رواية (قبل اكتمال القرن) 5+6
تحليل خمسين رواية عربية نسوية:
رواية (قبل اكتمال القرن)
( قرن الخراب العراقي العظيم )
للمبدعة "ذكرى محمد نادر"
د. حسين سرمك حسن
(5)
# توظيف اللغة العامية :
في مواضع محددة - شديدة التأثير والتعبير - تستخدم ذكرى اللغة العامية العراقية لخدمة عملها السردي وخلق أقصى تأثير في نفس المتلقي. وأنا هنا أعلن مقتي من هذه المناقشة التي لا تنتهي عن أفضلية العامية أو القصحى . العامية العربية أقدم من الفصحى العربية ، هذا ما أثبته الكثير من الباحثين . وفطاحل البلاغيين الآن يكتبون مقالاتهم بالفصحى ويحدثون زوجاتهم بالعامية . المهم أن على الروائي أن لا يهمل أية فرصة في استثمار وتفجير الطاقات التعبيرية الهائلة الكامنة في المفردة العامية . بالإضافة إلى الموقف السابق الذي وظفت فيه النداء الحارق : (يمّه) بصورة فذّة ، فإن هناك مواقف أخرى لا تقل عنه طعنا في الذات العراقية خصوصا وفي مقدمتها ميتة (صفوان) ابن الرضواني الرابع بعد مرتضى ، والمنتحر خليل ، والميت نزفا طه. كان مرتضى وصفوان يعيشان مطاردين في العهد الملكي ، وكان مرتضى يزور بيته في أواخر الليالي ملثما لينام مع زوجته (البلورية) ، وكان بيت الرضواني عرضة لمداهمات مستمرة ومؤذية . وهذه من حكم "ذكرى" حيث جعلت المداهمات مستمرة في كل عهود العراق .. لا فرق بين نظام ملكي أو جمهوري .. أو سيطرة شيوعية أو بعثية ، برغم أنها تبتعد بذكاء عن المسميات المباشرة . لقد أطيح بالنظام الملكي بصورة دموية ووحشية .. ولكن :
(وقبل انطفاء أنوار احتفالات الثورة الجديدة كانت الرشاشات قد عادت للظهور ملهبة السماء بزئيرها ، وتخبطت وتشابكت مجددا الآراء إلى حد التعقيد. حزب يصعد وحزب ينزل وخطابات ، ولا شيء واضحا ، بعد اشهر قليلة من إعلان الجمهورية لم يعد مرتضى قادرا على النوم عاريا . وعاد كما في السابق يحتفظ بكيس الضروريات جاهزا – ص 60). هكذا كان مناضلوا الوطن وثواره يعيشون في حالة طواريء دائمة .. ومصدر التهديد هو رفاقهم الثوار من الأحزاب الأخرى. لقد أعيد فصل الصفوان .. وها هو يقفز سياج البيت مطاردا من جديد. لقد اختبأ الشقيقان : مرتضى والصفوان في بستان (الحاج صاحب) الذي كان الصفوان يشك في أنه سيغدر بهما ويبلّغ عنهما في حين كان مرتضى يخفّف من مخاوفه بدعوى أن الحاج من أصدقاء أبيهما المرحوم . لكن إصرار الصفوان على رأيه كان يتصاعد مع انتصاف الليل حتى بلغ حدسه مستوى اليقين المرضي فصار يعلن لأخيه بأنه سيموت وأن هذه آخر ليلة يقضيها معه !! وفي الوقت الذي كان فيه مرتضى يزرر بنطلونه ، وهو يتبول ، جاءت أشباح الموت المُنقّبة . انهالوا على الصفوان بالعصي وسحلوه من يديه المدماتين فوق الأشواك ، قتلوه ثم علقوه أمام المقهى على عمود الكهرباء . شاهدته أمّه وزوجته وأخواته وأطفاله الأربعة . لقد قُتل الصفوان ، ورحل ، لكنه خلّف وراءه ميتا يسير على قدمين هو مرتضى الذي سيعيش تحت وطأة سياط الشعور المدوّي بالذنب مدى الحياة :
( سقطت رجولته تحت منجل الخوف ، ولم تعد البلورية تسعد بيديه الباحثتين عن السلوى في حلمتيها ، فتستدير بعيدا عنه مخلفة له دخان الهزيمة ، يثور ليجد في عينيها قبضة اتهامات ، فتغشاه البرودة وتهرب منه الدماء فيخرج إلى ممرات الليل ، يدخن هاجسا حفيف ثياب الموتى يضمّدون جراح الصفوان ، وصوته – يا للوجع – لا يبرح رأسه يضربه كمطرقة قاسية :
-أولاد الكلب اتركوني .. لك وينك خويه ؟؟ - ص 67).
وهذا التساؤل المستغيث واليائس الذي اطلقه الصفوان ليلة سُحل بالحبال أمام عيني أخيه سيبقى يلاحق مرتضى حتى الموت .. يقض مضجعه ويؤرقه .. يدينه ويتهمه .. وهذا ليس سؤال مرتضى الخاص الذي يصمه بالعجز .. إنني اعتقد أن كل عراقي له نوع من هذا السؤال : (ولك وينك خويه ؟) ، يلاحقه منذ فجر حياته الشخصية ، مثلما يلاحقه منذ فجر حياة بلاده (ولكم وينكم ولدي ؟) . بهذا السؤال ( ولك وينك خويه ؟) تعيد ذكرى محمد نادر بلا تردد تثوير سؤال العجز والمهانة الذي أمضينا عقودا ونحن نتستر باستماتة وبطرق مراوغة ومتكرة مستعينين بالأيديولوجيات والنظريات والبيانات الحزبية والتحالفات والهروب إلى المنافي مهما كان جحيمها قياسا للمسؤولية المقدسة التي تركناها خلف ظهورنا تجاه أخوتنا ووطننا . (لك وينك خويه ؟) هو سؤال عراقي صميم .. هو سؤال العجز والإنخذال والمهانة الذي لا ينفع معه أي شيء ..
لكن من هم هؤلاء (أولاد الكلب) الذين يصرخ الصفوان بهم كي تتركه مخالبهم الباشطة .. هنا يأتي درس مضاف من "ذكرى" . فهؤلاء لا يستطيع أي مراقب أن يسِمَهم بسِمة (الأعداء) المتعارف عليهم .. ( من هو العدو؟) .. هو سؤال آخر ذو ماركة مسجلة عراقية سوداء . ففي وقفة الرضواني كان القتال ضد عدوين .. تمزقت ولاءات الناس تجاههم .. والآن : ( دأبت الليالي تأتي مشحونة بأزيز الرصاص ، متداخلا بفوضى التحليلات تتضارب فيها الآراء .. والنهارات الصخابة بالهتافات ، تضج بها المدينة ، بينما لا تُعرف هويات الجثث المعلقة على أعمدة الهاتف والكهرباء وأشجار اليوكالبتوس الرشيقة حيث يقطر منها الدم ، معلق على صدور الجثث : (الموت للخونة) دون أن تعرف من هم الخونة ؟ ولمن كانت الخيانة ؟ لم يكن غريبا بقدر ما هو حزين رؤية أجساد مقطعة ، مرمية على جنبات الطرقات ، يحيطها الضباب ملتفا بالدماء الذابلة ، حيث تسيل في تساؤلات مبهمة وطبول الموت تدوي ، تقرع الأبواب الموصدة غير الواعية لحقيقة ما يحدث :
-ماذا هناك ؟
يصرخ أحدهم من خلف نافذة خوفه ، ليسمع صوتا آخر خائرا :
-من يدري ..
-من العدو ؟ أين العدو ؟ - ص 64 و65).
هكذا عاش أهالي هذه البلاد تاريخهم الشائك والملغز ، وهم يتلفتون ويتساءلون عن عدوهم الحقيقي ؟ وأين يكمن ؟ .. هذه من محن هذه البلاد المعنّدة .. أن لا تعرف عدوّك الفعلي .. وأن تقتل كل يوم عدوا !! بعد عقود يدق هذا السؤال المحيّر على أبواب عقل وروح ( الوضّاح) الذكر الثالث لمرتضى ، والذي سيشرب من ذات نبع الحيرة في آخر هذا القرن . حيث تلهو طائرات الليزر بأجساد رفاقه المنسحبين وتحولهم إلى مزق وأشياء بتشف واستهتار لا يصدق فيصرخ في ليلة مكتملة الحزن : - أين العدو ؟
المطر ينز أسود من سماء مظلمة عفرتها المعارك ، فيغوص الدم في الرمال يدوي الصوت وصدى السؤال : أين العدو ؟ - ص 65).
# خذ الحكمة من فم الروائيين :
-------------------------------
الفن السردي هو سيرة حياة .. حياة كاملة تجري وقائعها على المسرح السردي الذي هو حقيقي حقيقية الحياة الفعلية ، بل أكثر منها في لحظات التماهي مع الشخوص وتشرّب الحوادث في لاشعورنا، مانحة أيانا الفرصة كي نمارس فعليا على الساحة النفسية الخلفية ما يقوم به "البطل" على الساحة السردية الأمامية . وليس " التفريج – catharsis الأرسطي " الذي نشعر به ونحن نشاهد البطل – على المسرح مثلا - وكما يقول "فرويد" يقوم بما نرغب فيه ولا نستطيع القيام به بسبب التابوات والتحريمات والقوانين ، ولكن لأننا من خلال أفعال الشخوص الروائية نقوم بما نبغيه فعليا على مسرح نفوسنا الخلفي المظلم .. تمثل الأدوار في نسخة تشبه (النيجاتيف) أشباح وغيلان دوافعنا الدفينة . ومن هذه الحكاية التي تجري "هناك" ، والتي تجري أولا في "هناك" المبدع تحصل خلاصات أشبه بـ "الحِكَم" التي تتركز فيها دلالات التجربة ، والتي يطلقها الكاتب بين وقت وآخر لتمثّل توهجات من "فلسفته" التي هي فلسفة فعلية في بيئتها السردية لا تُفهم إلا في البيئة النفسية الأصلية التي خّطت مسارات الحكاية الجزئية على تربتها . وقد أدركت ذكرى أهمية هذه التقنية فكانت تُقدم تلك القبسات الخلاصة - بين وقت وآخر - فتأتي متوهّجة على هامة التجربة :
- أفضل ما في المصائب أنها تعلّمنا كيف نحمي قلوبنا لئلا تتكسر كهذه الصحون .. ص 121
- عندما لا يكون ثمة أمل في أحد ما .. في أمر ما ، لن يكون هناك ألم . لن يكون هناك خيبة . إن الألم كله يكمن في الخيبات التي يسببها من نرجو أن يمنحونا ما نحلم به – ص127
- تعلّمتا درسا مبكّرا : إن المرأة ستكره ذكريات رجل بكت بسببه وستتذكر دوما رجل بكت لأجله – ص 127
- أن تبقى مخدوعا خير لك من اكتشاف عقارب الحقائق التي تكمن تحت وسادتك ، والأسوأ أنك لا تملك أن تبعدها عنك
- نحن شعب بلا ذاكرة ، من يتذكر ماذا ؟ إنهم ينسون ، نحن برحمتنا ننسى خطايا المواطنين ونسامح أحيانا قدر الإمكان عصيانهم ، لتسهل الأمور أكثر حين تكون بلا ذاكرة ، إنها بداية جديدة دائما- ص 153
- القسوة هي تعبير عن جوع أليم للإحساس بالحب – ص153
- كونكِ بغيّاً يمنحك القدرة أن تفعلي ما يحلو لك وقت ما تشائين وبالشكل الذي ترغبين ، إنها سلطة ، بل هي السلطة .. ص 160
- السياسة كالدعارة لكليهما شبهة – ص 167
- ما نفع الحقائق حين لا تأتي في وقتها – ص 181
- هناك سعادة مفزعة – ص 206
- إن بعض الحماقات ضرورية لجعل الحياة ممكنة – ص 208
- إن أوهام الحب مع علمنا بأنها أوهام هي أجمل كثيرا جدا من رعب الخلوِّ منها – ص 209 – في الورقة الألف دوّنت على ورقها المصفر : سأغفر لله لو أنه منحني القدرة على أن أحبك دون أن أتألم – ص 209
- أظننا قوم لا نقوى على أن نحيا اللحظة بعمق تفاصيلها . نحن أجبن من هذا ، إلا أننا نسعد كثيرا باستعادتها في غبش أحلامنا وأقاصيصنا – ص 219
لكن هذه الشذرات لا يمكن إدراكها من معناها الظاهر فقط ، بل من معنى مضاف يفرضه السياق الذي جاءت خلاصة له . لنأخذ مقولتين مترابطتين وجاءتا ضمن سياق سردي واحد وهما :
(كونكِ بغيا يمنحك القدرة أن تفعلي ما يحلو لك وقت ما تشائين وبالشكل الذي ترغبين . إنها سلطة ، بل هي السلطة )
و ( السياسة كالدعارة لكليهما شبهة ).
كلتا المقولتين أطلقتهما (السلطانة) - وهي القوادة (أم القادرية ) زوجة (الصفوان ) عمّ الأختين : سُبُل ومراثي ؛ ابنتا مرتضى. لكن كيف التقتا ؛ سُبُل ومراثي ، بالسلطانة ؟ . في سجن النساء. لقد جاء اعتقال سبل ومراثي في سلسلة اعتقالات ظاهرها محاولة إلقاء القبض على ابن عمهما (عامر) ورفيقته (سلمى) التي جاء بها إلى البيت في إحدى الزيارات السريعة وكلاهما من حزب معارض للسلطة القمعية الباطشة . لكن في الباطن كانت سلسلة الاعتقالات هذه تُدار من قبل "نواف الضامن" لإسقاط سُبُل في شباكه بعد أن شغفته حبا. حصل هذه المرة تبدّل خطير فقد تمّ زج الأختين الشريفتين الملتزمتين اجتماعيا في سجن النساء المتهمات بقضايا لا أخلاقية .. مع العاهرات .. وهذا جزء من تكتيكات الجلادين حين يريدون ترقيق إرادة المعارضين المقاومين الملتزمين بالمباديء بعناد شديد. فهم يزجون المناضلين – وخصوصا المناضلات - في سجون للمتهمين بقضايا لا أخلاقية .. سجون للعاهرات . كانت خطوة من نواف لترخية أربطة الموقف الذاتي المتماسك لسُبُل بشكل خاص. فالعظيم وسط التافهين يتفه.. والشريفة وسط العاهرات قد تنالها العدوى . بنات الليل في السجن يغسلن ألبستهن الداخلية ويعلقنها بشكل فاضح أمام الأعين . ها هي مجموعة منهن تدخل السجن وهن يحملن في أيديهن واقيات رجال مطاطية نفخت إلى أقصى حد فانتفخت واستطالت بصورة مضحكة مزرية (ص 160). هنا سترى سُبُل الصامدة حتى الآن ، وعلى الطبيعة ، سلوك المومس المنفلت .. وكيف يصِفْن الحياة اللاهية العابثة التي يحيينها . هنا سيتم التفاهم وفق قواعد ومعايير جديدة فيها كل شيء ، إلّا شيء واحد مكروه يُنبَذ بعيدا باحتقار وهو : الشرف . لكن في عالم السجن الرهيب هذا رعتهما السلطانة بعطف شديد .. تذكرت مراثي الآن كيف كانت القادرية زوجة عمهما القتيل تعود من زيارتها لوالدتها بخدين متوردين وعينين تومضان بالإرتواء والعافية . في كنف والدتها كانت تُطفيء جذوة حرمانها الجنسي بعيدا عن اي تابوات .. كانت السلطانة سلطانة فعلية في السجن .. حتى الفطور كان دسما .. أكلت الأختان مع المومسات بعد نداء إحداهن : هيا يا بنات .. لتأكل السياسة والدعارة معا في بيت الحكومة – ص 159.
وقد علمت سُبُل أشياء كثيرة عن "الباشا" عاهرة الخارج . وما هي إلا أختهما الهاربة "عميرة" بعد أن تحرش بها عمّها جنسيا. الباشا أسطورة .. كما تصفها السلطانة لسُبُل :
( إنها تحفة إلهية .. شابّة مختلفة عريقة قوية جميلة مسيطرة . تلهو بكبار الرجال بلا تهيّب . تمرّغ كبرياء أكبرهم وأشدهم جبروتا ، لكنها رقيقة مع بنات الكار رحيمة بالجميع .. بالجميع . أسميتها "الباشا" وهي كذلك – ص 165 ) .
وقد كتبتُ مرة أستنكر فيها وصف بعض الكتّاب لبعض السياسيين الفاسدين بأنهم مثل العاهرات . من وجهة نظري أن العاهرات أفضل كثيرا من كثير من هؤلاء السياسيين . فالبغي تمنحك اللذة مقابل المال .. وبعضهن يتعاملن بروح أمومية ، ولا ننسى أن المومس هي الوجه المستتر للعملة الأمومية ، ولهذا يتعلق بعض الرجال بالمومسات ويتزوجونهن رغم مواقعهم الاجتماعية والسياسية البارزة منطلقين من "عقدة إنقاذ" دفينة . أما السياسي الفاسد فهو يسلب كرامتك وشرفك وثرواتك بلا رحمة كصورة للأب الخاصي الباطش . ولعل ما قدمته الروائية من صورة عن "حنان المومسات" هو أنموذج لمقارنة غير مباشرة مع سلوك "نواف" الأشد ترديا من العهر الأخلاقي مع سُبُل .
وقد حاولت الكاتبة تقديم صورة أخرى عن نفوذ المومسات من خلال التظاهرة التي خرجت في بغداد تقودها الباشا وهي تدعو لإقامة نقابة شرعية لبنات الهوى ، وإلغاء خطة وزارة الصحة في التعقيم الإجباري لبائعات اللذة ، ومنح أوراق شخصية لأبنائهن يحمل فيها الإبن اسم أمّه . لم تكن هذه الوقفة موّفقة لأنها كانت تفتقد المصداقية والقبول الاجتماعي والتاريخي . المهم أن ما ثبت هو أن المومسات وخلاف ما نتصور من كونهن كيانات مسحوقة وبريئة يتلاعبن بأكبر السياسيين .. إن المانع الأساس الذي هو الرقيب الداخلي .. عين الله .. التي نسميها "الضمير" يسقط في جهاز المومس النفسي ، فلا تعد هناك أيّ نواهٍ أو قيم تردعها عن اي فعل . وهي بذلك تتفق مع السياسيين الجلادين الذين عليهم أولا أن يحيّدوا هذه السلطة الداخلية ليتمكنوا من سلب السلطة وتعذيب خصومهم وحتى قتلهم . لا مكان في السياسة لرجل ذي ضمير أبيض ويخاف الله .. هذا مكانه في المساجد وبين الأولياء والصحابة. حتى الصحابة قُتلوا شر قتلة واغتيلوا لأنهم غلّبوا الأخلاق على المصالح السياسية . إن ما كان يقوله ميكافيللي من وصايا ( في السياسة ، عليك أن تتحلى بأخلاق الذئاب لتنجو من فخاخ الثعالب ) والذي يرفضه السياسيون المبدئيون - قطعيا - من الناحية النظرية هو دليل سلوكهم الميداني . وبفعل هذا التشارك بين السياسي والبغي أطلقت السلطانة حكمتها :
( كونكِ بغيّا يمنحكِ القدرة أن تفعلي ما يحلو لك ، وقت ما تشائين وبالشكل الذي ترغبين . إنها سلطة بل هي السلطة ).
تحليل خمسين رواية عربية نسوية :
رواية (قبل اكتمال القرن) ( قرن الخراب العراقي العظيم ) للمبدعة "ذكرى محمد نادر" (6)
# المُبدعة المُحللة : سيكولوجية علاقة الضحية بالجلاد :
وعلى الرغم من أنني ذرفت دموعا على المصائب المتلاحقة التي واجهتها سُبل ، إلا أنني أعتقد أن "حنان المومسات " قد سمّم روحها ، وأن "حكمة" السلطانة قد أثّرت في أفكارها وسلوكها من حيث لا تعلم . هذا يعيدنا إلى علاقة سُبل بنوّاف وتفصيلاتها التي طرحتها عبقرية "ذكرى" – وهي ليست مختصة بعلم النفس – كأنموذج لعلاقة الجلاد بالضحية وأسسها السيكولوجية .
لقد جاء الإعتقال الأول لسُبل عندما اقتحم زوّار الفجر الأوغاد بيت الرضواني باحثين عن ابن عمها "عامر" وأخيها "الجهم" ، وكليهما منتميان لتنظيم سياسي معارض للسلطة الطغيانية . لم يجدوا عامرا ، وألقوا القبض على الجهم ، وأخذوا معهم سُبل وأبيها مرتضى برغم أنه – أي الأب - سبق أن قدم براءة من العمل السياسي ووقعها في مديرية الأمن . وُضعت سُبل أوّلا في غرفة شديدة الإضاءة ، جدرانها ملساء مطلية بلون أبيض دهني مشع ، وتنبع أنوارها الساطعة من سقفٍ عالٍ بتحكم خارجي ، والفكرة الأساسية من هذا الإجراء الذي تتفق عليه كل مراكز التعذيب السياسي وأسرى الحرب هو خلق حالة من " الحرمان الحسّي – sensory deprivation" ، حالة يختلط فيها الليل بالنهار .. تنعدم فيه كل مؤشرات تحولات الزمن .. وبذلك تضطرب الساعة الحيوية الداخلية .. يضطرب الإيقاع الحيوي لدى السجين .. لا يعرف ما الذي يجري في الخارج إلا من خلال السجّان .. السجّان يصبح دليله في حياته كلها .. ينشأ نوع من الاعتمادية .. اعتمادية السجين على السجّان .. اتكال الضحية على الجلّاد .. وهذا البياض الشديد هو عامل مخيف .. لا يبهر العينين ويعيق الاسترخاء حسب بل يبدأ بمسح الذاكرة الحديثة للسجين الذي بسبب فقدان المتغيرات المطلق وحرمانه من ملاحقة التحولات – النهارية خصوصا – لا يعد يسجل شيئا في "ذاكرته القريبة – recent memory " فيعود مرتدا إلى استرجاع مخزونات " ذاكرته البعيدة – remote memory " .. مخزونات ذكريات طفولته وصباه .. العلاقات الجميلة مع أفراد عائلته واحبائه .. وهنا سيواجه السجين وهذا ما حصل لسُبل سلاحا ذا حدّين ؛ لقد استعادت سُبل - وهي في حصار الزنزانة البيضاء - قصصا كثيرة : قصة حبّها الوحيدة الخائبة .. قصة حبّ أختها مراثي لابن عمتها "عامر" والذي تخلّى عنها بلا رحمة .. قصة حبّ أخيهما الجهم الفاشلة لابنة عمته "هانيا" .. قصة الحب الصامتة لخمسين عاما بين الأعمى عازف الربابة والشمّرية جدّتهما التي لم يعترف بها إلا أخيرا . والرواية هي تجربة الموت والحب بامتياز كما سنرى :
( أيقنت سُبل بحنان مخيلتها أنها أحبّت بيتها ، بتعب جدرانه ، ومرض طلائها الحائل لونها الأبيض إلى رمادي مغبر شوّهته خرائط مطر السنوات الماضية . أرسلت عينيها في رحلة شوق إلى الغرف المتراصة بعوالمها السرّية ، واشتاقت أن تكون هناك لتنجز ، كما بدأت مع مراثي ، حياكة جوارب "الوليد" الصوفية ، لقدميه المنهكتين من ألم الروماتزم ، حيث يقضي خدمته العسكرية في جبال الوطن الثلجية القصيّة – ص 144 ) . وبقدر ما كانت هذه الذكريات مؤاسية وتستعيد سعادات الزمن الضائع البهيج رغم مراراته ، فإنها تتضمن نوعا من النكوص ، نوعا من البحث عن الرحم الأمومي الحامي .. وهذا ما يريده الجلاد .. أن يشعر السجين بالحاجة السريعة للعودة إلى أحضان العائلة وخيمتها الحانية .. وفي سبيل ذلك قد يصبح السجين مستعدا لتقديم التنازلات التي يصمّمها الجلّاد صغيرة عادة ، لتتراكم فتصبح تنازلات سوقية / ستراتيجية تكسر ظهر وجود الفرد . وليس شرطا أن يشعر الفرد السجين بالحاجة إلى الأم كما حصل لـ ( رجب اسماعيل ) بطل رواية (شرق المتوسط) لعبد الرحمن منيف ، الذي سقط إلى الأبد بعد موت أمّه رغم صموده خمس سنوات ، ولكن أن يحس بحاجة إلى مكافئات الرحم الأمومي .. البيت .. العائلة .. الأخت المساندة .. الحبيب ... شيء مفضل في البيت حتى لو كان قطة ... إلخ . لقد جعل نواف بقاء سُبل في الغرفة المشعة بألم البياض طويلا حتى جعلها ترغب في استعجال التحقيق ، وهذا تكتيك آخر.. وفي بطانته شعور بسيط يتنامى لاحقا مفاده أن مقادير الأمور هي بيد الجلّاد .
بعد عدة أيام أقتيدت سبل لمقابلة نواف الضامن في مكتبه الأنيق المريح :
( مكتب فخم لرجل لم تشك لحظة مذ وقع عليه بصرها ، بأن هناك قدرا سيجمعهما – ص 150 ) .
وهذا الحدس غير مُبرر أبداً ، فهي لم تر نوّاف ، ولم تعرفه من قبل ، ثم ما الذي يجمع الضحية مع الجلاد ؟ لكنه الإحساس الاعتمادي الذي تنامى بفعل العزلة . سألته أولا عن أبيها وأخيها فأجابها بأنها ليست في وضع يسمح لها بطرح الأسئلة .. ودعاها إلى الاهتمام بنفسها فقط .. وذكرها بأنه كان طيّبا جدا معها . ثم بدأ نواف الدرس الأول كما وصفته ذكرى : ( كان درسه الأول قد بدأ فورا . منذ أن طرفت عيناه برؤيتها . نظم في ذهنه المتقد خطة لترويض لبؤة الحظ الليلي العاثر في استثمار مفيد . جلس هادئا على كرسيه ينقر بأصابعه على بعض الأوراق . قلب في كتاب شعر . لم تلتقط عيناها اسم كاتبه . خمّنت أنه قد مر قبلها في هذه الغرفة – ص 152 ) .
وكل هذه حركات مدروسة ، والحوهريّ فيها ومقصدها النهائي أن يتعزز في وجدان السجين المأسور وجها السلطة الأبوية : الحانية الحامية ، والخاصية المدمرة . وكل وجه تكون له تجلّياته ، والأفضلية أوّلا للوجه الباطش . وها هو نواف يضغط على جرس ليدخل فورا شخص أشار إليه بإصبعه فأدخل رجلاّ مُدمّى . علق نواف على ذلك قائلا بمرح ظاهر : -عادة لا تتم هذه الأمور هنا ، ولكن قد يحدث أحيانا ..
ورغم أنه لمح في عينيها وهج الكراهية ، إلا أنه كان يراهن على تطويع هذه الكراهية .
تأتي الخطوة اللاحقة الخطيرة حين زُجّت - هي وأختها - في سجن العاهرات .. هنا تسمّمت روحها باسر سلطة الغواية من دون أن تدري . وليس شرطا أن نُمسك بالأسباب متسلسلة ، ولكن يكفينا في علم النفس ان نمسك بالنتائج لنعود منها إلى المسبّبات كما سنرى . لقد اجبرها نواف على رؤية أن السياسة من الممكن أن تتعايش مع الدعارة . أطلق سراحها بعد اسئلة عادية وتافهة جدا . الهدف هو إشعار السجين بلاجدواه .. بضياع مقدراته .. بشلل إرادته وعجزه عن التحكم بمصيره .. من يتحكم بمصيره هو الجلاد . الجلاد الذي سيصبح "مُنقذا" ، وهذه أخطر المراحل ، في الخطوة اللاحقة ، حيث أعيد استجواب سُبل ولم يكن نواف الضامن موجودا . نُقلت إلى غرفة واسعة جدا بلا نوافذ ، خالية من الأثاث سوى كرسي منفرد يحمله المحقق كلما تحرك .. هكذا يتم إشعار السجين بالعجز .. وفي بعض الأماكن يعطونه كرسيا بلا مساند كي يحرموه من أي متكأ مادي معاون مهما كان . وسُبل تقف الآن ، والمحقق جالس يتحرك على كرسيه بحرية يسألها : (أين "عامر" ؟ من هي سلمى ؟ ضُبطت وأنت تسيرين معها .. كنتما في المدرسة معاً .. لا ينفعك الإنكار .. تكلمي ؟ - ص 167) .
هنا .. وفي هذه اللحظة تذكرت السلطانة بثدييها العظيمين وحكمة لياليها حين قالت :
" السياسة كالدعارة .. لكليهما شبهة "
فلمجرد أنها كانت تمشي في المدرسة الإعدادية مع "سلمى" فقد أصبحت مشبوهة بتهمة رهيبة تستحق عليها التعذيب في الوقت الذي لا تُعذب فيه العاهرات اللائي شاهدتهن وهن يمرحن في السجن . إنهن يسيطرن على أشخاص بقوة نوّاف وجبروته ويتلاعبن بهم . وفوق ذلك فإن الدولة القامعة قد جعلت السياسة شبهة دمّرت حياة سُبل ومستقبلها قبل تعرضها للسجن والتحقيق . لقد خاضت تجربة حب عظيمة مع شاب هام بها حد الإنسحار .. ثم فجأة انقطع عن لقائها .. لم تشعر بما اضمره كلامه في لقائهما الأخير . سألها حبيبها :
-يُقال إن لكم انتماء سياسيا مختلفا ؟
( تنحنح وكأنه سيقول شيئا آخر ، لكنه صمت . كانت تدور حوله مثل عصفور مبهور بغرام عشه المبتكر . كانت خلفه تماما حين نقرته بأصابع راقصة ، وابتسمت كلماتها بين شفتيها : ماذا يعني هذا ؟ أخبرها وهو خافض العينين عن هواجس عائلته العارفة بالطريقة التي عُلّق فيها الصفوان على عمود الكهرباء. وعامر وهروبه المستمر . صالبت سُبل يديها فوق صدرها :
-لقد نسيت أن تذكر أن لي أختا هاربة من بيت العائلة . ألم يذكر احد هذا الأمر ؟
هزّ رأسه قبل أن يجيب :
-لم يذكر أحد . هذه الأمور يمكن تداركها . قد تحدث لكل العوائل . ولكن – ص 146 ).
تصوروا أن هروب فتاة من بيت أهلها لا يستفز عائلة الرجل المُقبل على الزواج من سُبل .. ولكن ما يقلقها أن يكون فيها مناضل مكافح من أجل حرية الشعب ؟
أي أن احتمالات انحراف الفتاة الهاربة وعهرها أقل خطرا من انتماء أحد أبنائها لحزب معارض ؟ ألم تقل ذكرى إن السياسة أسوا من الدعارة ؟ . ألن نستعيد ، مثلما استعادت سُبل وهي بين يدي المحقق الشرس الآن حكمة الحكيمة السيدة "السلطانة" : " السياسة كالدعارة ، لكليهما شبهة " .
تذكرتها سُبل وهي ترد على أسئلة المحقق بأنها غير منتمية لحزب ولا صلة لها بالسياسة وبذلك تكون خارج دائرة "شبهة" السياسة . هدّدها المحقق .. فبكت .. هدّدها :
-إنك لا تعرفين ما ينتظرك . الهول والجحيم لا يعادلان لحظة واحدة مما يجب عليك الحذر منه .. سأقتلع عينيك ، وأنتف هذا الشعر الطويل وأقلعه .
ثم لطمها بكفه الضخمة المتمرسة فتورمت شفتها فورا . وفي هذه اللحظة دخل نواف الضامن . هذا هو التوقيت المضبوط لتحقيق المضمون " الإنقاذي " لدوره . وهنا تكون الخاتمة والإنعطافة الجذرية في علاقة الضحية بالجلاد . التحوّل الكارثي يحصل عندما تشعر الضحية بأن جلّادها صار منقذها . هنا يحصل تضاد وجداني مرعب يطيح بالفرد الضحية ويقلب مفاهيمه ويجعل عواطفه هي التي تقود أفكاره ومبادئه لا العكس كما هو الحال الطبيعية :
(كانت ترتجف وهي تمسح فمها بظاهر كفها حين فُتح الباب ودخل نوّاف الضامن . كانت في عيني سُبل ترقد نظرة امتنان وترحيب وكأنه خلاصها . وكان هو ما يريده تماما – ص 168)
واضطلع بدور المنقذ فورا ، فقد ألقى أوامره على المحقق المعذِّب الذي خرج مستعدا وانصرف في حين ربت نواف على كتف سُبل ومسح دموعها وبصوت وديع راح يواسيها :
-يا صغيرة .. يا حلوة .. أنا سأحميك .. أنت خائفة .. صحيح أليس كذلك ؟ - ص 168) .
كان يذكّرها وهو يضمها إلى صدره "الحاني" بما يمكن أن يفعله بها الجزارون .. إنهم سيقطعونها .. لقد لمست فعليا ما يمكن أن يفعله بها الجزارون .. وهي بحاجة إلى من ينقذها . وبالنسبة للبنية السيكولوجية للبنت – وسُبل كانت في الصف السادس الإعدادي ، أي في ذروة مراهقتها – وخصوصا في عمر سُبل هو أنها تحتمي دائما بالأنموذج الأبوي الحامي .. الأب الذي يمكن أن نصعد بقواه الخارقة عندما نكون أطفالا أو في محنة مميتة إلى السماء فنجعله إلهاً . لكن هذا الأنموذج أطيح به عن عرشه بمهانة موغلة في الأذى النفسي أمام عيني سُبل . أطاحت به يد الطغيان القاسية ونهشته مخالبها بلا رحمة .. في كل مداهمة كان مرتضى الأب يصيح :
-والله وقّعت ..
يقصد التوقيع على البراءة .
والعراق العظيم من أعظم البلدان ريادة في كل شيء ، حتى في بدعة "البراءة" التي بدأت في العهد الملكي من الجميع .. شيوعيين وبعثيين على حد سواء. ثم جاء الشيوعيون ليطلبوا البراءة من البعثيين .. وجاء البعثيون ليطلبوا البراءة من الشيوعيين .. ثم جاء القوميون .. وجاء البعثيون .. وجاء أبناء الاحتلال .. وهكذا . ولا نعرف إلى متى يبقى بعير البراءة على التل . فالواضح أنه سيبقى طويلا بعد مساءِ الطغيانات والعبودية .
لقد خرج مرتضى من الاعتقال الأول بعد أن قدم البراءة .. وتحول إلى كائن هو عبارة عن الأنبوب الواصل بين المطبخ والمرحاض . كائن يتجنب كل شيء .. في حين أن الإنسان هو برأيي " حيوان مُخاطر " أو " حيوان مُغامر " . عاش مرعوبا ولم تقل لنا ذكرى ماذا فعلوا به في المعتقل . من المفترض أن من يعطي البراءة يخرج متخففا ومطمئنا من الخلاص . لكن أن يخرج مرعوبا مدى الحياة فلابد أن شيئا جللا حصل .
محنة ( بس .. وقـّع ) حسب رواية الشهيد (قاسم عبد الأمير عجام) :
-------------------------------------
من مذكرات الشهيد الحبيب الناقد (قاسم عبد الأمير عجام ) : 6/1/1979 : (( في البيت التقينا بشقيقتي وزوجها وأطفالها ، وكان البيت ميدانا للركض وملعبا للكرة . لكن الطاحونة دارت . الحديث إياه : إستسلم استسلم يا أبا ربيع فما عادت المقاومة تجدي ، إخلدْ إلى الهدوء وانعمْ بالبركة فالكلّ فعلوها قبلك ، والصغار سجّلوا في (الطلائع) وأمّهم بدأت عملها في الحزب ، وسينضم أبوهم غداً ، فمتى ستفعلها أنت ؟ القرار ، واضح . الكل في حزب الدولة ولا غيره منبر أو كيان أو حركة . وكالعادة أضافت لهم السيّدة الوالدة مقولاتها المعتادة ورغبتها في الأمان وراحة البال وحاجتهم إلى سلامتي ، وبدأت تعيد قصص من عُذبوا حتى الموت .
كفى كفى . ودارت في الذهن أحاديث البارحة مع عديلي ، مطاردته حتى إرغامه على (التوقيع) – آهٍ من التوقيع – قلقه على أخته الطالبة الجامعية ، صور التعذيب التي حدّثوه عنها ، وتهديده باختطاف ابنته الطفلة الوحيدة وربما زوجته .. و ..و .
غادروا مساء . تمنّوا لي السلامة والصبر على المكروه ، فودّعتهم وعدت أجتر همومي مذهولا : كيف وصلتُ إلى هذا المنعطف ؟ كيف أصبح ممكنا أن أفكر أنا ، أنا ، بإمكانية ولوجه ؟ من منّا الجبان ومن منّا الشجاع ؟ الذي يموت تحت التعذيب وهو يدري أنه كان يركب سفينة مخروقة أم الذي يقرر الانتقال إلى سفينة أولئك الذين حاصروا السفينة الأولى ودفعوها نحو الهاوية ؟ ولكن هل يستطيع أحدٌ أن يقرّر ؟ وهل بمستطاع أحدٍ في بلادنا أن يقرّر لنفسه موقفا ؟ لست أدري شيئا ، ولا أعرف إلا أني حوصرت في عنق الزجاجة وأن الحياة ما عادت ممكنة بدون ركوب سفينة الحزب الحاكم ، القرار صريح أن تركب معنا أو تغرق في بحر الدم والعذاب ، ولست أريد أن أخسر الحياة في معركة خاسرة مقدّما من أجل ناس تنازلوا عن سبب المعركة وأهدافها . فما زال في القلب والرأس طموح بالعمل والخدمة . نعم ، الخدمة العامة ، والإبداع والسعي إلى حياة أخرى أجمل وأنظف – ص 166) 11/1/1979 : (( أخيراً وقع المحذور . جاء أحد (زوّار الفجر) واقتادني إلى المركز ومنه إلى المقر حيث مات الذي أحكي لك قصته ، وخرج من عنق الزجاجة شخصٌ آخر مخذولاً مذهولا يتلمس طريقا جديدا . فيا للحياة في هذا البلد من مهنة شاقة – ص 167) .
16/4/1979 : (( قديما قالوا : نعمتان مجهولتان ، الصحة والأمان . فكأنهم يقرؤون غد العراقيين الذين يعيشون أيامهم هذه التي نحيا ، فلا صحة بعد أن فقدوا الأمان . فكيف إذا كان الفقدان كلّياً إذ ليست هناك عصابات من قطّاع الطرق تخيفك ، فتفكّر أن تلجأ منها إلى مكان آكثر أمانا أو إلى قوة مضادة . الأمر هنا أنك لا تجد من تلتجيء إليه ولا مكانا تلتجيء إليه لسبب بسيط جدا هو لأنك عراقي . أجل ، وليس في الأمر مبالغة ولا تهويل ، فمادمت عراقيا فأنت وفق شريعة (الطريق الخاص) لابد أن تكون بعثيّاً . لماذا ؟ لكي تعيش . نعم ، لكي تعيش فقط . ولكي تبقى بعثيا مأمون الجانب عليك أن (توقّع) على قرار يحكم عليك بالإعدام مع سرعة التنفيذ فيما لو عملت لصالح جهة أخرى ... اليوم بدأتُ واحدا من مشروعاتي الصغيرة : قراءة الرواية الفرنسية .... وغداً أعود إلى العمل بعد إجازة مرضية - قرّرها لعشرة أيام - طبيب الأمراض النفسية ، فهل ذلك كاف للإبتعاد عن أصل المحنة ؟ ومنذ متى أهرب أنا من العمل ؟ ومنذ متى يُقال لي إنك مصاب بداء الكآبة ؟ وأنا ذلك الذي كان يغبطه الآخرون لشدة تفاؤله وثقته بالغد ، لعلّها بعض نتائج (التطبيق المبدع) لشعار ( الإنسان غاية الثورة ووسيلتها ) . لعلها كذلك وأنا أجهلها ، ولكن كيف سننجز مشاريع العمل مادام الآخرون يطاردونك في ساحاته كي تكون خروفا ؟ وبعد ... أفليس من حقنا أن نتساءل : هل كان قائل : الصحة والأمان نعمتان مجهولتان عراقيا عاش حياتنا هذه ، أم نبيّاً يتنبأ ويحذّر من مصير الحياة في ظلّ العسف والزيف ؟ - ص 167 و168 و169 ) ( القابض على الجمر – إعداد وتقديم د.نادية غازي العزاوي ) .