حداثة النص الشعري
حداثة النص الشعري
في المملكة العربية السعودية
د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي
كتاب "حداثة النص الشعري في المملكة العربية السعودية: قراءة نقدية في تحولات المشهد الإبداعي": يمثّل آخر الكتب النقدية للدكتور عبدالله الفَيْفي.
صدر محكّمًا عن ( النادي الأدبي بالرياض، 2005).
حصل على جائزة النادي المحكّمة، للعام 2005، في الدراسات حول الشعر السعودي.
كما فاز بتحكيم علميّ آخر من قِبَل المجلس العلميّ- جامعة الملك سعود، وفق القرار ذي الرقم 2803000050 بتأريخ 2/ 1/ 1428هـ.
جاء في إهداء الكتاب:
" لقد حَسُن هذا المولّدُ حتى هَمَمْتُ أن آمُرَ صبياننا بروايته ! "
أبو عمرو ابن العلاء
أمّا أنا فأقول:
" لقد حَسُن هذا المولّدُ، لكني لا أملك أن آمُرَ صبياننا بروايته ! "
إلى أجيالٍ من الشعراء.. سيقرؤهم آتون.. فيَعْجَبُون: أين كانوا وكنّا.. ؟!
وجاء في مستهل الكتاب:
منذ ثمانينيات القرن العشرين، ومنذ الانطلاقة الفعليّة للنص الشعريّ الحديث في المملكة العربية السعودية، نَشِبَ صراعٌ إيديولوجيّ فكريّ مرير، بين أشياع القديم وأنصار الجديد، بما تسلّح به كل فريق من مرجعيّات، تستهدف إقصاء الآخر، ومصادرة حقّه في الاختلاف.. وتحوّلت الساحة إلى معمعة، كادت تحرق الأخضر واليابس، والقصة يعرفها الجميع.
هكذا.. تمخّضت جناية الأيديولوجيا على الشعر! وهكذا أقلع نفرٌ من الشعراء عن الشعر، واتّجه نفرٌ إلى المستوى العاميّ منه، وتوارى عن الأنظار آخرون.. وقيل بـ"موت الشِّعْر"، ثم قيل بـ"موت النقد"، وانصرف كُلٌّ إلى طريقٍ يفتّش عن حياته، مُؤْثِرًا السلامة من ألسنة نيران أشعلتْها القصيدةُ الحديثةُ في الثياب والعباءات. في هذه الأجواء المحمومة، ولأسباب محلّيّة وأخرى عالميّة، بات الشعر في مهبّ الدعاوى والمزايدات، وصارت وصمة "الحداثة" كتهمة "الزندقة" قديمًا، كلمةً هلامية الدلالة، ومطيّةً سهلة العنان، يكفي أن تُطلق ليتحسّس كُلٌّ سلاحه، دفاعًا أو هجومًا. واختلطت القِيَم، وتَبَلْبَلَت المفاهيم، واضطربت المعايير العلميّة، وفَرَغَ مَنْ ظَلّ من النقّاد على قارعة المنهج يتّخذ النصّ صهوةً للتبشير أو التنفير، أو ينتقي منه ما يستجيب لغاياته في تلك المفاصلة بين الحداثة والقدامة، لا بوصفهما تجربتين أدبيتين، ولكن من حيث هما تياران فكريّان، لا يجتمعان في غمدٍ واحد. وفي تلك الأتون لم يَعُد المنجز الشعريّ الحقيقيّ شيئًا مذكورًا فيما تبقّى من حركة النقد الشعرية، اللهم إن استجاب نَصُّه لمآرب الناقد الأخرى، غير الشعرية في كثير من الأحوال. وجَأَرَ الشعراء بالشكوى من الإهمال، إذْ تنصّل النُّقّاد عن درس الشعريّة، وعَفُّوا عن أن يقوموا سماسرةً في سوق الشعر بين المبدع والمتلقي، وإن كانوا- من جهة أخرى- قد اتجهوا إلى استنباط مستكنّات القلوب، والأفكار، والمضامين في النصوص. فأَلْفَوْا في فنون السَّرْد ضالّتهم المُثلى لمجاولة تلك القضايا التي تمسّ المرحلة، مجتمعًا وثقافة، حتى قيل.. فقالوا: بوراثة الرواية الشعرَ، في تركةِ ما كان يُسمَّى: "ديوان العرب". وبذا تحوّل العربُ في بضع سنين من ديوانٍ إلى ديوان! وتَبَعًا لذلك تطوّر ما ذُعِر له التيار المحافظ من تغيير ديوان العرب- بوصفه رمز هويّة الأمة وأصالتها وتراثها- إلى تغييب ذلك الديوان، أو استبداله. لكن الشعر استمر يتقدّم على استحياء، وتطوّر وإن ابتعد بعض الشيء عن الأضواء. فلقد زاد طينته بلّة، أن استغل الشعر العاميّ فرصة ذلك الفراغ في الإنتاج، وتوالي تلك النكبات على القصيدة الفصيحة، ليقفز إلى صدارة الميدان والمنتديات، ويستولي على الصوت الشعريّ، الرسميّ والشعبيّ، ضاربًا عرض الحائط بالنقاد، وصراعِهم الطائفيّ، مع ديوانهم القديم والجديد! إنّ في ذلك كله لمسوّغًا، رآه الباحث كافيًا، لمشروعيّة عمله في هذا البحث. ولقد تركّز النظر على "حداثة النص"، لا حداثة الشخص، ولا الفكر، ولا المعتقد، إيمانًا بما آمن به مَنْ قَبْلَنا، بأن ما يَهُمُّ النقدَ الأدبيَّ من امرئ القيس (مثلاً) أنه: (شاعر)، لا ما إذا كان يا تُرَى: وثنيًّا.. أو مُسلمًا.. أو حتى "حامل لواء الشعراء إلى النار"؟
وعليه، لم يكن معيار الشعر المدروس هاهنا إلا المعيار الفنّي وحده، لا انتقاء ولا استقصاء. حيث لم تكن الانتقائيّة- خارج الجودة الفنيّة- واردة، كما لم يكن الاستقصاء للشعر والشعراء غاية، ولا أمرًا ممكنًا. فالشعراء والشاعرات كُثر، ودرجاتهم الفنّيّة مختلفة، لكنّ قطرة الماء تكفي لتحليل المحيط، واستخراج عناصره وخصائصة الرئيسة، وتلك كانت الغاية الأولى. ومن ثَمَّ، فليس الشعراء المدروس شعرهم في هذا البحث بأفضل- في نظر الباحث- من غيرهم بالضرورة، لكنهم عيّنة من الشعراء، اتُّخذوا وسيلةَ كشفٍ عن مشهدٍ عامٍّ من التحوّلات الفنيّة، كي يكونوا شواهد على تجربة شعريّة عاشت في حقبة زمنية محدّدة.. ليس إلا.
بناء على هذه المرتكزات، تتجه القراءة إلى مقاربة نماذج من الشعر الحداثيّ المنشور، خلال العِقْدَين الأخيرين من القرن الماضي وبداية القرن الراهن. على أن صفة "الحداثة" التي تدور عليها هذه القراءة- بما تعنيه من التجديد في النصّ الشعريّ- يُنظر إليها من حيث هي مسألة نسبيّة؛ لأن بين قيمتي الحداثة والقدامة تداخلاً حتميًّا.
وإنْ كان لا بدّ من وقفة مع مصطلح "حداثة" هاهنا- هذا الذي حارت البرية فيه، حتى قيل بـ"حداثات" Modernisms لا حداثة، كما قيل بـ"ما بعد حداثات" Postmodernisms لا ما بعد حداثة واحدة– فإن الحداثة المعنيّة هنا لا تقابل التراث، كما لا تقابل ما بعد الحداثة، على غرار تلك الثنائيات الضدّيّة، التي لا تشكّل أكثر من معوّقات معرفيّة وفكريّة، دون أن يكون لها أساس في الممارسة الفنّيّة، رغم ما تستفزّه من زوابع الثقافة، وتستنزفه من بحار الأحبار، هنا وهناك. فلقد أخذتْ الحداثةُ الغربية نفسها تنحسر- بحسب بعض النقاد- منذ ثلاثينيات القرن الماضي أو أربعينياته، لتَخلفها حركة "ما بعد الحداثة". بل إن مصطلح "ما بعد الحداثة" نفسه مصطلح قديم، يعود إلى القرن التاسع عشر، إذ أطلقه المؤرخ توينبي بصيغةPostmodern على المرحلة التاريخية بعد 1875. ولذا- وبعيدًا عن ذلك الجدل الفكريّ السفسطائي، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، غربًا وشرقًا- يمكن القول إن مفهوم "الحداثيّ" يشير في هذه الأطروحة تحديدًا إلى:
"أن يَكُوْنَ الشاعرُ نفسَهُ". أي: أن يُجسّد في عملِه شخصيته وثقافته، مكانًا وزمانًا. حُرًّا، غير مرتهَن للماضي ولا للآخر. وأن يسعى إلى أن يطوّر التجربة الشعريّة، بوصفها تجربة إنسانيّة، ذات وظيفة بنائيّة مستمرّة.
تلك هي الحداثة. فإذا سُلِّم بمفهومها هذا، ظلّت حداثة تواصلية، لا توصيليّة؛ لأن تسخير الشعر لـ"توصيل الأغراض"، من الأفكار، والقِيَم، والرسائل المباشرة، هو ضدّ طبيعة الشعريّة أساسًا، ناهيك عن الحداثيّة. والنثر كفيل بتلبية تلك الوظيفة. ثم إن الحداثة من هذا المنظور حركة امتداديّة، تراكميّة- في تعاملها مع منجز الماضي، وخبراته القومية أو الإنسانية- غير منقطعة بالمطلق، ولا ضِدّيّة. ومن هناك سيأتي في هدف الأطروحة هذه أن تَسْبُرَ مدى انقطاع الحداثة- إنْ وُجِدَ- عن أصالتها أو اتصالها بها، عبر معادلة فنّيّة- مفترضة- تجسّر المسافة بين هذين البُعدين.
وانطلاقاً من ذلك تمضي القراءة في نصوص شعريّة، تتفاوت تجديدًا وتقليدًا، كما تتفاوت أصالة ومعاصرة- وإن اتّسمتْ جميعها بطابعٍ حداثيّ- تفاوتاً تبدّى في جوانب مختلفة من مكوِّنات النصّ، مثل:
1) (شعريّة العنونة)، بتدرّجها من طابع العنوان الاسميّ إلى العنوان النصيّ.
2) تحوّلات (البنية اللغويّة الشعريّة).
3) (هندسة الأشكال الفنّيّة)، بما في ذلك: أسلوب التصوير الفنّيّ، المنتقل من الصورة البلاغيّة (الجزئيّة) إلى الصورة المشهديّة، ثم توظيف المكان الشعريّ، والتناصّ، وتوظيف التراث.
4) (هندسة الأشكال الإيقاعيّة).
والدراسة تُفرد كل جانب من تلك الجوانب بتحليل خاص.
أمّا مادة هذه الدراسة، فبما أنها تتركّز- زمنيًّا- على نماذج من الشعر المنشور- إنْ في مجموعات شعريّة أو في الصحافة المحليّة- خلال الثمانينيّات والتسعينيّات، وصولاً إلى سنة 2004م، فقد جاء من دوافع المحاولة القرائيّة فيها السعي إلى إبراز ملامح عن خصائص المشهد الشعريّ الحديث في السعوديّة في نهايات القرن العشرين، وبدايات القرن الحادي والعشرين، استشرافاً لما يمكن أن يشهده الشعر خلال قرنه الراهن.
ولقد مرّ هذا المشروع بين يدي الباحث بمراحل، قاربت العشر سنوات. ومرّت أجزاؤه بمحطّات من الطرح، والفحص، والمناقشة، والتطوير. فأجزاء منه نوقشت في بعض وسائل الإعلام المحليّة، إذاعية أو صحفية، وقسمٌ مرّ بتحكيم علمي، وشارك به الباحث في مؤتمر جامعة جرش السادس للنقد الأدبي ، بالمملكة الأردنية الهاشمية، سنة 2003، تحت شعار: "الخطاب الشعري العربي المعاصر والحداثة". وقسم آخر كان ضمن الأعمال المقدّمة في ملتقى قراءة النصّ الرابع بالنادي الأدبي الثقافي بجُدَّة، سنة 2004، تحت شعار: "مسيرة الشعر في المملكة العربيّة السعوديّة".
حتى إذا اكتمل الموضوع كتابًا، وتوافر على درس الظواهر الفنيّة في بنى النصّ الشعريّ الرئيسة، رُشّح إلى جائزة النادي الأدبي بالرياض؛ لمصادفة الفراغ منه في صورته النهائية إبان الإعلان عن جائزة النادي للدراسات التي تناولت الشعر السعودي. ولعل في فوزه بجائزة النادي المحكّمة مؤشّرًا لا يخفى على تحوّلٍ ناضج في حركة الوعي الأدبي والنقدي، تُتجاوز فيه هواجس الريبة العتيقة من هذا الشعر ونقده.
ويزداد اعتزاز الدارس بهذه الشهادة العلمية من قِبَل النادي الأدبي في الرياض، بمصاحبة عمل آخر قَيِّم، للزميلة الدكتورة فاطمة الوهيبي، نال التقدير ذاته.
فشكرًا للنادي الأدبي بالرياض، وعلى رأسه سعادة الأستاذ الدكتور محمّد بن عبد الرحمن الربيّع، رئيس النادي، على منح هذا العمل جائزة النادي، ثم تولّي طباعته على نفقته. كما أشكر لجنة التحكيم الموقّرة، على تقديرها جهد المقلّ هذا. وتلك لفتةٌ ستبقى حافزًا على المضيّ في هذا الطريق.
وبالله التوفيق