تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 66

تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 66

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[ تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " دَلائِلُ الْإِعْجازِ " لِعَبْدِ الْقاهِرِ الْجُرْجانيِّ ]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

مِنْ لَطيفِ مَواقِعِها ( مواقع إن ) أَنْ يُدَّعى عَلَى الْمُخاطَبِ ظَنٌّ لَمْ يَظُنَّه ، وَلكِنْ يُرادُ التَّهَكُّمُ بِه ، وَأَنْ يُقالَ : إِنَّ حالَكَ وَالَّذي صَنَعْتَ يَقْتَضي أَنْ تَكونَ قَدْ ظَنَنْتَ ذلِكَ . وَمِثالُ ذلِكَ قَوْلُ الْأَوَّلِ :

جاءَ شَقيقٌ عارِضًا رُمْحَه إِنَّ بَني قَوْمِكَ فيهِمْ رِماحْ

يَقولُ : إِنَّ مَجيئَه هكَذا مُدِلًّا بِنَفْسِه وَبِشَجاعَتِه ، قَدْ وَضَعَ رُمْحَه عَرْضًا - دَليلٌ عَلى إِعْجابٍ شَديدٍ ، وَعَلَى اعْتِقادٍ مِنْهُ أَنَّه لا يَقومُ لَه أَحَدٌ ، حَتّى كَأَنْ لَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنّا رُمْحٌ يَدْفَعُه بِه ، وَكَأَنّا كُلَّنا عُزْلٌ .

ذكرت بهذا صبيحة كلمتي عن بحثي لمؤتمر قسمنا الدولي الرابع ؛ فقد أنهى بعض إخواني كلمته المعروضة على الحاسوب العام ، ثم أغلقه ، فلما أنهيت كلمتي قلت : (...) ولقد تمنيت أن أعرض عليكم نماذج من ذلك ، ولكن أخي أغلق الجهاز و :

كَأَنِّيَ لَمْ أَحْمِلْ فِلاشًا وَلَمْ أَقُلْ لِبَحْثِيَ أَقْدِمْ بِالْحَواسِبِ عالِيا

فضج الحاضرون ضحكا ، وصفقوا ، فانتهزها رئيس الجلسة خاتمة مناسبة ، فأبيت عليه بحجة أن لم آخذ وقتي ولم أكمل كلمتي ، وأوشكت أن أؤصل غضبا قديما عليَّ استثاره أستاذٌ حاقد دافن ، يَدِبُّ لِيَ الضَّراءَ ، وَيَمْشِي الْخَمَرَ - فصرفني أستاذي رئيس الجلسة عن همّتي بِالسَّماحِ لي بالإكمال ، فلم أكد حتى اضطرني إلى الفراغ ، فبقيت نادما أن لم أرفض سماحه احتجاجا على ثورة غضبه القديم !

اعْلَمْ أَنَّكَ إِنْ عَمَدْتَ إِلَى الْفاعِلِ وَالْمَفْعولِ ، فَأَخَّرْتَهُما جَميعًا إِلى ما بَعْدَ " إِلّا " ؛ فَإِنَّ الِاخْتِصاصَ يَقَعُ حينَئِذٍ فِي الَّذي يَلي " إِلّا " منهما ؛ فَإِذا قُلْتَ : ما ضَرَبَ إِلّا عَمْرٌو زَيْدًا ، كانَ الِاخْتِصاصُ فِي الْفاعِلِ ، وَكانَ الْمَعْنى أَنَّكَ قُلْتَ : إِنَّ الضّارِبَ عَمْرٌو لا غَيْرُه . وَإِنْ قُلْتَ : ما ضَرَبَ إِلّا زَيْدًا عَمْرٌو ، كانَ الِاخْتِصاصُ فِي الْمَفْعولِ ، وَكانَ الْمَعْنى أَنَّكَ قُلْتَ : إِنَّ الْمَضْروبَ زَيْدٌ لا مَنْ سِواهُ . وَحُكْمُ الْمَفْعولَيْنِ حُكْمُ الْفاعِلِ وَالْمَفْعولِ فيما ذَكَرْتُ لَكَ ؛ تَقولُ : لَمْ يَكْسُ إِلّا زَيْدًا جُبَّةً ، فَيكونُ الْمَعْنى أَنَّه خَصَّ زَيْدًا مِنْ بَيْنِ النّاسِ بِكُسْوَةِ الْجُبَّةِ . فَإِنْ قُلْتَ : لَمْ يَكْسُ إِلّا جُبَّةً زَيْدًا ، كانَ الْمَعْنى أَنَّه خَصَّ الْجُبَّةَ مِنْ أَصْنافِ الْكُسْوَةِ . وَكَذلِكَ الْحُكْمُ حَيْثُ يَكونُ بَدَلَ أَحَدِ الْمَفْعولَيْنِ جارٌّ وَمَجْرورٌ ، كَقَوْلِ السَّيِّدِ الْحِمْيَريِّ :

لَوْ خُيِّرَ الْمِنْبَرُ فُرْسانَه مَا اخْتارَ إِلّا مِنْكُم فارِسا

الِاخْتِصاصُ في " مِنْكُم " دونَ " فارِسا " ، وَلَوْ قُلْتَ : مَا اخْتارَ إِلّا فارِسًا مِنْكُم ، صارَ الِاخْتِصاصُ في " فارِسا " .

ولكنك - يا سيدنا - لم تنظر في معنى هذا الترتيب ، وهو بلا ريب أن المقصور المؤخر معروف من قبل ، وأن المقصور عليه بـ" إلا " المقدم معها هو المعرَّف ، ولس أظهر في تأكيد هذا الفهم من بيت السيد الحميري ؛ فقد ذكر الفرسان ، فلن يكون الاختيار إلا اختيار فرسان . لكأن المتكلم لم يرد أن يذكر العنصر المؤخر ، ثم أراد - أو كأنه لم يصبر عن تقديم ما قدم !

إِنْ قُلْتَ : فَصورَةُ الْمَعْنى إِذَنْ صورَتُه إِذا وَضَعْتَ الْكَلامَ بِـ" إِنَّما " ، فَقُلْتَ : إِنَّما هُوَ قائِمٌ ، وَنَحْنُ نَرى أَنَّه يَجوزُ في هذا أَنْ تَعْطِفَ بِـ" لا " ، فَتَقولَ : إِنَّما هُوَ قائِمٌ لا قاعِدٌ ، وَلا نَرى ذلِكَ جائِزًا مَعَ " ما " و" إلا " ؛ إِذْ لَيْسَ مِنْ كَلامِ النّاسِ أَنْ يَقولوا : ما زَيْدٌ إِلّا قائِمٌ لا قاعِدٌ - فَإِنَّ ذلِكَ إِنَّما لَمْ يَجُزْ مِنْ حَيْثُ أَنَّكَ - هكذا والصواب إِنَّكَ - إِذا قُلْتَ : ما زَيْدٌ إِلّا قائِمٌ ، فَقَدْ نَفَيْتَ عَنْهُ كُلَّ صِفَةٍ تُنافِي الْقِيامَ ، وَصِرْتَ كَأَنَّكَ قُلْتَ : لَيْسَ هُوَ بِقاعِدٍ وَلا مُضْطَجِعٍ وَلا مُتَّكِئٍ ، وَهكَذا حَتّى لا تَدَعَ صِفَةً يَخْرُجُ بِها مِنَ الْقِيامِ . فَإِذا قُلْتَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ : لا قاعِدٌ ، كُنْتَ قَدْ نَفَيْتَ بِـ" لا " الْعاطِفَةِ شَيْئًا قَدْ بَدَأْتَ فَنَفَيْتَه ، وَهِيَ مَوْضوعَةٌ لِأَنْ تَنْفِيَ بِها ما بَدَأْتَ فَأَوْجَبْتَه ، لا لِأَنْ تُفيدَ بِهَا النَّفْيَ في شَيْءٍ قَدْ نَفَيْتَه ؛ وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَقولَ : ما جاءَني أَحَدٌ لا زَيْدٌ ، عَلى أَنْ تَعْمِدَ إِلى بَعْضِ ما دَخَلَ فِي النَّفْيِ بِعُمومِ " أَحَدٍ " ، فَتَنْفِيَه عَلَى الْخُصوصِ ، بَلْ كانَ الْواجِبُ إِذا أَرَدْتَ ذلِكَ ، أَنْ تَقولَ : ما جاءَني أَحَدٌ وَلا زَيْدٌ ، فَتَجيءَ بِالْواوِ مِنْ قَبْلِ " لا " ، حَتّى تَخْرُجَ بِذلِكَ عَنْ أَنْ تَكونَ عاطِفَةً ، فَاعْرِفْ ذلِكَ !

أوهمني سيدنا عجزه بقوله : " لا نَرى ذلِكَ جائِزًا (...) إِذْ لَيْسَ مِنْ كَلامِ النّاسِ أَنْ يَقولوا " ؛ فكمنت له في طوايا الكلام ، أتربص به دوائر العجز عن سبر غور هذه الدقيقة - فإذا بيانه حَيٌّ يلقف ما أحتال !

اعْلَمْ أَنَّ الَّذي ذَكَرْناهُ مِنْ أَنَّكَ تَقولُ : ما ضَرَبَ إِلّا عَمْرٌو زَيْدًا ، فَتوقِعُ الْفاعِلَ وَالْمَفْعولَ جَميعًا بَعْدَ " إِلّا " - لَيْسَ بِأَكْثَرِ الْكَلامِ ؛ وَإِنَّمَا الْأَكْثَرُ إِنْ - هكذا والصواب أَنْ - تُقَدِّمَ الْمَفْعولَ عَلى " إِلّا " ، نَحْوُ : ما ضَرَبَ زَيْدًا إِلّا عَمْرٌو ، حَتّى أَنَّهُمْ ذَهَبوا فيهِ - أَعْني في قَوْلِكَ : ما ضَرَبَ إِلّا عَمْرٌو زَيْدًا - إِلى أَنَّه عَلى كَلامَيْنِ ، وَأَنَّ زَيْدًا مَنْصوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ ، حَتّى كَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِذلِكَ أَبْهَمَ في أَوَّلِ أَمْرِه ، فَقالَ : ما ضَرَبَ إِلّا عَمْرٌو ، ثُمَّ قيلَ لَه : مَنْ ضَرَبَ ؟ فَقالَ : ضَرَبَ زَيْدًا . وَها هُنا - إِذا تَأَمَّلْتَ - مَعْنًى لَطيفٌ يوجِبُ ذلِكَ ، وَهُوَ أَنَّكَ إِذا قُلْتَ : ما ضَرَبَ زَيْدًا إِلّا عَمْرٌو ، كانَ غَرَضُكَ أَنْ تَخْتَصَّ عَمْرًا بِضَرْبِ زَيْدٍ ، لا بِالضَّرْبِ عَلَى الْإِطْلاقِ . وَإِذا كانَ كَذلِكَ وَجَبَ أَنْ تُعَدِّيَ الْفِعْلَ إِلَى الْمَفْعولِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَذْكُرَ عَمْرًا الَّذي هُوَ الْفاعِلُ ، لِأَنَّ السّامِعَ لا يَعْقِلُ عَنْكَ أَنَّكَ اخْتَصَصْتَه بِالْفِعْلِ مُعَدًّى ، حَتّى تَكونَ قَدْ بَدَأْتَ فَعَدَّيْتَه ، أَعْني لا يَفْهَمُ عَنكَ أَنَّكَ أَرَدْتَ أَنْ تَخْتَصَّ عَمْرًا بِضَرْبِ زَيْدٍ ، حَتّى تَذْكُرَه لَه مُعَدًّى إِلى زَيْدٍ ، فَأَمّا إِذا ذَكَرْتَه غَيْرَ مُعَدًّى ، فَقُلْتَ : ما ضَرَبَ إِلّا عَمْرٌو ، فَإِنَّ الَّذي يَقَعُ في نَفْسِه أَنَّكَ أَرَدْتَ أَنْ تَزْعُمَ أَنَّه لَمْ يَكُنْ مِنْ أَحَدٍ غَيْرِ عَمْرٍو ضَرْبٌ ، وَأَنَّه لَيْسَ ها هُنا مَضْروبٌ إِلّا وَضارِبُه عَمْرٌو ، فَاعْرِفْهُ أَصْلًا في شَأْنِ التَّقْديمِ وَالتَّأْخيرِ !

الله الله الله أكبر !

اللهم - عَبْدٌ تَجَرَّأَ على ذكرى سيده ؛ فزعم أنه فهم ما لم يفهم ، ثم تبين له أنه كان يفهم كلَّ الفهم ! - فاللهم ، عفوَك وعافيتَك !

جُمْلَةُ الْحَديثِ أَنّا نَعْلَمُ ضَرورَةً أَنَّه لا يَتَأَتّى لَنا أَنْ نَنْظِمَ كَلامًا مِنْ غَيْرِ رَويَّةٍ وَفِكْرٍ ، فَإِنْ كانَ راوِي الشِّعْرِ وَمُنْشِدُه يَحْكي نَظْمَ الشّاعِرِ عَلى حَقيقَتِه ، فَيَنْبَغي أَلّا يَتَأَتّى لَه رِوايَةُ شِعْرِه إِلّا بِرَويَّةٍ ، وَإِلّا بِأَنْ يَنْظُرَ في جَميعِ ما نَظَرَ فيهِ الشّاعِرُ مِنْ أَمْرِ النَّظْمِ . وَهذا ما لا يَبْقى مَعَه مَوْضِعُ عُذْرٍ لِلشّاكِّ ! هذا ، وَسَبَبُ دُخولِ الشُّبْهَةِ عَلى مَنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ ، أَنَّه لَمّا رَأَى الْمَعانِيَ لا تَتَجَلّى لِلسّامِعِ إِلّا مِنَ الْأَلْفاظِ ، وَكانَ لا يوقَفُ عَلَى الْأُمورِ الَّتي بِتَوَخّيها يَكونُ النَّظْمُ ، إِلّا بِأَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْأَلْفاظِ مُرَتَّبَةً عَلَى الْأَنْحاءِ الَّتي يوجِبُها تَرْتيبُ الْمَعاني فِي النَّفْسِ - وَجَرَتِ الْعادَةُ بِأَنْ تَكونَ الْمُعامَلَةُ مَعَ الْأَلْفاظِ ، فَيُقالَ : قَدْ نَظَمَ أَلْفاظًا ، فَأَحْسَنَ نَظْمَها ، وَأَلَّفَ كَلِمًا ، فَأَجادَ تَأْليفَها - جَعَلَ الْأَلْفاظَ الْأَصْلَ فِي النَّظْمِ ، وَجَعَلَه يَتَوَخّى فيها أَنْفُسَها ، وَتَرَكَ أَنْ يُفَكِّرَ فِي الَّذي بَيَّنّاهُ مِنْ أَنَّ النَّظْمَ هُوَ تَوَخّي مَعانِي النَّحْوِ في مَعانِي الْكَلامِ ، وَأَنَّ تَوَخِّيَها في مُتونِ الْأَلْفاظِ مُحالٌ . فَلَمّا جَعَلَ هذا في نَفْسِه ، وَنَشِبَ هذا الِاعْتِقادُ بِه ، خَرَجَ لَه مِنْ ذلِكَ أَنَّ الْحاكِيَ إِذا أَدّى أَلْفاظَ الشِّعْرِ عَلَى النَّسَقِ الَّذي سَمِعَها عَلَيْهِ ، كانَ قَدْ حَكى نَظْمَ الشّاعِرِ كَما حَكى لَفْظَه ! وَهذِه شُبْهَةٌ قَدْ مَلَكَتْ قُلوبَ النّاسِ ، وَعَشَّشَتْ في صُدورِهِمْ ، وَتَشَرَّبَتْها نُفوسُهُمْ ، حَتّى إِنَّكَ لَتَرى كَثيرًا مِنْهُمْ وَهُوَ مِنْ حُلولِها عِنْدَهُمْ مَحَلَّ الْعِلْمِ الضَّروريِّ ، بِحَيْثُ إِنْ أَوْمَأْتَ لَه إِلى شَيْءٍ مِمّا ذَكَرْناهُ اشْمَأَزَّ لَكَ ، وَسَكَّ سَمْعَه دونَكَ ، وَأَظْهَرَ التَّعَجُّبَ مِنْكَ ! وَتِلْكَ جَريرَةُ تَرْكِ النَّظَرِ وَأَخْذِ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ مَعْدِنِه ، وَمِنَ اللّهِ التَّوْفيقُ !

ولكن ينبغي لمنشد الشعر ، أن يستوعب من عمل الشاعر ، ما ينشد به شعره على أحسن مَراميه ومَناشده !

ثم ذكرت الآن ما يفعله الناس بالشاعر والملحن والمغنّي ، من إهمال عمل الشاعر والملحن ، وإجلال عمل المغنّي - وما يفعلونه بالكاتب والمخرج والممثّل ، من إهمال عمل الكاتب والمخرج ، وإجلال عمل الممثّل ، حتى ليعاملون المغنّين والممثّلين معاملة العلماء الحكماء والفنانين المبدعين !