مراجعة لكتاب الحياة مفاوضات
عبد الستار قاسم
صدر مؤخرا عن عمادة البحث العلمي/جامعة النجاح الوطنية كتاب للدكتور صائب عريقات بعنوان الحياة مفاوضات. وقد رافقت الإصدار حملة إعلامية كبيرة خاصة بعلمية الكتاب ومهنيته وبتحكيمه من قبل علماء. وقد صدّر الأستاذ الدكتور رامي الحمد الله، رئيس جامعة النجاح للكتاب قائلا بأنه: "إن قيمة هذا الكتاب جعلتني مهتما بتولي طباعته ونشره ليكون بين أيدي القراء والمفكرين، لأنه – بحق – يعتبر أرضية متينة غنية وقوية للدارسين، ولا أبالغ إذا قلت: إنه من أهم الكتب السياسية في وقتنا الحاضر."
قرأت الكتاب، ووجدته يخوض حديثا في ثلاث مجالات رئيسية وهي: الفلسفة السياسية الخاصة بالمفاوضات، منهجية التفاوض، والأمور الفنية الخاصة بعملية التفاوض. الكتاب لا يتحدث بمجمله عن المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية مباشرة، وإنما يتناول مسألة المفاوضات بصورة عامة كنشاط شبه يومي للإنسان سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول؛ لكن القارئ لا يخيب تقديره إذا ظن بأن الكتاب معني بصورة أساسية بعملية المفاوضات الدائرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين منذ زمن بعيد، والتي يشكل الدكتور صائب أحد أقطابها عن الجانب الفلسطيني.
دونت الكثير من ملاحظات حول الكتاب بترتيبه ومنهجيته وأفكاره، وسأطرحها في هذه المراجعة بقدر كبير من الاختصار. إنما أشير أو إلى أن الفائدة الموجودة في الكتاب تتركز بصورة كبيرة في الأمور الفنية الخاصة بالأداء التفاوضي مثل الحرص على مظهر معين، والتمتع بلباقة الحديث، والقدرة على فهم الطرف الآخر، وقراءة المشاعر وما خلف الكلمات، الخ. لكن هذا الأمر لا يخلو من قضايا أرى أن الكاتب قد أثقلها وأخرجها عن سياق الحذاقة في التفاوض، وسآتي على ذكر بعضها لاحق.
عنوان الكتاب
عنوان الكتاب الحياة مفاوضات حدي بصورة قاسية، وهو لا يقسو على الإنسان فقط وإنما على مفهوم الحياة عموما. لا شك بأن المفاوضات لا تغيب عن الحياة اليومية للإنسان والشعوب، لكنه ليس من الحكمة أو الإنصاف أو العدل أن نختصر الحياة بأنها مفاوضات. أغلب نشاطات الإنسان ليست مفاوضات، وهي تندرج تحت عناوين كثيرة لا نكاد نحصرها. الإنسان يخطط مثلا لمستقبله، ويبذل جهودا في مزرعته أو متجره، ويعمل على تنمية قدرات أبنائه، ويقرر حول طعامه وقيامه وترحاله، الخ دون أن يحتاج طرفا آخر للتجاذب معه أو ليفاوضه.
العنوان عنيف لأنه يقيد الحياة بصورة تعسفية بحيث يمكن تفسيره على أنه إسقاط لتجربة شخصية قد لا يكون الكاتب مرتاحا لها على الآخرين. ربما هو إعذار من خلال التأكيد المفرط على صحة المسار التفاوضي الذي سار به الدكتور صائب. كان من الممكن صياغة عنوان مختلف يؤكد على أهمية المفاوضات بدل تأكيد سطوتها على نواحي الحياة المختلفة.
النواحي الفنية في الكتابة
هناك عدد من النواحي الفنية الكتابية التي كان من المفروض أخذها بالحسبان، أذكر منها:
1- الكتاب عبارة عن تجربة شخصية وليس بحثا علميا، وموقعه للنشر ليس في عمادة بحث علمي. هناك دور نشر مهتمة بالتجارب الشخصية، وهي جاهزة لنشر مثل هكذا كتاب. من الناحية البحثية، الكتاب ليس موثقا إلا ما ندر، وإذا كان لي أن أقبله أكاديميا، فإنني أقبل بعض أجزائه لتكون مقدمة في الأمور الفنية للتفاوض.
2- الكتاب يكرر نفسه باستمرار، ويعيد ذات الأفكار بين الحين والآخر. فمثلا يذكر الكاتب المصالح كأساس لتصرفات الناس والدول في صحة 12، ويكررها في صفحة 16،
عبارة العوامل المشتركة بين البشر مكررة في عدد من المواقع. وكذلك النقاط المشتركة بين المتفاوضين، وفهم الطرف الآخر وتفهمه.
3- كثير من الفقرات قصيرة جدا ولا تؤدي غرضا لأنها غير مشروحة وغير متسلسلة منطقيا. من المعروف في البحث العلمي أن مادة البحث يتم ترتيبها في فقرات، تبدأ كل فقرة بفكرة محمولة في الجملة الأولى، ثم تلي الجملة عدة جمل شارحة للفكرة. بعدها يتم الانتقال إلى الفقرة التالية والمربوطة منطقيا ومعلوماتيا بالفقرة التي سبقت، وهكذا. فمثلا، هناك فقرة صفحة 8 تقول: "الصراع رافق البشر منذ البداية، وكذلك المفاوضات." هذه جملة هامة جدا تحتاج إلى مجلد لإثباتها، ولا يستطيع صاحب علم أن يقولها ويدير ظهره. تقول فقرة أخرى في صفحة 79: "ما نريد قوله هنا هو: إن أهم ما يجعل المفاوضات عملية ناجحة تستند على قدرتنا على فهم طبيعة البشر، والاستعداد، وتحديدنا للمصالح التي نحاول أن نتوصل إليها، والقاعدة المشتركة المتوجب التوصل إليها مع الطرف الآخر من خلال إستراتيجية محددة. كل ذلك وغيره يتحد ليكون أدوات للمفاوضات." لاحظ هنا أن كلمة الاستعداد بدون مزاوجة مع أي شيء. أما طبيعة البشر فقد عجز العلماء حتى الآن عن تحديدها، وهي تبقى موضوع أبحاث علمية معقدة وشائكة وفي مختلف حقول العلم، ولا أظن أن المفاوض الفلسطيني سيكون قادرا خلال العقود القادمة على فهم طبيعة الإنسان.
4- التسلسل المنطقي في كل الكتاب متضعضع، والمواضيع متداخلة بطريقة هشة غير انسيابية. اقرأ مثلا صفحة 15 التي تزدحم بأفكار متناثرة من هنا وهناك. صحيح أن الأفكار لها علاقة بالموضوع، لكن انسيابيتها معدومة، ولم تستوف أي فقرة حقها في الشرح. تبدأ الصفحة بالحياة مفاوضات، ثم تنتقل إلى المفاوضات الاختيارية، ثم كون المفاوضات علم يقوم على تداخل العلوم، ثم مصالح المفاوض، ثم عدم عيبية المفاوضات، ثم دراسة الطرف الآخر. أفكار متسارعة وكأن الكاتب يحمل في عقله وزرا يريد أن يلقيه.
النواحي الفلسفية
يحتوي الكتاب على عدد من الأغلوطات الفلسفية والشروخ المنطقية أذكر منها:
أ- يقول الكتاب في صفحة 6: "فحيث وجدت المصالح وجدت الصراعات." ربما يأتي أحدهم بالقول بأنه حيثما وجدت المصالح وجد التعاون. يتفق هوبز، الفيلسوف البريطاني مع الدكتور صائب، لكن لوك سيجد صعوبة كبيرة في الموافقة. هذه جملة تحمل تعميما واسعا جدا ولا يمكن أن يحيط بتاريخ العلاقات الإنسانية البينية، أو علاقات الإنسان بمحيطه.
ب- يقول الكاتب في صفحة 7: "من البديهي والطبيعي أن نثير مثل هذه التساؤلات. فأينما وجدت الصراعات كانت المفاوضات وكلتاهما وسيلة للوصول إلى الغايات." ويقول في ذات السياق في صفحة 13: "إذا ما كانت الصراعات حتمية، وجزءا من حياتنا اليومية، فإن المفاوضات – أيضا حتمية، وجزء من حياتنا." تحتوي هاتان الجملتان على أغلوطة فلسفية كبيرة وهي أن الاشتقاق ليس من جنس الافتراض الأساسي وليس مشمولا فيه. في المنطق، يتم وضع افتراض أساسي من قبل الكاتب ويؤمن هو بصحته، ثم ينحدر في اشتقاقات متتالية متتابعة يستند كل واحد منها على الذي قبله ومشمول ضمنيا فيه؛ وإلا فإن الاشتقاق يكون غير صحيح. فمثلا أقول أن المطر يهطل فقط عندما تتواجد الغيوم؛ لكنني أرتكب خطأ جسيما إذا قلت أن السماء ستمطر لأن هناك غيوما. قد تكون الغيوم ممطرة وقد لا تكون.
الدكتور صائب في هذا الاشتقاق أعلاه يضع افتراضا أساسيا لا يسهل الأخذ به، ويضع اشتقاقا خارجا عن السياق. إذا كانت الصراعات حتمية فإن وسائل وأساليب خوضها تتعدد ومن ضمنها الاستسلام ومواصلة الحروب والمفاوضات. المفاوضات هي عبارة عن شكل من أشكال خوض الصراع، وليست هي الشكل الوحيد. لنا في التاريخ عبرة في هذا المجال. هذا فضلا عن أن الصراعات هي تاريخية الحدوث، ولا أستطيع أن أجزم بحتميتها من الناحية العلمية. وإذا كان الافتراض الأساسي موضع شك فإن الاشتقاق موضع شك أيضا.
ت- يقول الكاتب في ص 12: "إلا أن العامل المشترك بين السلوك التفاوضي للأمم والشعوب المختلفة يكمن في أن الأفراد كالدول تتصرف وكأنها عبيد لمصالحها." إذا تتبعنا التاريخ، كثير من الأمم تتحرك وفق مسائل أخرى غير المصالح مثل الأمم التي تريد أن تنشر دينا أو فكرة. ربما يقول أحد أن هذه الأمم تبغي مصالحها في النهاية لأنها تريد ثواب الآخرة. هنا لا أستطيع تفسير المادي بالغيبي، أو إعطاء أي تعليل ليس من جنس العمل. المادة العلمية تستند على السببية، والغيبي لا يفسر المادي لأنني على الأقل لست عارفا بالغيبي على الرغم من إمكانية وجود اليقين الإيماني.
ث-تقول الفقرة في صفحة 15: "الحياة مفاوضات بالنسبة للبشر، ما سنحاول التأسيس له في هذا المؤلف هو العوامل المشتركة بين البشر لإحلال التعاون محل الخصام. وأن المفاوضات ليست أداة من أدوات الضرورة فقط. إذ أن المفاوضات حاجة." قطع الكاتب هنا كل شك وأكد على أن الحياة مفاوضات بالنسبة للبشر، لكنه فشل في التمييز بين البشر والناس. المفاوضات لا تجري بين البشر وإنما بين الناس على اعتبار أن البشر لم يصبح إنسانا إلا بقدراته التمييزية والتي من ضمنها المحادثات البينية ونقل المعلومات. ألا نرى بأن القرآن لا يخاطب البشر وإنما الناس.
المشكلة الأكبر هنا هي أن الدكتور صائب يعتبر المفاوضات حاجة. أرجو مراجعة أهل علم النفس في هذا المجال لأن الحاجة تتعلق بأمور طبيعية في التكوين البشري، بينما الضرورة تتعلق بالحراك الإنساني في زخم الحياة. لا يوجد إطلاقا في البحث العلمي الآن ما يفيد بأن المفاوضات حاجة، وكأنها كالطعام والشراب، وإنما يوجد الكثير من الضرورات التي تتبلور لدى الإنسان مع اتساع تعامله مع محيطه والبيئة. الحاجة لها بعد طبيعي، بينما الضرورة لها بعد تاريخي واجتماعي. وهنا أنوه بأن الدكتور صائب يستعمل كلمة طبيعي كثيرا، وهو استعمال خاطئ من الناحية الفلسفية. قد يُقبل الاستعمال على المستوى الشعبي، لكنه غير مقبول على المستوى العلمي.
ج-يقول الكاتب في صفحة 14: "الكل يحرص على إحلال التعاون محل الخصام، ومراعاة المصالح من خلال بناء الأرضيات المشتركة." من هم هؤلاء الكل؟ هذه جملة يجب ألا يجرؤ عالم على قولها لأنها تتضمن تعميما واسعا يشمل كل من فوق التراب، وربما من هم تحت التراب. وهل إسرائيل احترمت يوما هذه القاعدة التي يتحدث عنها الدكتور صائب؟
ح-يقول الكتاب في صفحة 15: "لكل البشر، المفاوضات تكون عملية اختيارية." يبدو أن الكاتب قد نسي أنه كتب أن المفاوضات حاجة وأن الحياة مفاوضات. هنا أصبحت اختيارية وليس حتمية.
خ-يقول الكتاب في صفحة 13: "فالكل يسعى للعيش الحر، المستقر، الآمن، المزدهر بعيدا عن آلام الحرمان والفقر والنقص في الموارد." هذه عبارة غير صحيحة بتاتا. هناك في الأرض طماعون ومستغلون وجشعون ومحتلون، ولا يمكن أن نطلق تعميمات سلوكية مطلقة ونحن نرى بأم أعيننا كما يرينا التاريخ بأن الشر يطغى في كثير من الأحيان. هناك من ينهبون ثروات الشعوب، ويتربعون على أمجادها، ويلحقون الظلم بالآخرين، الخ.
د-هناك عبارة تقول: "المفاوضات ليست مباراة أو معركة، إنها الطريقة إلى تحقيق المصالح والأهداف والتطلعات وحماية الحقوق والمنجزات." وفي عبارة أخرى قال الكاتب بأن المفاوضات الوسيلة.... إنه يضيف أل التعريف إلى طريق ووسيلة للحصر، بينما تشكل المفاوضات طريقة نحو تحقيق المصالح. كأن الكاتب يريد أن يعكس تجربته مع الإسرائيليين ونظرته إلى طريقة الحل على قرائه. المفاوضات، تاريخيا، عبارة عن وسيلة وليست الوسيلة، وعبارة عن طريقة وليست الطريقة.
ذ-في صفحة 17 يقول الكاتب: "وهل نحن جميعا مجموعة من المفاوضين؟" لا يجوز الجمع بين كلمة تعكس كيفا مع كلمة تعكس كما. كلمة جميعا تعبر عن كيف، في حين تعبر كلمة مجموعة عن كم، وتعبر الأولى عن جماعية، بينما تعبر الثانية عن فردية.
ر-في الصفحة 18 هناك فوضى علمية عندما يقول الكاتب بأنه "بعد ذلك سنخصص مساحة للفرضية، ونحاول أن نميز بين الفرضية والحقيقة، وكيفية الوصول إلى الحقيقة من خلال الافتراضات. يا دكتور صائب: الفرضية عبارة عن تخمين ذكي لما يمكن أن تكون عليها نتيجة البحث، لكن من المحتمل أن يؤكد البحث صحة الفرضية أو ينفيها. أما كيف يمكن أن تصل إلى الحقيقة عن طريق الافتراضات؟ الافتراضات عبارة عن قواعد نظرية أساسية يعتمدها الكاتب (وليس الباحث) ويبني عليها وكأنها الحقيقة، وهذا أسلوب غير علمي. في صفحة 113، يضع الكاتب عنوانا اسمه الفرضية، ومن ثم يبدأ بالحديث عن الافتراضات، وكأن الكاتب لا يميز بين الفرضية والافتراض.
ز-في صفحة 57 وصفحات أخرى يخلط الكاتب بين كلمتي فهم و تفهم، ويستعملهما على أنهما تفيدان ذات المعنى. يريدنا أن نفهم الطرف الآخر في المفاوضات، وبعد ذلك يريدنا تفهمه. ما هو مطلوب في المفاوضات هو فهم الطرف الآخر لكي نستطيع تدبر خطواتنا القادمة، أما تفهمه فتحمل معنى إيجابيا بمعنى القبول بطرحه.
مواضيع الكتاب
يلمس الدكتور صائب على مواضيع عدة في الكتاب تتركز أغلبها حول فنيات العملية التفاوضية، لكنه يطرق مواضيع أخرى بسرعة ويعطي حولها استنتاجات سريعة يطلب منا أن نأخذ بها. من هذه المواضيع:
1- المصالح والمواقف. يقول الدكتور صائب في عدد من المواقع أن المفاوضات يجب ألا تكون وفق المواقف وإنما فق المصالح. فمثلا يقول في صفحة 58: "فيجب عند معرفة التناقض في المواقف دراسة أسباب اتخاذ هذه المواقف من كل طرف، وسنجد أن المواقف تتطور استنادا لما نراه لمصالح نريد الحفاظ عليها وعدم المساس بها. وبالتالي وبدلا من التركيز على المواقف، يتم التركيز على المصالح، وعندها تكون الاحتمالات كبيرة لإيجاد حلول تستوعب مصالح الأطراف." هنا لا يشير الدكتور صائب إلى كيفية تبلور هذه المصالح وفيما إذا كانت مشروعة وفق معايير معينة أم لا. فمثلا ما هي المصالح التي حكمت الصهاينة في الاستيلاء على فلسطين بمعاونة البريطانيين؟ أم علي أن آخذ المصالح كما يعرفها الإسرائيليون بعد أن شردوا الشعب وقتلوا العباد وخربوا البلاد؟ هل من طريقة لقياس مسألة المصالح في العملية التفاوضية، وهل علي أن أفهم المصالح بجذورها التاريخية أم بواقعها القائم؟
المواقف هي التي تحدد المصالح، والمواقف نابعة أصلا من الأهداف الإستراتيجية التي تختطها الأمة لنفسها وفق إجماع وطني أو قومي ومدونة كتابيا ومحفوظة دستوريا وقضائيا، المفاوض لا يذهب إلى طاولة المفاوضات ليشرح مواقفه، وإنما ليحصل على طلباته أو جزء منها، لكن المواقف تبقى هي الهادي لعملية بلورة المصالح وطرحها، وتبقى حية في ذهن المفاوض. أما إذا رأى المفاوض أنه لا مفر أمامه إلا تقديم تنازل، فعليه أن يعود إلى أمته ليغير المواقف.
نحن مثلا وقعنا اتفاق أوسلو وهو مناقض للميثاق الوطني الفلسطيني، ولم نعمل على تعديل الميثاق إلا بعد سنوات من التنفيذ. هذا كان جريمة بحق الشعب الفلسطيني. أما إسرائيل فتقول إنها مع إقامة دولة فلسطينية، لكنها حتى الآن لم تغير من نظريتها الأمنية التي تقول بأنه لا دولة غربي النهر غير دولة إسرائيل. لماذا علينا نحن أن نغير مواقفنا، ولا نطلب من إسرائيل ذات الشيء؟ أنا أعلم أن المدرس الأمريكي يشبعنا بمواقف جوفاء ويغرقنا في وحل الاحتياجات (وليس الحاجات) المالية، وفي المقابل يزود إسرائيل بمزيد من الأسلحة التدميرية. وإذا كانت المسألة مصالح وليست مواقف فإنه من المحتمل أن نبيع الأقصى بعدة مليارات ونبني مسجدا أكثر جمالا واتساعا من القائم حاليا، ونوفر بعض المال للبغددة والنزهة.
المصالح مرتبطة مباشرة بالمواقف والتي يمكن أن تكون مادية أو أخلاقية أو تاريخية أو تربوية أو مزيجا من أصناف متعددة. فمثلا لا توجد لدى بعض الناس أي مصلحة مادية فوق مصلحة وحدة الأمة التي يرون من خلالها عزتهم. وهناك من لا يقبل أبدا مبادلة بما يشعر أنها كرامته الشخصية بكل الجاه والمال والسلطان. وهناك بالتأكيد من يرتضي لنفسه الذل والعار مقابل أن يكون بالإعلام أو إلى جانب السلطان. كما أن المصالح يصعب تعريفها، وهي ذات مدى قصير جذاب، ومدى بعيد يحتاج إلى جهود طويلة ومضنية، ومصالح الأمم بالتحديد تحتاج إلى تضافر جهود علمية ووطنية وأخلاقية مكثفة من أجل تحديدها أو تغييرها وفق معايير إستراتيجية جديدة.
2-المصالح والقوة. تحدث الدكتور صائب كثيرا عن المصالح، لكنه أشار باستحياء إلى القوة اللازمة لتحقيق المصالح. تحقيق المصالح يحتاج إلى إرادة وأصدقاء وموارد وأسلحة وأخلاق وبحث علمي، الخ. عناصر القوة كثيرة ومتنوعة ويصعب حصرها، وهي لا مفر من توفرها إذا كان للمصالح على أي مستوى أن تتحقق. يكتب الدكتور صائب في ص ص 127-128: فالأفراد كالدول عبيد للمصالح في السعي وراء تحقيق المصالح تكون التحالفات والاتفاقات والمؤامرات، ويكون تبادل الأدوار وتقسيم الغنائم، فالأفراد كالدول أيضا، يكونون أقوياء، أو يجدون تحالفات من أقوياء تمكنهم من مواجهة من هم أقوى منهم. فالقوة في السياسة نسبية. وما دام هناك بشر لن تكون هناك تحالفات أو شراكات أو صداقات دائمة. تماما كما لن يكون هناك صراعات، أو حالة عداء أو تنافس مستمر. إنه عالم المتغيرات والصيرورة. عليك دائما قراءة هذه التغييرات بشكل جيد حتى تستطيع حماية ما تعتقد أنه مصالحك." واضح أن الكاتب مرتبك أو ممزق، ولا يعرف الضبط ماذا يريد أن يقول. في ذات الفقرة يقفز من موضوع إلى آخر، ولا يركز بوصلة منطقية لكي نفهم من الفقرة شيئا. تحدث عن التحالفات والمؤامرات، وعن الاستمرارية، ولخبط بين المتغيرات والتغييرات، وعن القوة ونسبيتها. على أية حال، أتى على سيرة القوة ولم يُكمل، وأتت جملته حول القوة بدون أي عمق أو ترابط مع ما قبلها وما بعدها.
لا ضرورة للخجل في القول بأن المصالح التي لا تسندها قوة لا تتحقق، كما أن الحق الذي يفتقر إلى القوة يبقى تائها في سراديب وعود الأقوياء.
استكمالا للطرح الخجول جدا حول القوة، يكتب الدكتور صائب في صفحة 74 الفقرة التالية: "أما فيما يتعلق بقوة الشركة، أو قوة الطرف الآخر من المدافع والأسلحة، فكلما زادت قوة من يواجهك، سيكون من الأفضل لك أن تتفاوض، وإذا ما كانت المعادلة تعتمد على منطق القوة عند الطرف الآخر، فإن معادلتك يجب أن ترتكز على قوة المنطق، وبناء أفضل التحالفات." هذا حديث مأساوي، ولم يقبل أشد منظري الخضوع من الفلاسفة من طرح أفكار عجيبة من هذا القبيل. كأن الدكتور صائب يقول لنا إن علينا أن نحزم أمتعتنا ونرحل من فلسطين نهائيا. قوة المنطق ضرورية، لكنها لا تشكل أبدا بديلا للقوة؛ وإذا كان ينظر أحد إلى تجربة الهند فإنها تجربة لم تخل من قوة الزخم الشعبي الذي فرض نفسه على بريطانيا. المنطق وحده لا يستطيع إنجاز شيء جوهري في مواجهة قوى طاغية لا تحترم قيما إنسانية ولا يردعها أي رادع أخلاقي.
المفاوضات لا تبدأ عندما يكون الإنسان ضعيفا، وإلا تحولت إلى استجداء من قبل الضعيف عند القوي. طاولة المفاوضات تحتاج إلى ندية، والندية لا تتحقق إلا بوجود طرفين أو أطراف ذات ندية بالقوة. اختارت القيادة الفلسطينية الذهاب إلى طاولة المفاوضات وهي في أضعف حالاتها، ولهذا بقيت تأمل بالحصول على شيء جوهري يتعلق بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، ولكن دون طائل. بعد سنين طويلة، يحصل الطرف الضعيف على فتح حاجز هنا أو هناك، أو الإفراج عن عدد قليل من الأسرى وهكذا. المفاوضات تتطلب قوة معنوية ومادية وأخلاقية وعسكرية ومنطقية، وإلا تضيع الآمال في غياهب الضعف الذي يتم تبريره بقوة المنطق. إسرائيل الآن لن تعطي الفلسطينيين إلا ما يتسلون به في حياتهم اليومية، وستستمر في إجراءاتها التقليدية ما لم تجد من يردعها بقوة.
يطلب الدكتور صائب في الفقرة المشار إليها أعلاه من المفاوض بناء أفضل التحالفات، ولا يفصل لنا كيف نبني هذه الأفضل. لكنه يأتي في صفحات 125-127 ليقول لنا ماذا يعني من خلال قصة الأرنب المتحالف مع الأسد. يريد الدكتور أن يتحالف مع أسد دون أن يذكر لنا الأسد الذي وقع الاختيار عليه. وهذا بحد ذاته أيضا عبارة عن اتكال. على المرء أن يبحث عن أسباب القوة أولا في داخله، ومن ثم في بيئته، وبعد ذلك في قوى خارجية قد تمد له يد العون أو التعاون المتبادل، أما الذي يصر على ضعفه فلن يجد أحدا يتحالف معه. حلفاء المفاوض الفلسطيني من العرب يبيعون الأمة العربية، وهو يطالبهم لدعمه في مواجهة إجراءات إسرائيل اليومية في تهويد الأرض واقتلاع الناس.
يدعو الدكتور صائب إلى التفاوض عندما يكتسب العدو المزيد من القوة مستندا على قوة منطق الضعيف، ولكنه لا يذكر للقارئ بأن إسرائيل وأمريكا تؤمنان بنظرية القوة في العلاقات الدولية، وطالما رددت إسرائيل بأن سياستها تقوم على ردع العرب عسكريا مجتمعين ومنفردين؛ وطالما رددت أمريكا بأن السلام لا يتحقق في المنطقة العربية الإسلامية إلا بوجود إسرائيل قوية عسكريا. خصوم الدكتور صائب يؤمنون بالقوة على الرغم من أنهم يبدون أحيانا قليلة أصحاب منطق بخاصة في أوقات الاسترخاء، لكنهم لا يتحلون بأي قيمة أخلاقية إنسانية عندما يشعرون بأن مصالحهم في خطر. ولهذا من الصعب على المفاوض أن ينجز شيئا إذا لم تعرف إسرائيل أن الذي يواجهها قد تمرن على رفع الأثقال.
3-الأوامر للقارئ. هناك أوامر صادرة في الكتاب للقارئ، وهي مكررة في مواقع عدة. يقول الكتاب في معرض توجيه المستجدّين في المفاوضات في صفحة 80: "... وعليك أن تتذكر أن أصعب مرحلة في بناء الجسر هي البداية، ..." ويقول: "في البداية عليك أن تدرك ومهما كانت الخلفية التي ترى بها من يجلس أمامك، ومهما كانت حدة تجارب الماضي، أو ما كونت من أفكار سلبية قد تصل إلى حد الكره والحقد والخوف وعم الثقة، تذكر أنك على وشك أن تفتح صفحة جديدة. عليك أن تبدأ من جديد، فأنت تبحث عن الأمور المشتركة."
أرى أن من حق الناجح في أمر ما أن يقدم نصائح لمن يريدون خوض حقل عمله، لكنه ليس من حق من يفشل أن يصدر أوامر للآخرين. كل الطاقم الفلسطيني المفاوض فاشل، ولم ينجز أي وعد من الوعود التي قطعها على نفسه للشعب الفلسطيني، وقاد البلاد إلى مزيد من التدهور على المستويين الداخلي والخارجي. ولهذا من المهم أن يعيد الدكتور صائب التفكير بكل هذه التجربة الفاشلة الممتدة على مدى عشرين عاما قبل أن يعطي القارئ أوامر وإرشاد. لو كانت الأوامر مجدية لحقق المفاوض الفلسطيني شيئا.
4-استدرار عطف القارئ. يحاول الكاتب من جملة التناقضات الداخلية الموجودة في الكتاب أن يستدر عطف القارئ وكأنه يريد أن يقول بأنه حاول مخلصا ولم يستطع. هذا واضح في الصفحات 77-80. هذه الصفحات مليئة بفوضى المصطلحات، وتخلو من التركيز، ويغلب عليها الطابع الانفعالي.
5-مدرسة الأداء التفاوضي الغربي. ظهرت في الغرب بخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية مدرسة تضع إرشادات للمفاوضين الضعفاء الذين لا يملكون قوة للضغط، وهي منتشرة الآن في العالم ويتم تدريسها للمتدربين الشباب في مراكز أو منظمات غير حكومية تعني بمواضيع حل النزاعات وتحقيق السلام. نشأت هذه المدرسة بسبب تردد مثقفين ومفكرين وسياسيين من شعوب مضطهدة أو مظلومة في التفاوض والتوصل إلى حلول تحسم الأمور لصالح القوي بتوقيع الضعيف. لقد فشلت ممارسة القوة الغاشمة في إنجاز حلول بخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وكان لا بد من بحث عن بدائل.
لجأ الغرب إلى تجنيد مثقفين فلسطينيين وعرب من خلال المال وتحت راية العلم والبحث العلمي لفتح وإدارة منظمات غير حكومية تعمل على ترويج الثقافة والفكر الغربيين وذلك لتسهيل تمرير الحلول الغربية للقضية الفلسطينية. يحتاج هؤلاء المثقفون إلى الكثير من الوقت لصناعة فئة قوية تعمل في أوساط الناس، وتتصل مباشرة بالدول الغربية حول أفضل السبل لتليين المواقف. نجحت الدول الغربية في إقامة نقاط ارتكاز، ووظفت وسائل إعلامها للترويج لأشخاص يتبنون أفكارها ليصبحوا زعماء وطنيين. هؤلاء الأشخاص يتربعون الآن على ملايين الدولارات، ويتمتعون بتغطية إعلامية محلي وخارجية واسعة.
هناك جزء لا بأس به من كتاب الدكتور صائب عبارة عن نسخ للأفكار الغربية حول أسس المفاوضات ومنطلقاتها. أدعو القارئ لتفحص الفصل الثاني، الجزء الأول. يردد هذا الجزء أهم الأفكار الغربية في التوجه نحو مثقفي الشعوب المستضعفة وهي: التركيز على المصالح وليس على المواقف، إقامة علاقات الثقة مع الطرف الآخر، الاعتراف بأن للآخر متطلبات، الانفصال عن الماضي عند طاولة المفاوضات، تفهم منطلقات الآخر، ونزع الشخص المفاوض عن نفسه. هذه أفكار يبنيها القوي لأنه من خلالها يستطيع السيطرة على الضعيف. تحت راية البحث العلمي والعقلانية، يتبنى مثقفون مثل هذه المقولات. وربما من المهم أن نتذكر أن الشعوب التي تحررت من سطوة الغرب لم تتمسك بهذه الأفكار، وفقط الذين تمسكوا بها هم الذين لم يحصلوا إلا على فتات الدعم المالي.
الأمور الفنية في الأداء التفاوضي
يقدم الدكتور صائب في كتابه الكثير من الأمور الفنية الخاصة بالأداء التفاوضي عموما، وهي أمور هامة بالنسبة للشباب الدارسين الذين سيخوضون معركة الحياة على مختلف مستوياتها. تغطي الفصول الأخيرة من الكتاب هذه المسائل تحت عناوين متعددة مثل فرضية العمل، مفاوضات بين شخصين بوجود طرف ثالث، والوساطة. لكن الأمر لا يخلو أيضا من الشوائب. فمثلا يترجم الدكتور صائب كلمة (assumption) على أنها فرضية، بينما هي تعني افتراضا. الفرق شاسع بين الكلمتين. ومثل وصيته في صفحة 194 حول استعمال الشرعية بحزم ومرونة.
حول مسألة الشرعية، من المعروف تاريخيا أن القوي هو الذي يصيغ القوانين، وعندما تتناقض القوانين مع مصالحه فإنه يعود إلى شرعيته غير المكتوبة والتي تعني أن القوة هي الشرعية. أذكر هنا أن قادة فلسطين اجتمعوا عام 1923 في نابلس وأقسموا على تحقيق استقلال البلاد من خلال الأطر الشرعية المعمول بها. طبعا كانت بريطانيا هي مصدر الشرعية، فضاع الجزء الأكبر من فلسطين، وهُجر الشعب. حتى الآن ما زال فلسطينيون يبحثون عن دولة لهم أو استقلال أو حق في شرعية من تآمروا عليهم وشردوهم وقتلوا أبناءهم.
الخلاصة
الكتاب يخلو من المنهجية العلمية ومن الفكر المنطقي المتسلسل، ويغلب عليه عدم التركيز وعدم إعطاء الافتراضات حقها في الشرح. والكتاب مليء بتكرار الأفكار، وأحيانا تكرار العبارات. من الممكن اختصار الكتاب إلى حوالي ستين صفحة تهتم فقط بالأمور الفنية بعيدا عن المسائل الفكرية والمنهجية.
إنني أدعو الدارسين إلى قراءة الكتاب، ولكل واحد منهم قدرته التحليلية، ولهم أن يساهموا في الجدل لما في ذلك من إثراء للحركة العلمية والفكرية على الساحة الفلسطينية.