جماليات التلقي في السرد القرآني

ـ رؤية نقدية ـ

د.محمد سالم سعد الله

[email protected]

كلية الآداب / جامعة الموصل

يكتسب الحديث عن هذا الموضوع أهمية معرفية انطلاقا من مناقشة إمكانية صلاحية أو عدم صلاحية تناول مثل هذه العنوانات ، التي من المفترض أن تستدعي رؤية إسلامية ذات خصوصية حضارية ترسم مبادئ فكرية وطرائق عملية في سبيل تحقيق أولويات الفكر الإسلامي المتجه نحو الإنسان والمتمثل بالعبودية والخلافة والتمكين والتكريـم .

ينبغي أن يتسم المسار العلمي للموضوعات التي تتصدى لتحليل النص القرآني بأدوات واليات المناهج النقدية الحديثة ، بفحص منظومةِ تشكلِ هذه المناهج النقدية من خلال تحليل بيان نسقها المشكّل لها ، ثم تقديمها في إطار من الشمول المعرفي الذي يكتسي نظما حيوية في تحليل النص وبيان دلالاته .

ويعد النص القرآني مكونا معرفيا وفكريا لمعطيات الإسلام ورسالة الوحي إلى الإنسانية ، ويمتلك الأسس العقدية التي من مهمتها تحصين الذات من الخلل ، ومن الوقوع في الزلل ، وتعين في تطبيق مفاهيم الإسلام ، وتسعى لتمثيل أركان الفعل الإيماني الذي أتى به الوحي ، وحُفِظ في النص ، وصدّق به العقل .

وفي مقابل ذلك تستند المناهج النقدية الحديثة على مرجعيات فلسفية غربية تعتمد على منطلقين اثنين هما :

1. فصل الجانب الروحي عن الجانب المادي .

2. الاعتماد على العقل بشكل كبير .

ويمكن القول أن المناهج النقدية المعاصرة تتجه إلى تبنيها لمرجعيات فلسفية موغلة في الجذر المعرفي والفكري ، ومحاولة دراستها بهذه الصيغة هو فحص للنتاج النقدي الغربي المعاصر الذي ينطلق من قاعدة مفادها : ( تتشكل جنسية النقد ومناهجه النقدية في سلسلة معرفية متوالية متتابعة ) .

وقد مرت المناهج النقدية خلال مسيرتها المعرفية بأجيال ثلاثة هي :

1. جيل المناهج السياقية .

2. جيل المناهج النصية .

3. جيل مناهج الاستقبال والتلقي .

وتحوي السلسة النقدية مجموعة من التمثلات المعرفية والثقافية التي تنطلق من أرضية فلسفية واعية وقصدية .

تعتمد المناهج النقدية الحديثة بشكل أساس على مصطلح ( موت المؤلف ) الذي انبثق مع توجه الفيلسوف ( نيتشه ) إلى رفع القيود عن العقل والخروج من عالم المعقول إلى عالم اللامعقول والتركيز بشكل مستمر على سلطة الإنسان الخارق وصحوة انفلاته من الإلـه !!! .

لقد حاولت فلسفة ( نيتشه ) تغيير مسار العقلانية الأوربية من خلال فتح المجال أمام اقتحام ( الخُطوط الحُمُر ) في كلّ شيء ، فلم يعد هناك شيء مقدس في نظره ، وبهذا وضع نيتشه العالم الغربي أمام خيارين بقوله : ( إما أن تلغوا مقدساتكم وإما أن تلغوا أنفسكم ) !.  

وترتبط فلسفة موت الإله بفلسفة أخرى موغلة في القدم هي : ( فلسفة القبلانية ) أو فلسفة عزل الإله ، ولهذه الفلسفة أثر كبير في تحليل النص ، إذ فقد النصُ المقدسُ من خلالها حدوده ، وتداخل مع النصوص الأخرى ، وأصبح نصاً مفتوحاً ، والغرض من ذلك فرض التأويل المُوجه ، وسوء القراءة ( المُتعمَد ) على الثبات الذي يتصف به النص المقدس ، وهذا في واقع الأمر عملية تفكيكية بفرض مبدأ الصيرورة والتغيير ، وفرض مبدأ اللامعنى بوصفه المعنى ، أنَها عمليةٌ مارسها بعض النقاد لقلب المعاني ، والتلاعب بحقيقة النص ، في محاولة لتغييب النص الأصل وتقديم النص الهامش ,

وانطلاقا من ذلك سعت المناهج النقدية المعاصرة إلى تعامل جديد مع اللغة ، وبناء نظامٍ دلالي جديد ، مبني على افتعال الصراع بين الوجود الظاهري للنص على صعيد الدوال وبين الوجود الماورائي للنص على صعيد المدلولات من خلال ثنائية : ( نظرية اللعب بالدوال ، والحضور والغياب ) .

وبذلك نهضت المناهج النقدية ببناء لغة جديدة في التحليل يتم من خلالها التوصل إلى تشتيت الذهن وتفكيك ثقة الإنسان بقدراته على اقتناص الدلالة المناسبة والمستقرة للنـص ، وهذا السعي هو نتيجة انفصام العلاقة بين المخلوق والخالق ، وعدم حضور الانسجام والترابط بين المحدود واللامحدود .

إن المعالجات الأكاديمية التي تناولت النص القرآني مستخدمة آليات التحليل النقدي للمناهج النقدية الحديثة ، وقعت في مزالق عدة ، منها :

1. تطبيـق مفاهيـم نقديـة ذات خصوصيـة فكرية في المنشأ والتناول على نص لا ينتمي إليها .

2. تحليل النص القرآني ذي السمة العقائدية الدعوية المرتبطة بالخالق ، بأدوات نقدية وُلِدت كي لا تعترف بوجود هذا الخالق ، وتحلل النص انطلاقا من موت مؤلفه .

3. تفريغ النص القرآني من محتواه والنظر إليه بوصفه نظاما نصيا مكونا من أبنية لغوية ونسقية ، كي يتناسب مع معطيات المناهج النقدية الحديثة . 

إن الموضوعات التي اشتغل أصحابها على مشاريع أكاديمية الغرض منها الحصول على درجة علمية ( ماجستير أو دكتوراه ) ، كان الغرض منها خدمة النص القرآني وبيان جماله ، لكن غاب عنهم أنهم ـ وفي معرض بيان جمال النص القرآني ـ قد أساؤا إليه وحرفوه عن قصده الذي وُجد من أجله في بيان التوحيد وتوضيح العقيدة والدعوة إلى عبادة الله ( عز وجل ) والحديث عن موضوعات الترغيب والترهيب .

إن دراسة النص القرآني وفق آليات نظريات الاستقبال والتلقي فيها مخاطر عقدية عدة انطلاقا من أن هذه النظريات تعتمد أساسا معرفيا في الاشتغال وهو: ( ملء فجوات النص )، بمعنى أن القارئ / المتلقي لن يستطيع بيان جمال النص وتوضيح دلالاته إلا بعد افتراض : أن النص مليء بالفجوات ، ومهمة هذا القارئ ملء هذه الفجوات كي تتضح الدلالة ويستقيم المعنى ، فضلا عن أن هذه النظريـات اعتمدت في الأسـاس على منهـج ( الظاهراتية ) الفلسفي المنبثق أساسا من مذهب ( الوجودية ) في الدرس الفلسفي الحديـث ، وكل هذه التوجهات لا تناسب النص القرآني ـ كما لا يخفى ـ لأنها لا تعترف بالغيب ، ولا تؤمن بوجود الخالق ، فكيف يليق بالنص القرآنـي أن يُجـرد من المُوجِـد له ( الخالق ) ، ويُحلل باليات هذه المناهج ومعطياتها !! .

ودراسة النص القرآني بهذه الأدوات فيها خطوط متقاطعة عديدة ، إذ تستند في الأساس على تغييب المؤلف ، ونفي القيم العليا في النظام النصي ونعني بها ترابط الدلالة ، وانسيابية الأنساق النصية ، ثم أنها لا تعترف بـأية نهاية للتحليل وفق اعتماد منطق ( الإدراك ) و(الظاهرة) بوصفه آلية فوضوية في التحليل تستند إلى لا مركزية الدلالة .

إن محاولة دراسة النص القرآني بأدوات الاستقبال والتلقي ـ كما يطمح البعض ـ هي محاولة عبثية لا تستند إلى أسس علمية في مقاربـة النص بالمنهـج المناسـب له ، لا سيما عندما نتحدث هنا عن نص مقدس مرتبط أولا وآخرا بالخالق ، ووسيلته النظام اللغوي ، وغايته إعلان العبادة والطاعة للخالق ( عز وجل ) .

إن موضوع ( جماليات التلقي في السرد القرآني ) يقوم على مقدمات مخطوءة من البـدء، إذ تحيل منظومة اشتغاله ـ وبشكل مطرد ـ إلى أن دلالة النصوص لا تظهر إلى الوجود إلا بعد إدراكها ، انطلاقا من حمولات الواقع وتأثيراته على النص .

وبمعنى آخر أن النص القرآني لم يكتب له الظهور إلا بعد ولادة أسباب واقعية مهدت له ، أي انه ليس محفوظا في اللوح المحفوظ !! ، تعالى النص القرآني عن تلك الدعوات علوا كبيرا .

إن دراسة التلقي في النص القرآني من خلال الاعتماد على مرجعيات نظريات الاستقبال والتلقي ـ كما قدمنا لها ـ هو خلل في التحليل ، ويقود إلى شرخ في العقيدة .

وفي الختام نؤكد أننا لسنا ضد المناهج النقدية أو ضد استخدام أدواتها في التحليل مطلقا ، فقد قدمت معطيات مهمة جدا في بيان جماليات بعض النصوص الإبداعية من نص شعري وقصصي وروائي ومسرحي ونحو ذلك ، إنما القصد أن نكون على حذر ودراية وخبرة عندما نتعامل مع هذه المناهج لا سيما عندما يتعلق الأمر بتحليل النص القرآني .