على هامش كتاب صائب عريقات

المفاوضات والحياة

د. سامي مسلم

"الحياة مفاوضات" ( 1) هو العنوان، لا بل الشعار، الذي يريدنا د. صائب عريقات أن نحفظه عن ظهر قلب، لأنه دون مفاوضات لا يمكن للمرء أن يعيش ككائن بشري ويتواصل مع الآخر، مهما يكن ذلك الآخر.

ففي نهاية المطاف فإن المفاوضات هي عملية اختيارية وإرادية لا يمكن لأحد فرضها على الآخر إذا كان هذا الآخر لا يريد أن يكون له أو لها تواصل مع البشر.

لا شك في أن هذا الكتاب سيكون من أهم الكتب العلمية والبحثية والأكاديمية التي صدرت في فلسطين في الحقبة الأخيرة، ليس لأن د. صائب عريقات كاتبه فحسب، وإنما أيضاً بسبب الجهة التي أصدرته والتقييم الذي حصل عليه.

الجهة التي أصدرته هي عمادة البحث العلمي في جامعة النجاح الوطنية في نابلس، فلسطين. ولهذا قدم للكتاب الدكتور رامي الحمد الله، رئيس الجامعة. يقول د. رامي في تصديره لهذا الكتاب إنه طلب من د. صائب عريقات نشر هذا الكتاب لأنه (أي الكتاب) يمثل "صورة ناطقة لتجربة طويلة ومريرة تتصف بالحكمة والثبات والتصميم..." (ص3) ولأن الكتاب في نظر د. رامي الحمد الله "من أهم الكتب السياسية في وقتنا الحاضر". (ص3).

أما التقييم الذي حصل عليه هذا الكتاب، فإننا نعلم من التصدير أن هناك لجنة من المحكمين الدوليين قد قرأت هذا الكتاب، وأرسلت تقييمها له للجامعة، في ست نقاط. اعتبرت لجنة التحكيم أن الكتاب "أصيل" وأنه "يشكل جهداً مميزاً في مجال تخصص الكاتب"، واعتبرته "تجربة ريادية وعميقة". وذهبت خطوة أبعد من ذلك عندما قيمته بقولها إنه "يسد فراغاً في المكتبة الدبلوماسية". واعتقد أن لجنة التحكيم تشير بذلك إلى الفراغ في المكتبة الدبلوماسية العربية عامة والفلسطينية خاصة.

ثم أرجعت لجنة التحكيم تميزه إلى أمرين: الإفادة والتوازن. قالت في تقييمها إن الكتاب "مفيد لأنه يشكل تجربة واقعية للمؤلف الذي تميز بقدرة كبيرة على التوازن من الناحية النظرية والعملية ... ." وأنهت لجنة التحكيم تقييمها للكتاب بالمساهمة التي ترى أن الكتاب قدمها وهي "ويساهم إيجابياً في المجالات التعليمية والثقافية". كل هذه الأسباب في نظر اللجنة "تعكس مهنية المؤلف وقدرته الكبيرة". (ص3)

من الصعب جدا على أي كاتب أن يقيم هذا الكتاب بتقييم يذهب أبعد مما قيمه به د. رامي الحمد الله ولجنة التحكيم دون الوقوع في الإطراء المفرط، وهذا أمر بعيد عن العلمية أو المهنية أو كليهما معاً.

مع ذلك، أو بالرغم من ذلك، يجب إبراز "مهنية المؤلف وقدرته الكبيرة" حيث إنها تعتمد على قاعدة صلبة من المهنية الأكاديمية والعمل الميداني السياسي. فالدكتور صائب زاوج بين العمل الأكاديمي والعمل الميداني في المجالين التفاوضي والسياسي اليومي المتعب والمرهق للأعصاب أولا كمفاوض ثم كوزير في السلطة الوطنية الفلسطينية ثم كرئيس دائرة المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية. ولقد تخصص في المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي منذ بداية المفاوضات قبيل مؤتمر مدريد 1991 وحتى تاريخه. ومما لا شك فيه أن هذه المفاوضات ترهق الجسد والروح بسبب ما يرافقها من مرارة يومية في المفاوضات وإحباطات، ناهيك عن الاتهامات من كل حدب وصوب، اتهامات تقوم على الإشاعات التي سريعاً ما ترقى في المشهد الفلسطيني وعلى الساحة العربية، إلى مستوى الحقيقة، التي سريعاً ما تتحول أيضاً هي نفسها إلى حقيقة مطلقة. فتبدأ عملية المحاسبة المكشوفة بالاتهامات القائمة على ما سمع وليس على ما هو واقع. فتبدأ عملية الشك والتشكيك المريرة. ولهذا نرى د. صائب يعالج هذا الأمر في كتابه ويعتبر المفاوضات استمراراً للحرب بوسائل أخرى ويعتبرها أمراً نضالياً نبيلاً وجزءاً لا يتجزأ من النضال الذي استشهد على طريقه الشهداء ووقع الجرحى وسجن السجناء، ويعتبره أمراً تنموياً صالحاً لإقامة الحكم الصالح وتحقيق الحريات. يقول: "والمفاوضات ليست عيباً أو خيانة أو تنازلاً، أو ردة، أو تراجعاً أو ضعفاً، إنما هي على العكس تماماً، فهي استمرار للحرب بوسائل أخرى، وهي الطريق لاستثمار التضحيات والبطولات والصمود والوفاء لها، وترجمتها إلى حقائق على الأرض، تبنى من خلالها المؤسسات، وتحقق من خلالها الحريات، وترسى على قواعدها أسس الشفافية والمحاسبة والمراقبة والحكم الصالح". (ص41).

ولهذا السبب، ولأسباب أخرى لها علاقة بالمفاوضات نفسها يطالب المفاوض بالتحلي بسعة الصدر والحكمة والرصانة والصبر والتوازن.

ولهذا السبب يجادل د. صائب عريقات قائلاً إن الحياة مفاوضات.

وهذه مقولة قد لا يتفق معها الكثيرون لأن الحياة أوسع من المفاوضات، والمفاوضات هي عملية قد لا تأخذ من حياة الإنسان الوقت الكثير. لا أريد أن أدخل في الأبعاد الفلسفية حول ما هي الحياة، أو الأبعاد اللاهوتية والفقهية الدينية لأننا نكون بذلك حملنا الكاتب والكتاب أحمالاً لم يريداها. فهذا الكتاب لا يشكل نظرة فلسفية للكون أو للحياة ولا هو يدعي ذلك. وبالتالي يجب عدم اعتباره بحثاً فلسفياً. هذا الكتاب بكل بساطة، وسأستعمل التعبير الانجليزي لدلالته، هو "مانويل manual" المفاوضات، أعده كاتبه ليساعد المشارك في مفاوضات ما ان يسترشد بقواعد اللعبة من سلوكيات وتحضير واستعداد. انه دليل أو كشاف للمفاوضات يعود إليه المفاوض ليسترشد به. ولو أردنا تلخيص هذا الكتاب بثلاث كلمات فقط فقد نجمله بالكلمات التالية: مفاوضات  مصالح  وساطة. وهذه هي المواضيع التي يتناولها الكتاب، بشكل أو بآخر. ينقسم الكتاب إلى مقدمة، تشتمل على المقدمة ومدخل وتصدير وتعريف، وإلى ستة فصول وخاتمة. وقد ذكرنا سابقاً أن التصدير كان بقلم د. رامي الحمد الله، رئيس جامعة النجاح الوطنية.

أما المقدمة فكانت للدكتور صائب عريقات الذي لخص فيها نظرية المفاوضات والمنهجية التي يجب أن تتوجه بها للتعامل مع موضوع المفاوضات. وهو يؤكد في هذه المقدمة البعد النظري للمفاوضات والمنهجية لها ويذكر الأمثلة الميدانية، التي تساعد القارئ على متابعة النظرية.

فهو يعتبر هذا الكتاب، في واقع الأمر، "مقدمة في علم المفاوضات". (ص169). وفي هذه المقدمة يعد القارئ بكتاب آخر يجمع فيه تجربته كمفاوض في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية يعكف على كتابته ويأمل أن يصدر قريباً. أما متن هذا الكتاب فيشتمل على ستة فصول توجز عناوينها هذه النظرية. وكل فصل فيها فيه عدة أجزاء ما عدا الفصل الثالث وهو أقصرها. تبدأ الفصول هذه بالحياة كمفاوضات ثم يتبعه فصل في منهجية المفاوضات، لينتقل بعدها إلى الإعداد للمفاوضات، ثم إلى داخل قاعة المفاوضات، ثم يشرح المهارات التفاوضية وقواعد التدريب على المفاوضات أي على العناصر السبعة التي تتشكل منها منهجية المفاوضات ثم يختم الفصول بأمثلة وتطبيقات لينتقل في النهاية إلى الخاتمة ومصادر البحث.

ü ü ü ü ü

يقول د. صائب الحياة كلها مفاوضات، وهي حتمية ما دامت الصراعات بين البشر حتمية. لكن المفاوضات هي عملية اختيارية وإرادية تسعى إليها الأطراف المتفاوضة بملء إرادتها لأنها تريد التوصل إلى حل لقضية قائمة. والحل لا يفرض من الخارج ولا يمكن لأحد أن يفرض قبول أمر لا يريده طرف مفاوض. والمفاوضات تقوم على مبدأي الربح والخسارة. لكن المفاوضات الجيدة الناجحة هي التي لا تقوم على هذه المعادلة أي على معادلة ربح  خسارة، أو معادلة خسارة  خسارة، وإنما على معادلة ربح  ربح، لأن في تلك الحالة يمكن التوصل إلى حل مقبول للقضية أو المسألة على بساط البحث.

هل المفاوضات علم أم لا سؤال يوجهه الدكتور صائب عريقات في هذا الكتاب للقارئ، ولكنه يرد عليه بأن المفاوضات علم مثل باقي العلوم. وفي العلوم أو الدراسات الاجتماعية يصعب القبول بشكل مطلق بهذه النظرية لأن العلوم أو الدراسات الإنسانية هي علم وفن في الوقت نفسه، علم لأنها تعتمد أكثر وأكثر على قواعد البحث العلمي وهي فن لأنها تحتاج إلى مهارة مجتمعية لتطبيقها والتداول معها. وقد طرحت هذه الإشكالية في "علوم" اجتماعية كثيرة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، العلوم السياسية. وهناك العديد من الجامعات، ومنها الجامعة الأميركية في بيروت، التي اختارت منذ عقود أن لا تسمى "العلوم" السياسية بالعلوم وإنما أطلقت عليها "الدراسات السياسية".

من منطلق أنها علم، يغوص د. صائب عريقات عميقاً في هذا البحث في عملية التفاوض ومنهجها وأسسها وأشكالها ومراحلها، وطبيعتها وأنواعها وأهدافها والتحضيرات لها وأسس ذلك. لكننا لن ندخل في تفاصيل كل عملية من هذه العمليات المهمة والضرورية. يكفي القول إنه يرى أن المفاوضات يجب أن تكون مثل أحزمة أشعة الليزر: مركزة تعمل سوياً مع بعض لاختراق الجدران الصلبة لأنه لو تفتتت أشعة الليزر لما استطاعت أن تخترق الجدران الصلبة أبداً أو إن اخترقت فسيكون وقعها ضعيفاً. هكذا المفاوضات، يجب أن تظهر هذا التراكم الإيجابي المركز القائم على عوامل كثيرة مثل التبادلية والثقة بالنفس، والاستعداد الكامل أو الجاهزية الكاملة من جميع الجوانب للوفد المفاوض. والجاهزية الكاملة لا تعني فقط معرفة القدرات الذاتية، والخطط والبرامج والمصالح والمواقف الوطنية، والخيارات والبدائل للوفد المفاوض، وإنما أيضاً، وبالقدرة نفسها، وبالمقدار نفسه، على المفاوض أن يعلم ويعرف القدرات الذاتية للطرف المفاوض الآخر أو المقابل له، وخططه وبرامجه ومواقفه ومصالحه ومنهجه، وخياراته وبدائله ونقاط ضعفه وقوته. ويقدم د. صائب عريقات الأمثلة الحية من خبرته كمفاوض حول السلوك العام وقواعد المسلكيات التي يجب أن يظهرها المفاوض بصفته الجماعية كفريق وبصفته الفردية كعضو في الوفد المفاوض وأهمها عدم الابتذال وترخيص النفس بطلب خدمات خاصة، أو التشكيك والهزء برئيس الوفد أو أحد أعضائه أو إظهار الخلافات والمواقف المختلفة لأعضاء الوفد، أي أنه يركز على الانضباط وعلى تشكيلة الوفد، وأسلوب التحدث، والعلاقات الداخلية بين أعضاء الوفد من ناحية والعلاقات الخارجية بين أعضاء الوفد هذا وأعضاء الوفد في الجهة المقابلة أو الوفد الآخر من ناحية أخرى.

في المفاوضات، يقول الدكتور صائب عريقات، ليس المحتوى دائماً هو المهم، رغم أهميته، للوصول إلى حل. المهم في كثير من الأحيان هو الأسلوب. يقول: "ليس المهم ما تقول لكن المهم كيف تقول". ويعطي مثلاً على ذلك بقضية الخليفة عبد الملك بن مروان والعرافين (ص82).

ولهذا فان إدارة المفاوضات هي أمر هام، يكون لها نصيب كبير في نجاح المفاوضات أو في فشلها أو في عدم التوصل إلى أي اتفاق فيها. ومن أهم الأمور التي يوصي بها هي عدم توصيل الطرف الآخر إلى خيار وحيد لا خيار لهم به وهو إما أن تقبل هذا الحل أو لا حل والذي يعبر عنه بالتعبير الإنجليزي take it or leave it، ومن هنا يعطي أهمية كبيرة لإدارة الاجتماع والعلاقة بين المسؤول ومرؤوسيه ويعبر عنه بعنوان "العلاقة بين المسؤول عنك أو مديرك أو قائدك". ويجمل هذه العلاقة بالأمور التالية: السلوك والأخلاق، احترام الذات، المصداقية، الكفاءة، النبل، التسامح. ويضع قواعد للتدريب على المفاوضات تشتمل على سبعة عناصر هي المصالح، الخيارات، الشرعية، العلاقة، الاتصال، الالتزام، البدائل، ويسهب في شرح عناصر فرضية العمل أو الخيارات أو البدائل فيضع لها أربعة عناصر هي تحديد المشكلة، والقضية والطريقة والخطوط العريضة للتصرف.

يريد د. صائب عريقات من القارئ أن يدرك أن أي مفاوضات تقوم على المصالح وليس على المواقف. فهو يرى أن المفاوضات والاتفاقات هي انعكاسات للحاجات والمصالح. وبهذا فهو يذكرني بأصحاب مدرسة الواقعية السياسية التي تعتمد على سياسة القوة power politics والتي أرسى قواعدها بشكل أكاديمي الأميركي من أصل ألماني هانس يواخيم مورغنثاو، صاحب الكتاب الأشهر في العالم في هذا الموضوع بعنوان Politics Among Nations أي السياسة بين الأمم. برأيه أن السياسة بين الأمم، أي على مستوى العلاقات الدولية، تقوم على المصلحة، إن كانت مصلحة محلية أو إقليمية أو عالمية. فالمصلحة الوطنية هي المقياس للعلاقات بين الأمم. ولا شك أن هذه النظرية لاقت من النقد الكثير في الخمسينات والستينات من النصف الثاني من القرن العشرين، لدرجة أن الاستاذ غازي القصيبي، وصف ذلك العصر بظاهرة "مورغنثاو ومنتقديه."2 ومع الفارق الجوهري بين كون "الحياة مفاوضات" أو كون المفاوضات "انعكاساً" للحاجات والمصالح، وهو تقليل واضح من فكرة "الحياة مفاوضات"، فإن د. صائب عريقات يعود ليقرر أنه حيث وجدت المصالح وجدت الصراعات.