قراءة في ديوان ترانيم على وتر الألم
قراءة نقدية في
ديوان ترانيم على وتر الألم
للشاعرة: إيمان بدران
فراس حج محمد
صيف 2008
يحاول كاتب هذه السطور أن يقف متأملا مشهدا شعريا غائما، ليس فيه ما يُشعر ببزوغ فجر شعر حقيقي، يفرض على الآخرين من نقاد ودارسين أن يتابعوا وينقدوا ما يقدم من إنجازات شعرية، وذلك في رأيي عائد إلى عدة أسباب، أكتفي بالإشارة إلى واحد منها، وهو الضعف الذي تصوغ فيه تلك الآدابُ أفكارها، وحتى لا أكون متجنيا في قراءتي النقدية هذه، سأؤجل النطق بالحكم على ديوان الشاعرة إيمان بدران " ترانيم على وتر الألم" إلى ما بعد إجالة النظر في قصائد الديوان، لنرى ما طبيعة هذا الشعر الفنية، وما مدى التوفيق أو عدمه في صياغة المبنى والمعنى الشعري.
الديوان نظرة عامة:
يقع الديوان في(104) صفحات من القطع المتوسط موزعة على صفحة العنوان والإهداء وشكر وتقدير، ومقدمة نقدية احتفالية بالشاعرة وبالديوان، كتبها أحمد الهواس، وهو، كما يظهر في التذييل، شاعر وناقد سوري عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، أما الشعر فيبدأ من الصفحة (13- 99)، من ثّمَّ سيرة ذاتية مختصرة للشاعرة إيمان بدران، وأخيرا فهرس للقصائد البالغ عددها (34)، جاءت (30) قصيدة على النمط التقليدي من شعر الشطرين وأربع قصائد من الشعر الحر.
وقد استخدمت الشاعرة البحر البسيط في (5) قصائد، والهزج في قصيدتين، والكامل في (21) قصيدة، أما السريع والوافر والمتقارب والرمل والمحدث فكان حظ كل بحر منها قصيدة واحدة، وهذا يدل على التنوع الإيقاعي في موسيقى الديوان.
وأما موضوعات الديوان، فتجولت الشاعرة في حدائق الذات كثيرا، ودخلت ساحات المقاومة في قصائد، معبرة عن موضوعاتها بتلقائية وغنائية وكثير من الانسيابية، ويلاحظ القارئ في هذا الامتداد الشعري تجربة شعرية تتراوح ما بين السبك الجيد والعناية اللفظية والمعنوية وبين التنكب عن طريق الشعر، والابتعاد قليلا أو كثيرا عن متطلبات الشعر الجيد، فقصائد الديوان متفاوتة السبك، فيها إشراقات شعرية تبشر بولادة شاعرة، إن اعتنت بتجربتها الشعرية، فإنها ستصبح مستوية على سوقها لتعجب النقاد والأدباء ومتذوقي الشعر.
وفي هذه القراءة الخاصة لن أقف عند مواطن تلك الإشراقات، واعدا الشاعرة بقراءة أخرى مخصصة لهذا الغرض، مكتفيا هنا بالإشارة إلى بعض الملحوظات النقدية التي تعد من باب ما يمكن إصلاحه وتلافيه مع بعض المراجعة والتقويم والتجويد وأخذ الشعر بشيء من التأمل والتدبر، ومن خلال القراءة الأولى
للديوان وجدت أن الشاعرة قد وقعت في أخطاء نحوية وأخرى عروضية، وكذلك تنكبت الطريق في رسم الصورة الشعرية، وفي التعبير عن بعض المعاني، وأخيرا ما وقعت فيه هذه الطبعة من أخطاء إملائية ومطبعية.
في النحو والتركيب:
وأول ما أشير إليه ما وقعت فيه الشاعرة من أخطاء نحوية تركيبية، ناتجة إما عن عدم معرفتها بقواعد العربية وإما اضطرها الوزن لمثل تلك الهنات النحوية، ومهما كانت أسباب ذلك، فلا عذر للشاعر أن يكسر قانون اللغة بحجة الضرورة الشعرية، وما قول" يحق للشاعر ما لا يحق لغيره" إلا ضرب من الهروب من الاستحقاقات الفنية للصياغة العالية في فن الشعر الجيد، عدا أن الضرورات الشعرية مضبوطة في مواقع معينة وآراء معينة ومسائل خاصة، قد أفاض في بحثها كثيرون، ومن شاء فليرجع إلى كتاب ابن عصفور "الضرائر الشعرية".
يبدو أن الشاعرة غير عارفة بمواطن جزم الفعل المضارع، فقد رفعته وحقه الجزم في أكثر من بيت، ولنقرأ لها هذه الأبيات:
مـهـمـا يـلفقُ كاذب فاهرع بجندك ها قد جاء واكمهم مـهـما يسودُ الليل في ظلماته | ومنافقفـي الناس ينشرُ ريبة إن جـاء قسورة تستنفرُ الحمرُ لا بـد يـأتـي الفجر في عقباهُ | وضلالا
فقد رفعت الشاعرة الأفعال المضارعة المجزومة في أسلوب الشرط الجازم في الأبيات السابقة (يلفقُ، ينشرُ، تستنفرُ، يسودُ)، ولا شك في أن رفعها للفعل المضارع في البيت الأول والرابع كان لضرورة استقامة الوزن، أما البيتين الثاني والثالث فلا حرج على الشاعرة لو جزمت الفعل (تستنفر)، فإن الوزن لن يختل، وستكون كما يلي:
فاهرع بجندك ها قد جاء واكمهم إن جاء قسورة تستنفرِ الحمرُ
فالقواعد النحوية توفر حلا لمعضلتها دون الإخلال بالوزن، ف ( تستنفرِ) فعل مضارع مجزوم، وعلامة جزمه السكون المبدلة كسرة منعا لالتقاء الساكنين.
أما وقد وجدنا حلا لبعض تلك الهنات، فمن أين سنوفر حلا للبيتين الآخرين!! وهنا يحق لنا أن نتساءل: أيحق للشاعر أن يضحي بالقاعدة النحوية من أجل الشعر، وما هو هذا الشعر الذي حطم اللغة؟ أتلام اللغة والشعر أم أيلام الشاعر؟؟
وإذا ما تجاوزنا الفعل المضارع، نجد أن الشاعرة قد وقعت في فخ المثنى باضطرار القافية لترفع المثنى، وكان حقه الجر بعلامة الجر الياء:
فالحب ليس القول منظوما غدا للقد معزوفا وللعينانِ
فلا يخفى كم يحدث الالتزام بقيد اللغة من خلل عروضي وكسر للرتابة الموسيقية، ولكن لا عذر للشاعر، فالشاعر ذو الحنكة اللغوية لا يقع بمثل هذا!!
ومما وقعت فيه الشاعرة من تنكبات إعرابية جرها ما حقه الرفع:
كالصخرة الصماء ثبتها الثرى آنَ الفراق فما برحت مكاني
ولعله خطأ طباعي، ف(الفراق) فاعل من حقه الرفع ككل فاعل أقرت اللغة العربية برفعه!
وأحيانا تجد الشاعر ترفع ما حقه النصب، كقولها رافعة الفعل المضارع بعد حتى:
قد ماد قلبي ما له سكنٌ حتى إلهي بعفوكم يصلُ
وهناك أخطاء تركيبية، عائدة إلى استعمال الضمير المتصل، حيث قررت قواعد أسلفنا العرب أن الضمير لا بد له من راجع يعود إليه إلا في مواضع خاصة ، ولذلك قالوا: والضمير المتصل يعود على، فهنا نرى أن الضمير، إما لا يعود على شيء محدد، كما في البيت التالي:
في طيبةٍ قبر الرسول يصيحُ بي من ذا سيكسر قيده .... مسراهُ
فالضمير في (قيده) وفي (مسراه) على أي شيء يعود؟ هل يعود على الرسول، بمعنى قيد الرسول؟ أم سيعود على المسرى، قيد المسرى، و الهاء في (مسراه) هل تعود على الرسول، وفي كل ذلك نظر؛ فلا يصح بتاتا من ناحية المعنى أن يعود الضمير في قيده على الرسول، وذلك للخلل الحاصل في المعنى، وأما أن يعود الضمير على المسرى فهذا خلل تركيبي، وأما الضمير في مسراه فكيف سيصح أن يعود على الرسول، والرسول جاءت مضافا إليه، بمعنى أنها ليست مقصودة بالحكم بل المقصود هو (قبر) فجاءت كلمة الرسول لتعرف كلمة (قبر)، فلست مستقلة في المعنى بذاتها، فلا يصح أن تعود عليها إلا تأويلا وتمحلا.
ويشبه ذلك في عدم وضوح مرجع الضمير ما جاء في البيت التالي:
أين الجحافل أين جند محمد أين الأسود لهم تحن رباهُ
فالهاء في (رباه) علام تعود؟ لست قادرا على التحديد، وأقرب ما قد تدافع به الشاعرة قولها: إن الهاء تعود على" قدساه" أو المسرى أو ما شابه، وهذا أيضا تمحل وعدم استقامة في التعليل لاختلافٍ في الضمائر ومراجعها في الأبيات السابقة واللاحقة في القصيدة، مما يعني أن يكون لكل ضمير مرجع واضح من خلال النص والسياق الذي وضع فيه.
وبالطريقة نفسها تبين خلل مرجع الضمير المتصل في:
حلم وصبر في الخطوب كأنها في الحادثات السود بنت الضيغم
فالهاء في (كأنها)، أين مرجعها؟ هل تعود على (الخطوب)؟ وإن كان كذلك كيف يستقيم المعنى؟ وهل تعود على (حلم وصبر)، فكيف يكونان معا (بنت الضيغم) الخلل واضح بين.
وفي باب نحوي آخر، وله علاقة بالتركيب، تعلق شبه الجملة، فقد ورد في الديوان هذا البيت:
غطِّ القبيح بفعل خي ر في الحياة وفي الممات
فتعلق شبه الجملة (في الحياة وفي الممات) له احتمالان: الأول أن تكون متعلقة بالمصدر (فعْل)، وهو مصدر عامل، تتعلق فيه شبه الجملة مثله في ذلك مثل الفعل، وهذا سيحدث خللا في المعنى كبيرا، إذ كيف ستفعل الخير في الحياة وفي الممات!! وأما إذا ما تعلقت شبه الجملة بالفعل (غط)، فإن ذلك يعني أن فعل الخيرات سيغطي القبيح في حياتك وفي مماتك، وهذا معنى مقبول، على ما يبدو فيه من الضعف والركاكة.
ويبقى لدي مسألتان في باب النحو؛ الأولى: تتعلق باستخدام الظرف(قط)، وقد استخدمته الشاعرة في موقع الظرف(أبدا)؛ وذلك في سياق جملة شرطية، ومعروف أن الجملة الشرطية جملة استقبال في الزمن، بمعنى أن تحقق فعل الشرط وجوابه يحدث في المستقبل، مما يستدعي أن تستخدم الشاعرة (أبدا)، وذلك في قولها:
بيض الوجوه رجال في الوغى ثبتٌ من قط هاجمهم لا بد يندحر
وأما المسألة الثانية في باب القواعد النحوية، هو استخدام اسم المفعول (المصون) مذكرا مع أن حقه التأنيث وذلك في البيت الآتي:
وأنا العفيفة والمصون بخدرها وأنا المليحة من بلاد الشامِ
فمن المدرك أنها لو أنثت اسم المفعول لانكسر الوزن، ولكن لا يحق لنا مخالفة القواعد لتستقيم أوزاننا، بل يجب أن نجري أشعارنا على تلك القواعد شئنا أم أبينا، وإلا لكان الضعف في النظم مكسبنا وخسرنا ألق الشعر.
في العروض وقيد القافية:
جاء في تعريف الشعر أنه: "كلام موزون مقفى دال على معنى" ، وهذا يفرض أن للشعر مقومات، وهي: الوزن والقافية والمعنى، وأتوقف هنا عند ما وقعت فيه الشاعرة من خلل في العروض، ثم أعرج قليلا على ما في القافية من هنات تثلم من قيمة الشعر الفنية.
ولنبدأ بتصفح الديوان، ولنقرأ البيت التالي:
فنطقتها لفظا وقلبك عامر ألا إله سوى الرحيم تعالى
وعلى الرغم من كسر الوزن في عجز البيت في التفعيلة الأولى، إلا أن البيت يعتريه خلل في التركيب والمعنى، فالشاعرة تقصد أنه لا إله سوى الله، ولكن اللفظ لا يدل على ذلك، فكانت(ألا) أداة استفتاح، وتقدير الكلام: ألا، إله سوى الرحيم تعالى، وكأنه يوجد إله غير الله! وبالتأكيد الشاعرة لا تقصد ذلك، ويبدو لي أنه خطأ مطبعي، وأظن أن البيت هو:
فنطقتها لفظا وقلبك عامر فلا إله سوى الرحيم تعالى
وإن تخلص البيت من إشكالية المعنى، فإن الكسر العروضي لا يزال قائما في التفعيلة الأولى من العجز المتمثلة في ( فلا إلا) (ب ب ) هي تفعيلة مُتَفْعِلُنْ ليست تفعيلة فرعية من تفاعيل البحر الكامل التي جاءت عليه القصيدة.
ولنتبين الآن هذا البيت:
والنفي في مرج الزهور سياحة إذ أبعدوك فعدت ميمونا
يبدو لك أخي القارئ الخلل العروضي واضحا في عجز البيت، فالتفعيلة الثالثة ناقصة:
إذ أبعدو ك فعدت مي مونا
ب ب ب ب
مُتْفاعلنْ ُمتَفاعلنْ مُتْفا
فلعل كلمة سقطت سهوا من النص، ولو افترضنا هذا وتوقعنا تلك الكلمة، وقلنا:
والنفي في مرج الزهور سياحة إذ أبعدوك فعدت منه ميمونا
لاستقام الوزن، وصح العروض.
وللعروض قوانينه، ولكن الشاعرة تأبى الالتزام بها، فتتنكب تلك القواعد في مثل قولها:
إن كان قلبي على أيديهم يفنى عن الجناة عفا إذ وصلهم سلفا
فتفعيلة الضرب في كلمة يفنى هي( ) فَعْلنْ، وهي إن كانت صورة فرعية للتفعيلة الرئيسية في البسيط، إلا أنها لا تكون ضربا إلا في البيت الأول عندما يكون مصرعا، والأصل أن تأتي تفعيلة (ب ب ) فَعِلنْ، وقد تكرر هذا الخطأ العروضي في قولها:
لا يعرف الحب إلا كل من قاسى منه الفؤاد فقام الليل يقظانا
وتختلط الأمور فيضطرب الوزن، ويصبح البيت مزيجا من بحرين عروضيين، فترى الشاعرة تجعل شطرا من البيت على الكامل والثاني على البسيط، دون أن تتنبه لمثل هذا الخلل الموسيقي الثالم لحسن الشعر وجودته، ولننظر إلى هذين البيتين:
من يمسح الدمع المخضب بالدما أين الضمائر والأخلاق والمثلُ
الكامل البسيط
فغدوت في الجنات نسرا خالدا بين القصور وفي خضر البساتين
الكامل البسيط
هذا هو حال الموسيقى في الشعر التقليدي، أما ما وقع في الديوان من إخلالات عروضية في الشعر الحر فقليل، ولا يتجاوز الموقعين؛ الأول: يتمثل في عدم انسياب الموسيقى مع الكلمات، فتشعر بالنقص الإيقاعي، على الرغم أنه لا خلل في التفاعيل، وذلك في:
وأخلع ثوب الوعظ بعيدا...
مكرك في عينيك
مُعَلَّمْ
فالكلمة الأخيرة تكسر الإيقاع بشكل واضح، وأما الموقع الثاني، فإن فيه خللا عروضيا في تفعيلات البحر الكامل، وذلك في:
أوَ ليس بين العُرْبِ يا وطني
وما بيننا
نسب ودمْ
فالخلل العروضي واضح في كلمة (بيننا)، فهي زائدة وزنا على وزن البحر الكامل، فأين موهبة الشعر التي تجعل الكلمات على قدر الوزن على قدر المعاني؟
وفي مسألة العروض لا بد لي من الإشارة إلى أن هناك مواقعَ كان بإمكان الشاعرة أن تتجنب الوقوع فيها، فأمرها سهل ميسور، وهذه الأبيات هي:
أطوّف في ربى الجنات عدن ظلها رطبُ
فوجود حرف التاء في الصدر أحدث خللا موسيقيا في العجز، وعليه يجب أن يكون البيت كما يلي:
أطوّف في ربى الجنا تِ عدن ظلها رطبُ
وثاني تلك المواطن، قولها:
أهد الجدارا وأحمي الديارا أصد العداةَ بنار الضرامْ
فالبيت على المتقارب، فلو كانت تلك الكلمات بدون ألف لجاز ذلك ولم يحدث أي خلل في الموسيقى الشعرية، عدا أن ألف الإطلاق ليس موقعها هنا، وكذلك لا يصح اعتبارها ألف تنوين النصب لأنه لا يجوز اجتماع التعريف بأل والتنوين، ماذا على الشاعرة لو قالت:
أهد الجدار وأحمي الديار أصد العداةَ بنار الضرامْ
وفي القصيدة السابقة، يتكرر الخطأ نفسه، ولكن بتسكين آخر كلمة في الصدر، ولا داعيَ لذلك، فيصح وزنا وموسيقى أن ينتهي الصدر بتفعيلة ( فعولُ):
فمأواك قلبيَ ذاكَ الجريحْ وإن قيل بَوْحي بهذا حرامْ
فحق كلمة (الجريح) الرفع، فلا ضرر ولا ضرار في رفعها!!
هذا هو الجزء الأول من تعريف الشعر، أو المقوم الأول من مقومات الشعر الفنية، وقد برز الضعف جليا في توظيفه في أشعار هذا الديوان، فإذا ما تعاضد هذا الضعف وأتلف مع ضعف في توظيف القافية أو ضعف في استخدامها، وهي المقوم الثاني من مقومات الشعر، عندها ماذا يبقى من الشعر؟؟
ومع استعراض القافية في الديوان، يظهر أن القافية بدت في أحايين كثيرة قلقة تشكو محلها، لم يؤت بالكلمة إلا لإتمام الوزن وختم البيت، مع الابتعاد عن التأويل والتمحل في إيجاد علاقة ما لتسويغ القافية وتبرير وجودها المعنوي، انظر مثلا إلى البيت التالي:
وترفعي أنت العزيزة في الورى تيهي بنهج الصالحين دلالا
فكلمة( دلالا) التي ختم بها البيت، لا تتناسب والمعنى؛ فالمقام مقامُ عزة وكبرياء وتيه وصلابة، ولا تكون هذه الخاتمة اللينة الأنثوية التي أبهتت المعنى وأودت به!
وأحيانا تلجأ الشاعرة إلى ألفاظ توظفها في الموقع الخطأ؛ لأن دلالات تلك الألفاظ لا تتلاءم والمعنى ولا تدل عليه، لا مجازا ولا حقيقة:
فارقت أهلي إذ تلقاني الثرى وعدمت صحبي حانيا أو قانيا
ما هو القاني؟ وما معناه؟ وهل معناه اللغوي يسمح لأن يكون قافية ، وهذا عينه ما وقعت فيه في قولها:
واغنم قبيل السقم نعمة واهبٍ كنت الصحيح بفضله والعافيا
هل تقصد الشاعرة بالعافيا المعنى اللغوي ؟ وإن أرادت أيا كان من معانيها اللغوية هل يناسب ذلك ما يقتضيه المعنى؟ أم أنها أرادت العافية، فأبدلت تاء التأنيث ألفا، لا شك في أن التوفيق جانب القافية في هذا الموضع.
وشبيه بذلك في عدم التوفيق، ما اضطرت إليه الشاعرة في قولها:
والجسم أنحله الفراق وعشقه حتى تراءى كالخيال الداني
إني أحبكمُ ولكن حيلتي تاهت توارت في ذرى النسيانِ
تأمل كلمتي (الداني، والنسيان)، واحكم على مدى استتباب أمن المعنى بهما!!
وتلجأ أحيانا إلى التكرار في الألفاظ التي تؤدي معنى سياقيا واحدا، وما ذاك إلا لتبحث عن القافية، فتأتي القافية مستكرهة نافرة، اقرأ لها إن شئت:
ولقد منعنا قوتنا ورواتبا حتى منعنا المُد والدينارا
فلفظ الدينار تحصيل حاصل في كلمة الرواتب، وفي ظني لا تضيف جديدا للمعنى المقصود، ولكنه قيد القافية الذي أغل شعر الشاعرة، وحد من تلقائيته وجماله.
ويلاحظ الدارس أحيانا أن اللغة الشعرية تفرض على الشاعرة اللجوء إلى غريب معاني الألفاظ لتستطيع إتمام البيت، وإن كانت هذه الكلمة عربية أصيلة، إلا أنها ليست ابنة عصرها، فلا يكفي للفظ أن يكون فصيحا، بل لا بد أن يكون مألوفا، وهذا ما كان من استخدام الشاعرة للفظ (الرمام) بمعنى الصلاح في:
هذي بلادي في الفؤاد مقامها هلا يعاد لها الحمى برمامِ
لقد استعبدت القافية الشاعرةَ، واعتقلت لسانها، وإن دل ذلك على شيء إنما يدل على تواضع الحصيلة اللغوية والمعرفة بأساليب العربية، وقلة المحصول من ألفاظ اللغة، فانعدم حسن التوظيف للألفاظ في مواطن كثيرة، مما انعكس سلبيا على أشعار الديوان، وأدى إلى نتائج وخيمة، جعل الشاعرة التي بدأت بداية معقولة تتراجع القهقرى عند نهاية البيت، لا سيما إذا كان هذا في مطلع القصيدة:
الدار داري والمقام مقامي وأنا التي قد أردفتك سهامي
ما علاقة السهام؟ بله ما علاقة العجز بالصدر؟ أم أنه صف للكلام لتكون النتيجة بيتا من ضعيف الشعر، أوله لا علاقة له بآخره.
ويزداد أثر القافية سوءا في إضعاف أشعار هذا الديوان، عندما تضطرها القافية إلى القول:
أجلب برجلك ولتصحب دروعهمُ والقاصفات ونار الحقد والشررُ
انظر إلى كلمة (الشرر) كيف أضعفت المعنى والتركيب كليهما، قدمت ما هو قوي، وانتهت إلى ما هو صغير وضعيف بالنسبة إلى ما سبقه، فبعد القاصفات والنار يكون الشرر، إنه لعمرك إضعاف للمتن والسبك والرؤى!!
والشيء نفسه ما كان من أمر هذا البيت:
إني سأذكر والذكرى بها حزَنٌ شبل العرين وصياد الثعابينِ
فبعد أن قدمت وصفا قويا تراجعت ووصفت الشهيد بأنه صياد الثعابين. فهذا ما يعد من غريب الوصف، ولا يحمد مثله ابتكاره، صورتان: صورة جليلة، وصورة غريبة، كان هاجس القافية هنا معول هدم للبناء الشعري.
وهنا أيضا، في الديوان، في قصيدة سلسة وأنشودة خفيفة، ذات وزن سريع، مناسب للطفولة التي تجسدت في المخاطب "ابنتي"، ولكن يا ترى ماذا حدث في أحد مقاطع تلك الأنشودة:
عودي سريعا يا ابنتي عودي لتزهر دنيتي
عودي لتحيا مهجتي فالقلب مقتول صريع
ماذا دهاها، لتختم المقطع بهذين الخبرين، اللذين قضى المقطع نحبه بهما(مقتول، صريع)، كلمتان قويتان حربيتان مستنفرتان لا تناسبان الطفولة ورجاء الحديث في المقطع والقصيدة.
الصورة الشعرية:
يطول بحث الصورة بشكل عام دون تحديد صفة لها تبين مقصودها، فهناك الصورة اللفظية، وصورة التركيب، والصورة البلاغية ، ومن هذا النوع تجد الصورة البيانية، وقد يكون اصطلاح الصورة البلاغية أو الصيغة البلاغية أشمل هذه الاصطلاحات ، وقد عرفها مجدي وهبي في كتابه (معجم مصطلحات الأدب) بأنها:" كل حيلة لغوية يراد بها المعنى البعيد لا القريب للألفاظ، أو يغير فيه التركيب العادي لكلمات الجملة أو لحروف الكلمة، أو يحل فيها معنى مجازي محل معنى حقيقي، أو يثار فيها خيال السامع بالتكنية عن معان يستلزمها المعنى المألوف للفظ، أو ترتب فيها الألفاظ، أو يعاد ترتيبها لتحسين أسلوب الكلام أو زيادة تأثيره في نفس القارئ أو السامع" .
وبعبارة أوجز فإن الصورة البلاغية للكلام تعني: العناصر البلاغية الموظفة في الجملة لتحسينها ولزيادة التأثير في نفس المتلقي، وعليه لا بد أن تكون هذه الصورة حسنة مؤثرة، تؤدي إلى رسم صورة ابتكارية جميلة غير مستنفرة أو مستكرهة لتصل إلى الهدف منها وهو التأثير في نفس المتلقي، هكذا يجب أن تكون الصورة في كلام الأدب، فهل يا ترى كانت الصورة في ديوان (ترانيم على وتر الألم) قريبة من ذلك؟
وعلى الرغم مما يثار حول تلك الصورة، إلا أن في الديوان ملامح إشراقية لصورة بلاغية، تناثرت في جسد الديوان، وإن شئت أن تقرأ:
والعلم أثمر في القلوب هداية والدين زاد على الجمال جمالا
وتجد ذلك أيضا في تغنيها بعقيدتها وبإسلامها:
حبي الإله وعفتي وعقيدتي غيث تنزل من هطول غمام
فيها السعادة إن أردت سعادة وبها أنال سكينتي وسلامي
فيما سبق من أبيات ترى السلاسة في الكلام وحسن السبك والمعاني الشريفة، ففي البيت الأول تستخدم الشاعر الاستعارة المكنية للتعبير عن الفكرة، وتستخدم كذلك في البيتين التشبيه البليغ، وذلك في توافق تام ما بين طرفي الصورة البلاغية.
وفي ظني تتجلى براعة الصورة في هذا المقطع، من قصيدة بعنوان "نسيم الشوق"، تخاطب الشاعرة أمها قائلة:
وأنت الزهر إذ يلقى سبيلا نحو يمناكِ
يباهي الورد مسرورا سعيدا حين يهداكِ
إنه كلام جميل، في معنى جميل، بتصوير جميل، سلس، كثير الرواء، وإن كانت الصورة غير مبتكرة إلا أنها جاءت مؤثرة وذات دلالات ضافية.
القلق في تشكيل الصورة:
وعلى الرغم مما سبق، فإنه يوجد خلل في تأثيث الصورة البلاغية، مما انعكس سلبا على تلقي أشعار الديوان، فأضعفت من تأثير الصورة، وأصبحت خاوية من الهدف، ولنقرأ معا هذين البيتين:
حلقي فوق الغيوم السا بحات رقت صعودا
وانشري إلفا وودا دثري قلبا وجيدا
تخاطب الشاعرة في البيتين السابقين الشمس لتنشر خيوطها ودا وإلفا لتدثر القلب والجيد! وهنا السؤال، ما علاقة الجيد برسم الصورة، كيف اجتمع القلب والجيد في صورة واحدة، والمعنى لا يتطلب ذلك، إنه ما يعرف في البلاغة بعدم مراعاة النظير، لقد جمعت الصورة شيئين لا علاقة بينهما، ولم تحسن الصورة إيجاد تلك العلاقة، فكانت صورة مثقلة بأعبائها الوظيفية، عديمة التأثير، وكانت القافية معول هدم للصورة، فقضت على المعمار الفني وذهبت بألقه.
ويلاحظ القارئ أحيانا أن الشاعرة يجانبها التوفيق في إيجاد حجر الزاوية للصورة الشعرية، ويمكن أن أقدم هذا المثال:
قد كان يجمعنا ظلال مودة في الله ترقى للسحاب فتمطرُ
تبدأ الشاعرة بخط عناصر الصورة من نقطة مهمة، ولكنها لا تنتهي إلى النقطة المحمودة، فكل عناصر الصورة جيدة متناسقة تعبر عن المعنى حتى إذا وصلت إلى خاتمة الصورة، صارت الصورة مشوهة، وفقدت كثيرا من تأثيرها، فليس من صالح الصورة البلاغية أن تؤطر بتعبير "تمطر"؛ لما لهذا التعبير من دلالة قرآنية وحقيقة لغوية، مفادها أن هذا اللفظ لم يوظف في اللغة القرآنية إلا للدلالة على العذاب، والموقف الذي تعبر عنه الشاعرة ليس موقف عذاب!! فما أجمل لو قالت الشاعرة:
قد كان يجمعنا ظلال مودة في الله ترقى بالسعادة تُنْشَرُ
وتتابع الشاعرة رسم صورها الغريبة، فتلعثمها بالكلام، ناتج عن مصيبة الفراق، الذي عبرت عنها بقولها:
وتثاقل النطق الفصيح تلعثما قد ألجمت خيل الفراق لساني
فليس المهم أن نصنع صورة، ولكن الأهم أن تعبر الصورة في تشكلها عن ذوق أدبي رفيع، يُعلي من قيمة العمل الأدبي لا أن يرديه، فلاحظوا معي أن تعبير "خيل الفراق" غير مؤثر وغير محرك للنفس، بل هو غريب مستهجن، فماذا على الشاعرة لو قالت" غصص الفراق" ، أظن أنها لو قالت ذلك لم تخسر شيئا، بل كسبت صورة شعرية معبرة ودالة.
وفي هذا السياق أود أن أشير إلى أمر مهم، وهو حسن توظيف الأساطير القديمة، وجعلها خادمة للمعاني بطريقة شبيهة بالرمز للدلالة غير المباشرة، وقد خلا الديوان من هذا التوظيف عدا موقع واحد، جاء توظيف الأسطورة فيه مقحما لا يخدم النص:
حب عشتار المغنى من أساطير غرودا
وامنحي روح الحياة بعدما ولت جحودا
وقفات مع المعنى:
يوظف الشاعر كل العناصر الشكلية السابقة وغيرها ليخدم هدفا واحدا ألا وهو المعنى، ليكون أكثر تأثيرا في المتلقي، فإن قصرت عناصر الشكل عن بلوغ هذا المرام بقي ما كتبه في مهب الريح معرضا لسهام من النقد حادة وجارحة، ومن خلال هذه القراءة في مساحات (ترانيم على وتر الألم) تصدمك بعض العبارات التي لم تكن في صالح المعنى.
نقرأ للشاعرة قصيدة بعنوان "معذرة"، ونراها تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يخالف تعاليمه عليه السلام؛ فلا نشكو لغير الله، وما معنى الشكوى للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ليس بحاضر بين أظهرنا؟ فليس هناك من وجه بلاغي أو معنوي في الشكوى للرسول الكريم عليه السلام:
إليك أشكو رسول الله في زمن عز النصير به والحق معتقلُ
وتدور اللغة حول نفسها في موطن آخر من القصيدة:
من ذا يسل سيوف الهند مشرعة كالسابقين سيوف الحق قد حملوا
لعل الشاعرة لم تسمع بتصحيح الرسول صلى الله عليه وسلم لكعب بن زهير في بيته المشهور:
إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الهند مسلول
فقال له الرسول الكريم: سيوف الله.
ولتتكامل الصورة البلاغية بصورة مؤثرة، ونتجنب تكرار الألفاظ، يصح في الشعر أن نقول في تصويب معنى البيت:
من ذا يسل سيوف الله مشرعة كالسابقين لواء الحق قد حملوا
أما في قصيدة "عصف الفراق" فإن الشاعرة تطالب المخاطب (ابنتي) بعدم الجزع والصبر على ألم الفراق، وأن تتجمل بالصبر، وتعزيها بأن الدنيا هكذا، فيها ما يفرح وما يؤلم، فلنتجمل بالصبر على مكارهها، ولكن الشاعرة تنسى ما طالبت به ابنتها في بداية القصيدة لتعبر في نهاية القصيدة عن حزنها إلى أقصى مدى ممكن:
تالله أدميت الفؤاد بحرقة فغدا رمادا قلبيَ المتقطعُ
والأعجب من ذلك كله ختم القصيدة ببيتين، يحس القارئ أنهما ليسا بذات علاقة في القصيدة:
لما أشحت الوجه عن نظراته ومضيتِ عني...يا بنية فارجعي!
فغدا سأمسحها الدموع بنيتي ويضمك الصدر الحنونُ وأضلعي
ومن أمثلة ضعف المعنى نجد أن المعنى غير مكتمل في بعض أبيات الشاعرة؛ لفقدان التركيب عنصرا من عناصره:
متى يا حبية شوقي بدا بهمس النسيم ونوح الحمامْ
فإن يعزلوني أيا غايتي لأنت الحبيبة أنت المرامْ
فعلى الرغم من الركاكة الظاهرة في سبك هذين البيتين، إلا أن المعنى في البيت الأول ليس كاملا؛ فإن كانت متى شرطية فأين جواب الشرط؟ فإن البيت الثاني لا يصلح في المعنى ليكون جوابا للشرط.
وأحيانا تكون خاتمة القصيدة غير موفقة بحال من الأحوال، ولعل أهمية الخاتمة توازي بداية القصيدة لإثارة القارئ والتأثير فيه، فبعد أن قدمت الشاعرة/ المعلمة نصائحها لإحدى طالباتها، تختم بقولها:
فإليك أهدي الشعر عقد نصائح فلتقبلي مني النصائح واسلمي
فالناصح الأمين – يا ابنة القرآن- لا يفرض نصائحه على أحد فرضا، بل يترفق بالآخرين ليأخذوا عنه، ويتقبلوا نصائحه.
هذا أمرٌ، وهناك أمور، تحتاج لمراجعة، وخاصة في التعابير الشجية التي تفرض حساسية شعرية مرهفة، لاسيما في مخاطبة أقرب الناس على الشاعرة، ففي قصيدة "نسيم الشوق" المهداة لأمها تقع الشاعرة- من غير قصد- في أنانية تعبيرية، كان بالإمكان تجاوزها:
ودمت في مدى عمري ورب الكون يرعاكِ
لا شك في أن هذه الدعوة غير موفقة؛ إذ إنها تدعو لها بالسلامة على مدى عمرها هي، وضمير المتكلم(الياء) يعود على الشاعرة، فليس هكذا يدعى للأم يا ابنة القرآن!!
وفي الدائرة نفسها، في قصيدة موجهة لأبيها بعنوان "أدامك الله"، تقول:
وتكاثرت منك النصائح جمةً فغدوتُ أحسب لاحظيك جوابا
إنها تضيق ذرعا بنصائح أبيها، حتى صارت ترى كل نظرة من أبيها نصيحة أو جوابا أو تعليقا على أمر قدمته، فتراها تقول "تكاثرت منك النصائح" فالتعبير ب " تكاثرت" ليس ذا وقع إيجابي مهما حاولنا فهم طيب نية الشاعرة.
الأخطاء الإملائية والمطبعية:
وأخيرا، أشير إلى أن هذه الطبعة من الديوان قد اقترفت مجموعة من الأخطاء الإملائية والمطبعية، لا بد من الإشارة إليها، وقد يكون بعض هذه الأخطاء ناشئا عن الخطأ في الطباعة، ومن يقرأ الديوان لا بد أنه ملاحظ هذه الأخطاء، لا أريد سردها هنا، مكتفيا بهذه الإشارة.
وبعد هذه الرحلة بين دفتي ديوان " ترانيم على وتر الألم"، وما استعرضته من نواح شكلية ومعنوية، لعلني أستطيع بعدها أن أقدم حكما نقديا موضوعيا غير مبال وغير خجول، فإذا كان هذا الديوان يعاني من ضعف في الرتابة الموسيقية، تمثلت في إخلالات الوزن والقافية، وضعف في البناء اللغوي، تمثل في ضعف السبك للجملة في نظامها النحوي، وإذا كانت الصورة تشكو من تشوهات خَلْقية بلاغية، فماذا سيكون حكم الناقد على هذا الديوان بعد كل هذا؟
أعزائي القراء رفقا بالقوارير!!!