تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 60

تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 60

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[ تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " دَلائِلُ الْإِعْجازِ " لِعَبْدِ الْقاهِرِ الْجُرْجانيِّ ]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

انْظُرْ إِلى قَوْلِه وَقَدْ تَقَدَّمَ إِنْشادُه قَبْلُ :

سالَتْ عَلَيْهِ شِعابُ الْحَيِّ حينَ دَعا أَنْصارَه بِوُجوهٍ كَالدَّنانير

فَإِنَّكَ تَرى هذِه الِاسْتِعارَةَ عَلى لُطْفِها وَغَرابَتِها ، إِنَّما تَمَّ لَهَا الْحُسْنُ - وَانْتَهى إِلى حَيْثُ انْتَهى - بِما تَوَخّى في وَضْعِ الْكَلامِ مِنَ التَّقْديمِ وَالتَّأْخيرِ ، وَتَجِدُها قَدْ مَلُحَتْ وَلَطُفَتْ بِمُعاوَنَةِ ذلِكَ وَمُؤازَرَتِه لَها . وَإِنْ شَكَكْتَ فَاعْمِدْ إِلَى الْجارَّيْنِ وَالظَّرْفِ ، فَأَزِلْ كُلًّا مِنْها عَنْ مَكانِهِ الَّذي وَضَعَهُ الشّاعِرُ فيهِ ، فَقُلْ : سالَتْ شِعابُ الْحَيِّ بِوُجوهٍ كَالدَّنانيرِ عَلَيْهِ حينَ دَعا أَنْصارَه ، ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ يَكونُ الْحالُ ، وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْحُسْنُ وَالْحَلاوَةُ ، وَكَيْفَ تَعْدَمُ أَرْيَحيَّتَكَ الَّتي كانَتْ ، وَكَيْفَ تَذْهَبُ النَّشْوَةُ الَّتي كُنْتَ تَجِدُها !

سبحان الله !

كأن من طريقته ما حَيَّرْتُ فيه تلامذتي ، وأوردته في " هلهلة الشعر العربي القديم : جزالة أو ركاكة " ، هكذا : " لقد رغبت مرة في أن أتبين حقيقة هذه الدعوى ؛ فكتبتُ لتلامذتي ، غيرَ مُتكلفٍ ، هاتين الجملتين : " جاء أخوك الذي رأيته عندك مسرعا على رغم مرضه إلينا " . " على رغم مرضه جاء إلينا مسرعا أخوك الذي رأيته عندك " . ثم أخبرتهم أنني لم أرد محض المجيء ، على رغم أنه لُباب الفكرة ، بل احتمال المرض . ثم سألتهم : أيتهما أسهل ( أوضح ) ، وأيتهما أصعب ( أغمض ) ؟ فاختلفوا ، غير أنني ومن له بهذا علم منهم - وكنا الأكثر - رأينا الآخرة أسهل . إننا نمكث في الجملة الأولى لنفهم المعنى المراد ، وقتا أطول مما نمكثه في الجملة الآخرة ، وإن اتفقت بينهما الكلمات ؛ إذ نطلب الفائدة في غير موطنها ، حتى إذا ما خاب مسعانا ، طلبناها في موطنها ، ولكن بعد فوات الأوان ! ولم تكن صعوبة الجملة الأولى إلا من ضعف الترتيب الذي هو أحد أعمال المُرِكِّ ، ولا سهولة الجملة الآخرة إلا من قوة الترتيب التي هي أحد أعمال  المُجْزِلِ " .

مِمّا جاءَ مِنْهُ حَسَنًا جَميلًا قَوْلُ الْخالِديِّ في صِفَةِ غُلامٍ لَه :

وَيَعْرِفُ الشِّعْرَ مِثْلَ مَعْرِفَتي وَهْوَ عَلى أَنْ يَزيدَ مُجْتَهِد

وَصَيْرَفيُّ الْقَريضِ وَزّانُ دينارِ الْمَعانِي الدِّقاقِ مُنْتَقِد

هكذا يعرف الأستاذ قيمة تلميذه ، ولا يكتمها تكريما وتشجيعا ، لا كمن يظن أن في جحد قيمة تلميذه ، تعليقا له واستبقاء ، إذن لَيَنْصَرِفَنَّ عنه أولَ ما يعرف في الآخرين قيمته !

قالوا : فَإِنْ كانَ رَجُلٌ لَيْسَ لَه بَأْسٌ ، وَلا يُقَدَّرُ فيهِ أَنَّه يَقْتُلُ ، فَقَتَلَ رَجُلًا ، وَأَرادَ الْمُخْبِرُ أَنْ يُخْبِرَ بِذلِكَ - فَإِنَّه يُقَدِّمُ ذِكْرَ الْقاتِلِ ، فَيَقولُ : قَتَلَ زَيْدٌ رَجُلًا ، ذاكَ لِأَنَّ الَّذي يَعْنيهِ وَيَعْنِي النّاسَ مِنْ شَأْنِ هذَا الْقَتْلِ ، طَرافَتُه وَمَوْضِعُ النُّدْرَةِ فيهِ .

نبه الشيخ محمد علي النجار على أن ليس في " الندرة " ضم النون .

وَقَعَ في ظُنونِ النّاسِ أَنَّه يَكْفي أَنْ يُقالَ : إِنَّه قُدِّمَ لِلْعِنايَةِ ، وَلِأَنَّ ذِكْرَه أَهَمُّ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُذْكَرَ مِنْ أَيْنَ كانَتْ تِلْكَ الْعِنايَةُ ، وَبِمَ كانَ أَهَمَّ ؟ وَلِتَخَيُّلِهِمْ ذلِكَ قَدْ صَغُرَ أَمْرُ التَّقْديمِ وَالتَّأْخيرِ في نُفوسِهِمْ .

كما وقع لتلامذة الإعدادي والثانوي من الزهد في جماليات الأسلوب ، لأنهم لا يفتشون عن شيء منها إلا قيل لهم : يُقَوِّي الْمَعْنى ، وَيُؤَكِّدُه ! ألا تعسا لهما تقوية وتأكيدا ، لا ينصران مُبينًا ، ولا يحميان عَييًّا !

أَرادَ أَنْ يُحَقِّقَ الْأَمْرَ وَيُؤَكِّدَه ( سليمى أزمعت بينا ) ، فَأَوْقَعَ ذِكْرَها في سَمْعِ الَّذي كَلَّمَ ابْتِداءً وَمِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ ، لِيَعْلَمَ قَبْلَ هذَا الْحَديثِ أَنَّه أَرادَها بِالْحَديثِ ، فَيَكونَ ذلِكَ أَبْعَدَ لَه مِنَ الشَّكِّ .

لهذا يعد هذا التركيب من التوكيد .

إِذا كانَ الْفِعْلُ فيما بَعْدَ هذِهِ الْواوِ الَّتي يُرادُ بِهَا الْحالُ مُضارِعًا ، لَمْ يَصْلُحْ إِلّا مَبْنيًّا عَلَى اسْمٍ كَقَوْلِكَ : رَأَيْتُه وَهُوَ يَكْتُبُ ، وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ يُمْلِي الْحَديثَ ، وَكَقَوْلِه :

تَمَزَّزْتُها وَالدّيكُ يَدْعو صَباحَه إِذا ما بَنو نَعْشٍ دَنَوْا فَتَصَوَّبوا

لَيْسَ يَصْلُحُ شَيْءٌ مِنْ ذلِكَ إِلّا عَلى ما تَراهُ ، لَوْ قُلْتَ - هكذا وكأن الصواب " وَلَوْ قُلْتَ " - : رَأَيْتُه وَيَكْتُبُ ، وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَيُمْلِي الْحَديثَ ، وَتَمَزَّزْتُها وَيَدْعُو الدّيكُ صَباحَه - لَمْ يَكْنُ شَيْئًا .

فما تقول في قول الحق - سبحانه وتعالى ! - : " لا يُحِبّونَكُمْ وَتُؤْمِنونَ بِالْكِتابِ كُلِّه " ، وقول عنترة : " عُلِّقْتُها عَرَضًا وَأَقْتُلُ قَوْمَها " ! قد وجهوهما بما لم تره أنت شيئا !

إِذا كانَ كَذلِكَ ( ألا يجوز أن يكون لنظم الكلام وترتيب أجزائه في الاستفهام معنى لا يكون له ذلك المعنى في الخبر ) كانَ مُحالًا أَنْ يَفْتَرِقَ الْحالُ بَيْنَ تَقْديمِ الِاسْمِ وَتَأْخيرِه في الِاسْتِفْهامِ ، فَيكونَ الْمَعْنى إِذا قُلْتَ : أَزَيْدٌ قامَ ، غَيْرَه إِذا قُلْتَ : أَقامَ زَيْدٌ - ثُمَّ لا يَكونَ هذا الِافْتِراقُ فِي الْخَبَرِ ، وَيَكونَ قَوْلُكَ : زَيْدٌ قامَ ، وَقامَ زَيْدٌ ، سَواءً ؛ ذاكَ لِأَنَّه يُؤَدّي إِلى أَنْ تَسْتَعْلِمَه أَمْرًا لا سَبيلَ فيهِ إِلى جَوابٍ ، وَأَنْ تَسْتَثْبِتَهُ الْمَعْنى عَلى وَجْهٍ لَيْسَ عِنْدَه عِبارَةٌ يُثْبِتُه لَكَ بِها عَلى ذلِكَ الْوَجْهِ !

ذكرت بهذا ما قاله زكي نجيب محمود ، من أَلّا فكرةَ من غير عبارة عنها ، بل وهم يتوهَّمه متوهِّمه !

قالَ شَيْخُنا - رَحِمَهُ اللّهُ ! - : وَلَمْ يُحْمَلِ الْبَيْتُ الْأَوَّلُ

( اعتاد قلبك من ليلى عوائده وهاج أهواءك المكنونة الطلل

ربع قواء أذاع المعصرات به وكل حيران سار ماؤه خضل )

عَلى أَنَّ الرَّبْعَ بَدَلٌ مِنَ الطَّلَلِ ، لِأَنَّ الرَّبْعَ أَكْثَرُ مِنَ الطَّلَلِ ، وَالشَّيْءُ يُبْدَلُ مِمّا هُوَ مِثْلُه أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ ، فَأَمَّا الشَّيْءُ مِنْ أَقَلَّ مِنْهُ فَفاسِدٌ لا يُتَصَوَّرُ . وَهذِه طَريقَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ لَهُمْ إِذا ذَكَرُوا الْمَنازِلَ .

أتُرى ذَكَرَ قوله لينطلق منه تبركا إلى مقالته في النظم ، أم لينبه على منتهى ما يستطيع النحويون !

إنه شيخه الوحيد أبو الحسن الفارسي ، الذي لم يدرس على غيره ، ولم يرحل في طلبه على عادة طلاب العلم ، وكأنما زَهَّدَه في الرحلة مُزَهِّدٌ - بل حضر الشيخ إلى التلميذ من غير ترتيب !

دِيارَ مَيَّةَ إِذْ مَيٌّ تُساعِفُنا وَلا يُرى مِثْلُها عُجْمٌ وَلا عَرَب

" وَلا يَرى مِثْلَها " !

ما أجرأ هذا التحريف !

رحمه الله أستاذنا ! سمعته بأذني هاتين ، يقول : الكتب ( كتبه ) كلها أخطاء ! وهو أشد من رأيتُ تحريا وأجرؤه على إحراق نُسَخ الكتاب الكثير الأخطاء مهما كثرت وكَلَّفَتْ ، فكيف بغيره ممن تطبع كتبهم في غيبتهم راضين فرحين !

دُرَّةُ ما أَنْصَفْتِني فِي الْهَوى وَلا رَحِمْتِ الْجَسَدَ الْمُنْضى

غَضْبى وَلا وَاللّهِ يا أَهْلَها لا أَطْعَمُ الْبارِدَ أَوْ تَرْضى

(...) وَالْمَقْصودُ قَوْلُه : غَضْبى ؛ وَذلِكَ لِأَنَّ التَّقْديرَ : هِيَ غَضْبى ، أَوْ غَضْبى هِيَ ، لا مَحالَةَ .

لكن إذا روينا قبله البيت الذي نحفظه :

" مَرَّتْ بِنا في قَرْطَقٍ أَخْضَرٍ يَعْشَقُ مِنْها بَعْضُها بَعْضا "

انسبكت فيه " غَضْبى " ، حالا من ضمير محبوبته المستتر في " مَرَّتْ " .

وَمِثالُه ( النوع الأول من القسم الخفي من حذف المفعول به ) قَوْلُ الْبُحْتُريِّ :

شَجْوُ حُسّادِه وَغَيْظُ عِداه أَنْ يَرى مُبْصِرٌ وَيَسْمَعَ واع

الْمَعْنى - لا مَحالَةَ - أَنْ يَرى مُبْصِرٌ مَحاسِنَه ، وَيَسْمَعَ واعٍ أَخْبارَه وَأَوْصافَه . وَلكِنَّكَ تَعْلَمُ عَلى ذلِكَ أَنَّه كَأَنَّه يَسْرِقُ عِلْمَ ذلِكَ مِنْ نَفْسِه ، وَيَدْفَعُ صورَتَه عَنْ وَهْمِه ، لِيَحْصُلَ لَه مَعْنًى شَريفٌ ، وَغَرَضٌ خاصٌّ ؛ وَذاك أَنَّه يَمْدَحُ خَليفَةً وَهُوَ الْمُعْتَزُّ ، وَيُعَرِّضُ بِخَليفَةٍ وَهُوَ الْمُسْتَعينُ ، فَأَرادَ أَنْ يَقولَ : إِنَّ مَحاسِنَ الْمُعْتَزِّ وَفَضائِلَهُ الْمَحاسِنُ وَالْفَضائِلُ يَكْفي فيها أَنْ يَقَعَ عَلَيْها بَصَرٌ وَيَعِيَها سَمْعٌ حَتّى يُعْلَمَ أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْخِلافَةِ وَالْفَرْدُ الْوَحيدُ الَّذي لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُنازِعَه مَرْتَبَتَها ؛ فَأَنْتَ تَرى حُسّادَه وَلَيْسَ شَيْءٌ أَشْجى لَهُمْ وَأَغْيَظَ مِنْ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ ههُنا مُبْصِرًا يَرى وَسامِعًا يَعي ، حَتّى لَيَتَمَنَّوْنَ أَلّا يَكونَ فِي الدُّنْيا مَنْ لَه عَيْنٌ يُبْصِرُ بِها ، وَأُذُنٌ يَعي بِها ، كَيْ يَخْفى مَكانُ اسْتِحْقاقِه لِشَرَفِ الْإِمامَةِ ، فَيَجِدوا بِذلِكَ سَبيلًا إِلى مُنازَعَتِه إِيّاها .

بل قل : يكفي فيها أن يكون للإنسان بصر وسمع ؛ فإنه إذا أبصر لم يبصر إلا آثار أياديه ، وإذا سمع لم يسمع إلا أخبارها !

فَاعْرِفْ هذِهِ النُّكْتَةَ ( وجه النوع الآخر من حذف المفعول المقصود قصده ) ؛ فَإِنَّكَ تَجِدُها في كَثيرٍ مِنْ هذَا الْفَنِّ مَضْمومَةً إِلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ ، الَّذي هُوَ تَوْفيرُ الْعِنايَةِ عَلى إِثْباتِ الْفِعْلِ ، وَالدَّلالَةُ عَلى أَنَّ الْقَصْدَ مِنْ ذِكْرِ الْفِعْلِ أَنْ تُثْبِتَه لِفاعِلِه ، لا أَنْ تُعْلِمَ الْتِباسَه بِمَفْعولِه .

فالمفعول هنا مقصود قصده - وإن كان حذف للمعاني التي فهمها الشيخ - وهناك غير مقصود ، للمعاني التي فهمها .