بين سولجينتسين ورشيد ميموني
عبد العزيز كحيل
توفي منذ أيام الأديب الروسي العالمي ألكسندر سولجنتسين،فظهر بكل جلاء التقاف شعبه حوله فذكرني ذلك بمقال نشرته لي أسبوعية النبأ الجزائرية في عددها 162 لسنة 1994 قارنت فيه بين هذا الكاتب العملاق وبين واحد من الوجوه الأدبية الفرنكوفونية البارزة في الجزائر ألا وهو رشيد ميموني.
وعدت إلى المقال فوجدته جديرا بالنشر مرة أخرى،لأن الحقائق الواردة فيه لم يزدها مرور الأيام إلا متانة.وتجدر الإشارة إلى أن رشيد ميموني توفي بعد هذا المقال بسنوات لكن جنازته لم تشكل أي حدث،بل لعل معظم الجزائريين لم يسمعوا بموته...إن كانوا قد سمعوا به وهو على قيد الحياة.
وهذا هو نص المقال حرفيا:
شكلت عودة ألكسندر سولجينتسين إلى روسيا في أواخر ماي الماضي حدثا رسميا وشعبيا بارزا يشير إلى كفاح رجل أعزل ونهاية عهد الإرهاب الفكري وانتصار القلم على آلة القمع،فالعائد أديب عالمي سخر مواهبه في محاربة النظام الستاليني الجاثم على ملايين البشر المقهورين،فكلفه ذلك ثمنا غالبا من السجن والمضايقات انتهى بالنفي والتجريد من الجنسية السوفياتية في أواسط السبعينات بعد أن حصل على جائزة نوبل للأدب في 1970،وقد انضم بذلك إلى كوكبة من رجال الأدب والعلم الذين لقوا المصير نفسه للأسباب نفسها أمثال سخاروف وبوكفسكي وغيرهما الذين مروا قبل النفي على مستشفيات للأمراض العقلية باعتبارهم مختلين رغم أن جلهم أرقى الشهادات العلمية.
وعندنا كاتب تريد الأوساط الفرنكوشيوعية أن تجعل منه عميدا للأدب الجزائري هو المدعو رشيد ميموني،والقاسم المشترك بينه وبين سولجينتسين هو الإقامة في المنفى وتبني قضية الوطن والرغبة في العودة المظفرة إليه،لكن الفروق جسيمة بين الرجلين حتى في القواسم المشتركة،فالأديب الروسي أخرج من بلده قسرا من طرف نظام يريد أن يكمم فاه،وكاتبنا في منفى اختياري فرارا من الشعب لا من النظام الذي يدلله ويحيطه بالرعاية،وإذا كان الأول قد تبنى قضية شعبه المقهور فإن الثاني يتبنى قضية أقلية تستبد بالأغلبية ويدعو إلى مزيد من القمع لهذه الأغلبية التي تتنكر لتوجهاته،وبينما يقرن الروسي عودته بعودة الحرية لبلده فإن الفرنكوجزائري يقرنها بإلغاء الحرية وتجميع الصلاحيات بيد النخبة المتغربة التي يمثلها..
سولجينتسين يكتب لشعبه بلغته فيتفاعلان،وميموني يكتب للنخبة ولمن وراء البحر بلغة الضفة الشمالية،فلا هو يكترث بشعبه ولا الشعب يلتفت إلى ما يكتب،وبينما تطبع كتب الأول بملايين النسخ ليعاد طبعها فإن كتب الثاني تملأ الرفوف عند باعة الكتب،ولولا تهويل العلمانيين لما سمع به وبها أحد.
بدون عناء يحس القارئ أن المؤلف منحاز للجلاد يتشفى في الضحية ويريد لها"الحقيبة أو النعش"كما يقولون،أي الرحيل عند البلد أو القتل،فلو افترضنا أن ميموني عاد إلى الجزائر من منفاه هل كان يعبأ به أحد خارج دائرة النخبة الفرنكشيوعية؟وهل الشعب يعلم أنه موجود ويعيش في المنفى الاختياري حتى يعبأ به أو يكترث؟وهل تولي الجماهير اهتماما بالذي يتجاهل لغتها وقيمها وآلامها؟فكيف بالذي يرفض لغتها ويسخر من قيمها ولا يحس بآلامها؟
إن سولجينتسين-مع آخرين من وطنيته-نموذج للأديب المنبثق من عمق الأمة الذي يتعب لترتاح ويشقى لتسعد،وحتى مع استعمال الغرب قضيته للضغط على النظام السوفياتي فإنه لم يتلوث بالنكوص والخيانة ولم يستدرج إلى القطيعة مع شعبه من أجل العيش الرغيد في أمريكا،بينما يعد ميموني-مع آخرين من أمثال بوجدرة وجاوت وكاتب ياسين- نموذجا للمثقف الدخيل على أمته المصنوع على عين الاستعمار المتشبع بقيمه المتفاني في خدمته،ولو كانوا من طراز سولجينتسين لاتعظوا يوم أعطى الشعب ملايين الصوات للتيار الإسلامي وهمش تيارهم التغريبي وصفعه ببضع مئات من الأصوات النشاز..
إنهما نموذجان للمثقف الملتزم والمثقف المترزق.