تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 62

تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 62

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[ تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " دَلائِلُ الْإِعْجازِ " لِعَبْدِ الْقاهِرِ الْجُرْجانيِّ ]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

إِنْ كانَتِ الْجُمْلَةُ ( جملة الحال ) مِنْ فِعْلٍ وَفاعِلٍ وَالْفِعْلُ مُضارِعٌ مُثْبَتٌ غَيْرُ مَنْفيٍّ ، لَمْ يَكَدْ ( الفعل المضارع ) يَجيءُ بِالْواوِ ، بَلْ تَرَى الْكَلامَ عَلى مَجيئِها عارِيَةً مِنَ الْواوِ ، كَقَوْلِكَ : جاءَني زَيْدٌ يَسْعى غُلامُه بَيْنَ يَدَيْهِ (...) فَأَمّا قَوْلُ ابْنِ هَمّامٍ السَّلوليِّ :

فَلَمّا خَشيتُ أَظافيرَه نَجَوْتُ وَأَرْهَنُهُمْ مالِكا

في رِوايَةِ مَنْ رَوى : وَأَرْهَنُهُمْ ، وَما شَبَّهوهُ بِه مِنْ قَوْلِهِمْ : قُمْتُ وَأَصُكُّ وَجْهَه - فَلَيْسَتِ الْواوُ فيها لِلْحالِ ، وَلَيْسَ الْمَعْنى نَجَوْتُ راهِنًا مالِكًا ، وَقُمْتُ صاكًّا وَجْهَه ، وَلكِنَّ أَرْهَنُ وَأَصُكُّ حِكايَةُ حالٍ ، مِثْلُ قَوْلِه :

وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئيمِ يَسُبُّني فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنيني

فَكَما أَنَّ أَمُرُّ هاهُنا في مَعْنى مَرَرْتُ ، كَذلِكَ يَكونُ أَرْهَنُ وَأَصُكُّ هُناكَ في مَعْنى رَهَنْتُ وَصَكَكْتُ .

عفا الله عنك !

كيف اطَّرَحْتَ التفكير في جواز ذلك !

أما أنا فلقد تمسكتُ به من قديم في قول عنترة :

" عُلِّقْتُها عَرَضًا وَأَقْتُلُ قَوْمَها زَعْمًا لَعَمْرُ أَبيكَ لَيْسَ بِمَزْعَم "

حتى ادعيت في رسالتي للماجستير في الأمثال العربية القديمة ، أن عنترة " أراد أن يقول إنه أحبها على رغم أنه قتل قومها من قبل ، فاحتاج إلى أن يقول : علقتها وقتلت قومها - وأراد أن يقول إنه أحبها على رغم أنه يقتل قومها الآن ، فاحتاج إلى أن يقول : علقتها أقتل قومها ؛ فطبيعة المحب أقدمته على إرادة المعنى الأول ، وطبيعة الفارس أقدمته على إرادة المعنى الثاني ؛ فقد غلب الحب على ما بينه وبين قومها من عداوة ، وغلبت أنفة الفارس على ما بينه وبينها من حب ، وكان إطار الكلام ضيقا ، فأخرجه هذا الإخراج - أعني إدخال الواو على المضارع المثبت - الذي يحمل من كلٍّ شيئا ، فالواو من آثار إرادة المعنى الأول ، والمضارع المثبت من آثار إرادة المعنى الثاني " !

ثم لما غدوتُ على أستاذنا محمود محمد شاكر - رحمه الله ! - صائما من رمضان سنة 1413هـ ، بنسخةِ هديَّتِه من رسالتي ، فعَرَضَ كلامٌ احتفزتُ به إلى قراءة عبارتي تلك عليه - ابتسم ، ولم يقبل ، ولم يرفض ، إلا أنني وجدت رضاه في همَّته إلى مكتبته وعودته لي بكتبٍ أَمْثاليَّةٍ عجيبة غريبة ، ثم في إصراره أن أفطر معه ، ثم في ندائه : " يا أستاذ صقر " ، أن أجاوره على مائدة الإفطار العامرة بتحف أم فهر - رضي الله عنها ! - حتى لقد أحرجني هذا التقدير الطريف من هذا الأستاذ الصَّموت المخيف !

ثمت لم تَكَدْ أوائلُ أيام العيد تمر ، حتى حضر مجلس مناقشة رسالتي ، هو وفهر ابنه وأم فهر وأم محمد محمود الطناحي - وكان الدكتور محمود الطناحي رحم الله آنئذ بمكة المكرمة - فأَذْهَلَتِ الحَضْرَةُ الناسَ كبارا وصغارا عن أنفسهم وشؤونهم !

ثمت لم يبرح أستاذنا مجلس المناقشة على طوله إلا بي متكئا يسارا على فهر ابنه ويمينا عليّ ، وإلا بكلمته التي نقشتُها على غلاف رسالتي كتابًا : " الولد ده طلع كويس رغم انه من المدارس " ، أي ليس من الأزهر ؛ فلم يكن - رحمه الله ! - ينسى أثر كليتي دار العلوم المحروسة !

إِنْ دَخَلَ حَرْفُ نَفْيٍ عَلَى الْمُضارِعِ تَغَيَّرَ الْحُكْمُ ، فَجاءَ بِالْواوِ وَبِتَرْكِها كَثيرًا ، وَذلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ : كُنْتُ وَما أُخَشّى بِالذِّئْبِ .

أحفظه من كلام الشيخ الهرم : " لَقَدْ كُنْتُ وَما أُخَشّى بِالذِّئْبِ ، فَالْيَوْمَ قَدْ قيلَ : الذِّئْبَ الذِّئْبَ " ! لم يكن الشيخ في عنفوانه وشبابه يخاف شيئا ، فاليوم صار بحيث يَتَلَعَّب به الصغار ، يخوفونه الذئب من عن يمينه تارة وشماله ؛ فاللهم ، أعوذ بك أن تردني مثل مردِّه ! أسألك - اللهم - شهادة في سبيلك تنتزعني من هذه الدنيا رجلا جليدا ، انتزاعا حديدا !

هُوَ ( مجيء المضارع منفيا حالا من غير الواو ) كَثيرٌ إِلّا أَنَّه لا يَهْتَدي إِلى وَضْعِه بِالْمَوْضِعِ الْمَرْضيِّ إِلّا مَنْ كانَ صَحيحَ الطَّبْعِ .

أي من كان موهوبا الاستعداد اللغوي ، ثم رعى موهبته حتى صعد بالاستعداد إلى المقدرة ، ثم صعد بالمقدرة إلى المهارة .

إِذا قُلْتَ : جاءَني وَغُلامُه يَسْعى بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَرَأَيْتُ زَيْدًا وَسَيْفُه عَلى كَتِفِه - كانَ الْمَعْنى عَلى أَنَّكَ بَدَأْتَ ، فَأَثْبَتَّ الْمَجيءَ وَالرُّؤْيَةَ ، ثُمَّ اسْتَأْنَفْتَ خَبَرًا ، وَابْتَدَأْتَ إِثْباتًا ثانِيًا ، لِسَعْيِ الْغُلامِ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَلِكَوْنِ السَّيْفِ عَلى كَتِفِه . وَلَمّا كانَ الْمَعْنى عَلَى اسْتِئْنافِ الْإِثْباتِ ، إحْتيجَ - هكذا والصواب احْتيجَ - إِلى ما يَرْبِطُ الْجُمْلَةَ الثّانِيَةَ بِالْأولى ؛ فَجيءَ بِالْواوِ كَما جِيءَ بِها في قَوْلِكَ : زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ وَعَمْرٌو ذاهِبٌ ، وَالْعِلْمُ حَسَنٌ وَالْجَهْلُ قَبيحٌ . وَتَسْمِيَتُنا لَها واوَ حالٍ ، لا يُخْرِجُها عَنْ أَنْ تَكونَ مُجْتَلَبَةً لِضَمِّ جُمْلَةٍ إِلى جُمْلَةٍ . وَنَظيرُها في هذَا الْفاءُ في جَوابِ الشَّرْطِ ، نَحْوُ إِنْ تَأْتِني فَأَنْتَ مُكْرَمٌ ؛ فَإِنَّها وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عاطِفَةً فَإِنَّ ذلِكَ لا يُخْرِجُها مِنْ أَنْ تَكونَ بِمَنْزِلَةِ الْعاطِفَةِ في أَنَّها جاءَتْ لِتَرْبِطَ جُمْلَةً لَيْسَ مِنْ شَأْنِها أَنْ تَرْتَبِطَ بِنَفْسِها ؛ فَاعْرِفْ ذلِكَ ، وَنَزِّلِ الْجُمْلَةَ في نَحْوِ جاءَني زَيْدٌ يُسْرِعُ ، وَقَدْ عَلَوْتُ قُتودَ الرَّحْلِ يَسْفَعُني يَوْمٌ ( من بيت علقمة بن عبدة وبقيته قديديمة الجوزاء مسموم ) - مَنْزِلَةَ الْجَزاءِ الَّذي يَسْتَغْني عَنِ الْفاءِ ، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِه أَنْ يَرْتَبِطَ بِالشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ رابِطٍ ، وَهُوَ قَوْلُكَ : إِنْ تُعْطِني أَشْكُرْكَ - وَنَزِّلِ الْجُمْلَةَ في جاءَني زَيْدٌ وَهُوَ راكِبٌ ، مَنْزِلَةَ الْجَزاءِ الَّذي لَيْسَ مِنْ شَأْنِه أَنْ يَرْتَبِطَ بِنَفْسِه ، وَيَحْتاجُ إِلَى الْفاءِ ، كَالْجُمْلَةِ في نَحْوِ إِنْ تَأْتِني فَأَنْتَ مُكْرَمٌ ، قِياسًا سَويًّا ، وَمُوازَنَةً صَحيحَةً .

رضي الله عنك !

كأنك تدلنا على ما يؤديه الطبع الصحيح من بعد أن يهتدي إليه ؛ فإن البيان استبانة وإبانة . ربما تَقالَّ الباحثون الآن نتائج عمل طبعك الصحيح هذه وهي كثيرة كبيرة ، ولكنهم إذا تذكروا ما جئت إليه وعليه ، عرفوا موضعك !

يَدُلُّ عَلى أَنْ لَيْسَ مَجيءُ الْجُمْلَةِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ حالًا بِغَيْرِ الْواوِ أَصْلًا ، قِلَّتُه ، وَأَنَّه لا يَجيءُ إِلّا فِي الشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ . هذا ، وَيَجوزُ أَنْ يَكونَ ما جاءَ مِنْ ذلِكَ إِنَّما جاءَ عَلى إِرادَةِ الْواوِ ، كَما جاءَ الْماضي عَلى إِرادَةِ قَدْ .

عجبا - يا سيدنا - تقف عند الصُّوَر ، وأنت الوقّاف عند الجواهر !

أين ذهبتَ عن تفتيشك !

كأنك تربط لنا هذا بذاك !

كأنك تحمينا أن ننسى بهذا بذاك !

تَقولُ : جاءَني زَيْدٌ وَالسَّيْفُ عَلى كَتِفِه ، وَخَرَجَ وَالتّاجُ عَلَيْهِ - فَتَجِدُه لا يَحْسُنُ إِلّا بِالْواوِ ، وَتَعْلَمُ أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ : جاءَني زَيْدٌ السَّيْفُ عَلى كَتِفِه ، وَخَرَجَ التّاجُ عَلَيْهِ - كانَ كَلامًا نافِرًا لا يَكادُ يَقَعُ في الِاسْتِعْمالِ ؛ وَذلِكَ لِأَنَّه بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ : جاءَني وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ سَيْفَه ، وَخَرَجَ وَهُوَ لابِسٌ التّاجَ - في أَنَّ الْمَعْنى عَلى أَنَّكَ اسْتَأْنَفْتَ كَلامًا ، وَابْتَدَأْتَ إِثْباتًا - وَأَنَّكَ لَمْ تُرِدْ جاءَني كَذلِكَ ، وَلكِنْ جاءَني وَهُوَ كَذلِكَ ؛ فَاعْرِفْهُ !

ثم هنا شيء آخر : أن اطراح الواو يدخل أول جملة الحال في آخر جملة صاحب الحال بدلا منه ، فيلتبس المعنى في مثل خرج أخوه خلفه ، ومثل هذا الالتباس في تقديم جملة الخبر : خرج خلفه أخوه ، يظن المتلقي في خرج خلفه أخوه ، أن الخارج أخوه ، وأنه خرج خلفه ! واللبس عدو اللغة ، وإن لم يمكث إلا قليلا ، فربما كان المتلقي أحوج الآن إلى هذا القليل ، منه إلى كثير في وقت آخر .

إِنْ جِئْتَ ، فَعَطَفْتَ عَلَى الْأَوَّلِ شَيْئًا لَيْسَ مِنْهُ بِسَبَبٍ ، وَلا هُوَ مِمّا يُذْكَرُ بِذِكْرِه وَيَتَّصِلُ حَديثُه بِحَديثِه -لَمْ يَسْتَقِمْ . فَلَوْ قُلْتَ : خَرَجْتُ الْيَوْمَ مِنْ داري ، ثُمَّ قُلْتَ : وَأَحْسَنَ الَّذي يَقولُ بَيْتَ كَذا - قُلْتَ ما يُضْحَكُ مِنْهُ ، وَمِنْ هُنا عابوا أَبا تَمّامٍ في قَوْلِه :

لا وَالَّذي هُوَ عالِمٌ أَنَّ النَّوى صَبِرٌ وَأَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ كَريم

وَذلِكَ لِأَنَّه لا مُناسَبَةَ بَيْنَ كَرَمِ أَبِي الْحُسَيْنِ وَمَرارَةِ النَّوى ، وَلا تَعَلُّقَ لِأَحَدِهِما بِالْآخَرِ ، وَلَيْسَ يَقْتَضِي الْحَديثُ بِهذَا الْحَديثَ بِذاكَ !

ربما أراد أبو تمام أن النوى مر وأن لقاء أبي الحسين حلو ، فأخفى الحلاوة في الكرم ، ولا سيما أنه قال من بعد :

" ما زِلتُ عَنْ سَنَنِ الْوِدادِ وَلا غَدَتْ نَفْسي عَلى إِلْفٍ سِواكَ تَحوم "

فدافع مرارة النوى بالتمسك بسنن الوداد ، وحمى حلاوة اللقاء بالتمسك بسنن الانتجاع !

ثم قد صار " ما يضحك منه " هذا الذي ذكره سيدنا ، فَنًّا من التَّمَلُّح !

ثمتَ كان لنا بقيادة لواء المشاة الميكانيكي العشرين والمئة من الفرقة الثانية بالجيش المصري الثاني الميداني ، زميل لطيف ظريف ، مغرم بإخراج الملحة من بين المُتَدابِرات ، فكان من كلامه الذي أذكره على الزمان مثلا : " بِتْحِبّ الْفِراخِ الْمَشْويَّه أَكْتَرْ وَلا زيتِ الْعَرَبيّاتْ " ؛ فقد كان سائقا وزيت السيارات من همومهم اليومية ، ثم الفراخ المشوية أمنية وهمية ، أعز على أمثالنا هناك من الكبريت الأحمر ، أو هي أحيانا الموت الأحمر نفسه !

ثمتَ كان أشد ما يكون غراما بالتملح إذا أحاط بنا القادة وادْلهمَّ الكرب ، يأتي - قاتله الله ! - فينفث الملحة في أذن الواحد منا ، ثم ينظر كيف تماسكه !