بل إننا أمام وقائع متعددة رابطها الانكسار والخيبة ومرآتها بنى سردية توليدية، مما يعمد بالنص الروائي أن يصير عالما منفتحا على تعدد المعنى، وتماسك الرؤية المؤطرة لفعل الحكي تنذغم كليا كي تكون الرواية هي ذاك الأفق المفتوح على المغامرة.

 وارتباط المتن المقدم هنا بنماذجه المذكورة ببنية مفتوحة يؤسس لشعرية تمتح من تيمة الحرب كعنصر مهيمن دال دون إغفال منطق التناظر الملحوظ والذي يغني إنتاجية بنى النص الروائي وانفتاحيته. إن نصوص الروائي جاسم الرصيف تحمل صفتها الأدبية وتعلنها منذ البداية من خلال اعتماد شكل أدبي هو هنا النص الروائي.

 والقول بشعرية الحرب في أعمال جاسم الرصيف الروائية، إجراء يمكننا من تلمس الخصائص النوعية وتحديد القوانين والسمات العامة لنصوص قصد ضبط كيفية تشخيص تيمة الحرب داخل المتن المحدد في الدراسة.

 وتمثل نصوص جاسم الرصيف الروائية نموذجا متفردا في اتخاذها الحرب "كمرجع مركب تحفيزي كفيل بضبط استراتيجية الكتابة الروائية عموما" وكونها استراتيجية منفتحة فقد حولت المتن الحكائي بما هو "مجموعة أحداث متصلة، فيما بينها إلى فعل مركزي يتضمن مقولاته الخاصة"، وحين يتم الحديث عن استراتيجية شعرية الحرب في أعمال جاسم الرصيف الروائية، فإننا نكون قد اتجهنا في عودتنا إلى إسهامات النظريات والمناهج الحديثة، ومختلف التشكيلات التحليلية والنظرية من منظور اتفاق جدلي بين فعل القراءة والنص، النص كأفق لا نهائي مفتوح، وفعل القراءة بتوظيف لمناهجه النقدية دون التنازل على قواعده وسننه.

 نص "خط أحمر" يتناول مأساة مدينة البصرة (جنوب العراق)، "حجابات الجحيم" يتخذ كذريعة معركة بنجوين (شمال العراق)، أما نص "أبجدية الموت حبا" فتفاصيلها ترتبط بالحرب العراقية الإيرانية، وهي عن تحرير مدينة الفاو (جنوب البصرة)، في نص "تراتيل الوأد" أجواء حرب الخليج الثانية، وهو نص يحفر في مأساة الحرب والحصار، "ثلاثاء الأحزان السعيدة" نص العبور إلى المنفى.

 يوفر هذا المتن الروائي لجاسم الرصيف قوانينه الخاصة والتي تقدم الحدث بالشكل الذي يتحول معه المحكي إلى مقولات مرآوية لعالم خاضع لمنطقه الخاص. وحين يكون الجرذ المقدم هنا كمتن مسح كلي لتاريخ العراق الحديث بما هو بؤرة لعالم جاسم الرصيف الروائي المحكوم بالامتداد، ما دام النص ينتمي إلى سياقات ثقافية وإيديولوجية أنتجته دون إغفال لطبيعته الأدبية، إذ تظل سلطة النص قائمة في كل الأحوال وهو ما جعل نروتوب فراي يؤكد يوما ما على أن النص الأدبي "لا يدخل في علاقة مرجعية مع "العالم" فهو ليس تمثيلا لشيء آخر غير ذاته."

 لهذا يخلق النص من داخل منظومته هو لا من الواقع، وبما أننا حددنا سلفا علاقة الاستقراء اللازمة بين فعل القراءة والمتن المقدم هنا كنصوص روائية من خلال تحديد الاستشكال في شعرية الحرب بما يسهم من تلمس للقوانين الداخلية العامة لهذه النصوص في مدى حضور عنصر الحرب كرابط مرجعي مهيمن دون الإقرار بثبات النص، إذ أن حركته قائمة في متخيله الذي ينتج دلالاته وفق هذا النسق المفتوح.

 وما دامت القراءة "مسار في فضاء النص" فإن هذه النصوص لا تقدم معنى مفرد في ذاته بقدر انفتاحها على مسارات متعددة، لكن ما يهمنا نحن هو تلمس ومعرفة تلك القوانين العامة وتمظهراتها النوعية كوقائع تخييلية من داخل هذه الجدلية الحوارية بين فعل القراءة وهذه النصوص الروائية والمحددة هنا في خمس روايات (مع ملحق برواية سادسة هي "مزاغل الخوف") حتى لا نعيد إنتاج خطاب أوليا هو هنا نموذج للاستقراء.

 إن رغبتنا في الانتقال من التفكير في الخطاب النقدي إلى مستوى الاشتغال النصي من خلال المنجز المقدم هنا كنماذج للتحليل، يدفعنا لاستدعاء أدوات التحليل لتفعيل المكونات التخييلية للنص الروائي، وهو ما نسعى أن يتحقق في مستوى أولي كمداخل لعبور بوابات عوالم جاسم الرصيف الروائية."