أمين الريحاني والتجدّد العربي بعد مائة عام
أمين الريحاني والتجدّد العربي بعد مائة عام:
كيف نقرأ رؤية الريحاني للتغيير في المجتمع العربي
د. نجمة حجّار
أستاذة الأدب العربي في جامعة سيدني- اوستراليا
ندوة في
مركز الحوار العربي
بمنطقة العاصمة الأميركية
الأربعاء 27 أيار / مايو 2015
أحب أولا أن أثني على جهود "مركز الحوار العربي" في العاصمة الأميركية، وعلى الاهتمام بدور الفكر والمفكرين في المجتمع العربي. أشكر بشكل خاص مي الريحاني وصبحي غندور للجهد الذي بذلاه لتنظيم لقاء الليلة. ويسعدني ويشرفني التحاور معكم حول رؤية أمين الريحاني في التجدد والتغيير العربي. فالريحاني كان كاتبًا ومفكرًا فعّالاً في عصره وبيئته. ولا شك أنه في حياته وأعماله وروحه وفكره وأدبه ما زال، حتى بعد مئة سنة، نموذجًا للمفكّرين الفاعلين الذين نتطلع اليهِم "لإعادة تصويب البوصلة" كما قال كلوفيس مقصود في كتابه من زوايا الذاكرة (ص13) وصبحي غندور في مقالته الأخيرة، ولإحداث التغيير المنشود في الوطن العربي.
من المفيد أن نقرأ رؤية الريحاني في التجدد العربي في سياق حياته وتكوّنه الفكري بين مؤثرات غربية وعربية استفاد منها وانتقدها في الوقف نفسه؛ وفي سياق عصره والبيئات التي كان يتحرك ويعمل فيها بين الشرق والغرب. وفي حوار الليلة، سأحاول التركيز على الأسئلة والآراء التي طرحها الريحاني، والتحديات التي استجاب لها. وطبعًا، لا بد لنا ونحن نواجه قضايا التغيير العربي، والأزمات المصيرية الوجودية، من أن نسأل أنفسنا، إلى أيّ حد يمكننا أن نتعلم من رؤية الريحاني وسيرته الفكرية لخدمة مجتمعاتِنا العربية والإنسانية في هذا العصر؟
"إنها بداية الربيع العربي" (أمين الريحاني، كتاب خالد، صدر سنة 1911).
هكذا منذ مائة عام أطلق أمين الريحاني حلمه بالتجدّد العربي. من قلب العالم العربي، في الجامع الأموي بدمشق، أعلن بطله "خالد" بداية التغيير لإحياء مجد العرب والإسلام. كفّروه. من أين لابن لبنان العائد من نيويورك أن يتكلم بلسان العروبة؟ ترك "خالد" الميدان. وبقي الريحاني على ثباته! ما لبث يكرر: "أنا لبناني متطوّع في خدمة البلاد العربية، وكلنا منها. وإني عربي متطوّع في خدمة الإنسانية، وكلنا منها" (التطرّف والإصلاح).
بهذه الحيوية والشجاعة والثبات، أعلن الريحاني انتماءه إلى الوطن العربي والوطن الإنساني معًا، والتزامه بخدمة العرب والإنسانية جمعاء. كلمة قالها مرارًا ودعا سائر العرب ليجعلوها شعارهم في الحياة. طبعًا لا يمكن أن نفهم كلمة الريحاني على أنها تناقض أو تذبذب في الانتماء، ولا بمعنى "أزمة الهوية" التي يعانيها الكثير من عرب اليوم، المغتربين والمستغربين والمغرَّبين (كل لفظة تعبر عن فئة من العرب الذين استوعبتهم بلاد الغربة، أو أولئك الذين تغرّبوا واغتربوا وهم في بلادهم).
إنما تعبر كلمة الريحاني عن اعتزازه بهويته الديناميكية وبإنسانيّته الفكرية. على الرغم من الهجرة، أو ربما بسبب الهجرة ومعاناة النفي عن الوطن (أو حتى داخل الوطن)، وبسبب الأحداث العالمية التي عاصرها وعاشها، ما تردد الريحاني يومًا في توكيد التزامه بقضايا الوطن العربي والمجتمع الإنساني. فكما أن حبه للبنان، أرض مولده، لم يتعارض أبدًا مع ولائه للوطن العربي الأكبر، كان هذا الولاء والحب أساس إخلاصه في خدمة الإنسانية.
قلت "الشجاعة والثبات" لأن الريحاني عاش في عالم لا يختلف كثيرًا عن عالمنا اليوم: عالم مقسّم بين قوي وضعيف، مسيطِر ومسيطَر عليه (وربما كانت حدود التقسيم كما يراها البعض اليوم)، بين عالم متمدّن وآخر بعيد وغريب عن الحضارة والتمدن (لا بل عالم متوحّش). ككثيرين منّا نحن العرب الذين نعيش في العالم الغربي اليوم، انتمى الريحاني إلى عالم الشرق وعالم الغرب في آن واحد دون تذبذب في انتمائه إلى أي منهما. بالعكس، رغم الأزمات الكثيرة، أو بسبب هذه الأزمات التي واجهت أهله ووطنه العربي، أصبحت هويته الديناميكية أكثر حضورًا وأصبح هو أكثر ثباتًا وإصرارًا على خدمة القضايا العربية والنضال في سبيل الحق العربي في المحافل الدولية، ومن موقعه كمفكِّر وناشط عربي، وإن كان يعتزّ بجنسيته الأميركية المكتسبة.
هذه الرؤية الإنسانية إنما هي ردّة فعل إيجابية على تشكّل شخصية الريحاني في عالمين وثقافتين مختلفتين. فحياته وتجربته الفكرية تعكس اجتهاده الثابت والعنيد لإقامة نوع من التوازن في انتمائه الشرقي-الغربي معًا في علاقة ديناميكية تهدف ليس فقط إلى الانشغال بقضايا الشرق والغرب ولكن أيضًا إلى تقريب هذين العالمين الواحد من الآخر وتفعيل علاقتهما لما فيه مصلحة شعوبـهما ومصلحة الإنسانية.
لم يكن الريحاني قد بلغ الثانية عشرة من عمره عندما هاجر إلى الولايات المتحدة سنة 1888، من بين أوائل اللبنانيين والسوريين الذين هاجروا بحثًا عن مساحة من الحرية وفرص لحياة أفضل في العالم الجديد. بدل اللجوء إلى حياة العزلة والانعزال، انخرط الريحاني في الثقافة العالمية لمدينة نيويورك، فانشغل بالفنون (التمثيل والرسم والكتابة)، بالإضافة إلى كل ما تقدمه نيويورك من وسائل اللهو والحياة الليلية الصاخبة. وفي نفس الوقت التزم ببرنامج صارم وضعه للتثقُّف بمطالعة الآداب العربية والغربية. هكذا وبعكس توقعات عائلته والتقاليد السائدة في أوساط المهاجرين العرب، خطّ الريحاني طريقه في عالم الكتابة والفنون في أميركا وأصبح أول مفكِّر عربي ثنائي اللغة وأول كاتب باللغتين العربية والإنكليزية في المهجر الأميركي. فهو ليس فقط مؤسس أدب المهجر، لكنه برأيي الأب الروحي والفكري للأدب الأميركي-العربي.
بعد أكثر من عشر سنوات على رحلته الأولى إلى نيويورك عاد الريحاني إلى وطنه الأول. وتكرّرت عوداته ورحلاته بين العالم الجديد والعالم القديم كان أهمها رحلته في الجزيرة العربية (1922-1923) لــ"تمهيد السبيل إلى التفاهم" فيما بين العرب، ورحلاته الأميركية (في السنوات 1929 و1939) دفاعًا عن حق العرب في فلسطين. وقد عززت رحلته العربية تحوّله من ماروني من جبل لبنان يخاف "بعبع" العرب إلى وطني قومي عربي في خدمة قضيتهم التي أصبحت "قضيته" (ملوك العرب). أما في رحلاته الأميركية فكان أول عربي يقف على منابر الجمعيات والجامعات الأميركية، الإنكليزية، محذرًا من "نكبة فلسطين بالصهيونية" (المغرب الأقصى)، قبل حوالي عشرين سنة من نكبة 1948.
أثناء تجواله في عوالم الشرق والغرب، نمت شخصية الريحاني في خطين متوازيين، انفتاح فاعِل على الثقافة الغربية، والتزام فعلي بالقضايا العربية. فتنته الحرية الأميركية فسألها: "متى تحولين وجهك نحو الشرق أيتها الحرية؟ . . . متى تدورين مع البدر حول الأرض لتنيري ظلمات الشعوب المقيدة والأمم المستعبدة؟" (الريحانيّات) لكن استبداد الرأسمالية ومساوئ الديمقراطية الليبرالية، كما خبرها في أميركا، أقلقته. فانتقد تمدن أهل الغرب المؤسَّس على "الاستئثار" و"روح التجارة الخبيثة"، لأن مثل هذا التمدن برأيه "لا يولد إلا الظلم والرذيلة" (الريحانيّات). في نفس الوقت، تفاعُل الريحاني مع المجتمعات العربية في الوطن والمهجر، نبّهه إلى مشكلات التخلّف والجهل والتعصّب في هذه المجتمعات، وإلى الهيمنة الاستعمارية الغربية على الثقافة ومصير الشعوب العربية. وهكذا التزم فكريًا وفعليًا ببرنامج للعمل والكفاح الجاد الدؤوب، فكتب المقالات في الصحف العربية والإنكليزية، وألقى المحاضرات في أميركا وأوروبا والعالم العربي، ونشر العديد من الكتب في فنون أدبية جديدة ومتعددة كالشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرح والمقالة، وكتب باللغتين في مواضيع فكرية متنوعة كالنقد الأدبي والفني والتاريخ والفلسفة والفكر الاجتماعي والسياسي، بالإضافة إلى كتب الرحلات والسيرة والرسائل.
لا شك أن معاناة المهاجرة الدائمة وتحدياتها (مع كل ما تحمله عملية المهاجرة من آلام الانسلاخ عن الوطن والتأقلم في الوطن الآخر)، هي التي ميّزت الريحاني عن سائر أدباء المهجر في زمانه، ولا أبالغ بالقول في زماننا. ولا شك أيضًا أن تثقُّف الريحاني على كبار الأدباء والمفكِّرين في الشرق والغرب، ودخوله معهم في حوار وجدل فكري (في تعليقاته على هوامش مطالعاته وفي كتاباته)، أهّله لأن يكون المحاور الأول بين ثقافة العرب والغرب. تفاعلُه مع الثقافة الغربية (قراءة ونتاجًا)، وبشكل خاص ملكته للغة الإنكليزية مكّنته من التحاور مع جمهور غربي مثقَّف يجهل الكثير عن الثقافة العربية. وفي نفس الوقت، تعمقّه المعرفي بالثقافة العربية ونهله اللغة من ينابيعها الأولى أتاح للريحاني التحاور بلغته الأم مع فئات واسعة من العرب على مختلف المستويات والاهتمامات الفكرية والسياسية.
ربّما لكل هذه العوامل، ولحكمته ومعرفته الموسوعية لقّب الريحاني في زمانه بـ"فيلسوف الفريكة". طبعًا لم يكن الريحاني فيلسوفًا بالمعنى التقليدي للكلمة، لكنه كان بحق مفكِّرًا متعمقًا حكيمًا. لا شك أنه برؤيته الفكرية الواسعة وبتصوّره لمجتمع متكافئ قائم على أسس الحرية والحق والعدالة الانسانية، وجهادِه لتحقيق هذه الرؤية، ارتفع الريحاني إلى مصاف الفلاسفة والمفكّرين العالميين الذين أعجب بهم أمثال أبي العلاء المعري وتولستوي.
وضع الريحاني لنفسه شعار "قل كلمتك وامشِ" وعاش بموجبه. لم يكتفِ بالقول لأن الكلمة عنده هي بداية العمل الذي لا يكل.
في العام 1935، ردّ الريحاني على استفتاء أجرته مجموعة من شباب الجامعة الأميركية نصه، "ما هو هدفكم الأسمى من جهادكم، وكيف ترجون الوصول إلى هذا الهدف؟" بالمختصر المفيد كتب، "هدفي في الحياة: أن أبذل ما في طاقتي كتابة وخطابة وعملاً لتحرير الإنسان من قيود الجهل والفقر والخوف، وتخفيف الآلام البشرية وإزالة الأوهام والأضاليل في العقائد والتعاليم السياسية والاجتماعية والدينية. ووسيلتي إليه: الفكر الحر والبحث الحر والقول الحر مجردًا من كل تحزب وتعصب وأهواء شخصية" (الريحانيّات).
كما ناقشت في دراساتي عنه، أقول إن الريحاني مفكِّر عضوي ملتزم. في غايته لتحرير الإنسان من القيود الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وفي أسلوبه في معالجة القضايا التي شغلته تميّز الريحاني المفكِّر الفاعِل عن مفكِّري زمانه، وكثيرين من مثقَّفي عصرنا من حملة الشهادات الجامعية. ما يتفرّد به الريحاني أن رغبته الصادقة في خدمة البشرية أينما كانت رافقتها ثقة أكيدة بالنفس وشعور بالواجب بتوجيه الانتقاد لثقافتي ومجتمعي الغرب والشرق لكشف عيوبهما والاستفادة من حسنات كل منهما. هذا النقد المزدوج البنّاء هو المبدأ الذي قامت عليه فكرة التقدم عند الريحاني، وهي فكرة أساسية في تصوّره للتجدّد العربي والتغيير.
الجدير بالذكر أن النقد المزدوج والتبادل الحضاري (التبادل الثقافي والمعرفي على أسس حضارية كالتساهل والاحترام المتبادل)، من أهم الأفكار التي تطورت عند الريحاني مع ارهاصات التغيير في الوطن العربي في أوائل القرن العشرين، وهي من أكثر أفكاره ثباتًا واستمرارية. عام 1913 كتب من نيويورك لـ"صديق عزيز" في مصر، "إني في بلاد الغربة لا ارى حسنة من حسنات التمدن إلا وأتمناها لبلادي . . . وأعد نفسي سعيدًا إذا تمكنت وإياك وإخواننا المفكِّرين المخلصين من رفع نقاب الجهل الكثيف ليرى العرب شيئًا من نور العلم الذي هو أساس المدنية الجديدة. إني أتمثل دائمًا أمة عربية ناهضة عاملة مستيقظة، لا تنفر من الأوروبيين ولا تخشاهم، بل تقف أمامهم معتمدة على نفسها مستقلة بأمرها، . . . أمة أبيّة، كريمة، عزيزة، ظافرة، كسائر أمم الغرب صاحبات الصولة والاقتدار. وإننا لا نفوز بأمنيتنا هذه إلا إذا اقتدينا باليابانيين، فنأخذ عن أوروبا حسناتها فنضمها إلى حسناتنا، ونعززها بالسعي والعمل والجد والنشاط" (رسائل أمين الريحاني). لم يتخلَّ الريحاني عن فكرة التبادل الثقافي. بل بقي ثابتًا في إيمانه وتفاؤله بأن التبادل الحضاري هو السبيل الأضمن ليحقق العرب التقدم والتغيير المنشود والفوز في معركة الحضارة، معركتهم في الداخل والخارج، مع الذات ومع الأمم الشرقية الأخرى (إيران مثلاً) ومع الغرب (القوميّات).
من هذا المنطلق يجب أن نفهم نقده المزدوج لما في الثقافتين والمجتمعين من سيئات. والأهم من هذا أسلوبه الجريء والعنيد في انتقاد ما رآه معوّقًا لمسيرة التقدم الحضاري. في العالم العربي، انتقد الريحاني بشدة وثبات كل أشكال التعصب الديني والطائفي والمذهبي والقبلي والإقليمي. رفض الفينيقية اللبنانية والفرعونية المصرية والمارونية السياسية والوحدة الإسلامية السورية وفكرة الوحدة الإسلامية باعتبارها كلها أيديولوجيات انعزالية. في نفس الوقت هاجم الاستعمار الأوروبي واستعلاء الغرب، وانتقد خطاب الاستشراق (أو بعض مظاهره) ومدارس الإرساليات الأجنبية والمؤسسات الطائفية في الوطن العربي. كما استنكر تشرذم العرب ورضوخهم للسياسات الأوروبية الهادفة إلى التفرقة فيما بينهم لتعزيز سيادة الاستعمار والامبريالية في الوطن العربي.
لم يفوّت الريحاني أي فرصة لرفع صوته بالنقد البنّاء. الواقع الاجتماعي والسياسي، الظلم والجهل والتخلف والانشطارات في الوطن العربي كلها شددت من عزمه على الفعل والالتزام بالقضايا الوطنية. كتب وحاضر ونظّم جمعيات ثقافية وسياسية، وفاوض السياسيين والناشطين في العمل السياسي؛ نظم المظاهرات و"أيام الغضب" وشارك بالمقاومة السلمية والإضرابات والمقاطعة الاقتصادية. تعرّض للنفي والتهميش. أُحرقت كتبه وصودرت ومُنعت في عدد من البلدان العربية. ومع ذلك بقي هذا الناشط الحر والسياسي "غير المحترف" ثابتًا في مواقفه، مثابرًا على العمل لتحقيقها. لم ينتمِ إلى أي حزب أيديولوجي أو سلطة سياسية أو نظام حكم واستمر في طرح الأسئلة المحرجة والوقوف إلى جانب الحق في مواجهة ذوي السلطة أيًا كان شكلها دينية أو فكرية أو سياسية.
أود التوقف هنا عند موقف الريحاني من القضية الفلسطينية ودفاعه الشجاع عن حقوق الفلسطينيين في أرضهم، ومناشدته الملوك والرؤساء العرب للوقوف بوجه المخططات الصهيونية في فلسطين. صحيح أن الريحاني لم يعش ليرى النكبة التي حذّر منها. لكن ما يحصل في فلسطين والعالم العربي اليوم، يزيد من تقديرنا لجهد الريحاني الفكري والفعلي، خاصة فهمه المتعمق للأوضاع السياسية الداخلية والإقليمية والدولية، وتحذيره من انقسامات الفلسطينيين، ورؤيته الواضحة للسلام العالمي انطلاقا من السلام في فلسطين.
انشغل الريحاني بإشكاليات التغيير في الوطن العربي. لكنه تفرّد (عن معاصريه ومعاصرينا) برؤيته التقدمية (بالمعنيين تصوره لسبل التقدم وريادته الفكرية) للتجدّد العربي والتحرّر من قيود التخلّف واستعمار الغرب من جهة، وجهاده الفكري والسياسي لتفعيل العلاقة بين العرب فيما بينهم ومع العالم الغربي من جهة ثانية. عاش الريحاني في زمن وصل فيه استعمار الغرب للوطن العربي أقصى درجاته. أدرك بدقة ملاحظته أن أخطر العقبات التي تحول دون التغيير في المجتمع العربي هي حالة التخلّف والتشرذم والتجزئة السياسية التي سببتها الانقسامات الطائفية والقبلية والإقليمية، بتشجيع من سياسة "فرّق تسد" التي اعتمدتها القوى الأوروبية العظمى. وأيقن أن الروح العربية القومية هي خلاص العرب وأن الوحدة الوطنية هي السبيل الوحيد لمواجهة التحديات الداخلية والتحرر من استبداد الاستعمار وسياسات التوسع الغربي.
نادى الريحاني ببناء مجتمع عربي على أسس ديمقراطية (كالمساواة بين الطوائف والأديان وبين الرجال والنساء)، وبإقامة علاقات متكافئة للتعاون الثقافي والسياسي بين العالم العربي والغرب. وشدّد على أن تقوم علاقات العرب فيما بينهم ومع الغرب على مبادئ الحق والعدالة والاحترام المتبادل. حلم الريحاني بمجتمع عربي عَلماني موحد يقوم على مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص والحرية التي اعتبرها من حقوق الإنسان المشروعة، وعمل على بناء هذا المجتمع (لو أنه استخدم لفظة "عَلماني" و"عَلمانية" فقط في سياق الحديث عن التعليم والمدارس) (القوميّات). بذل جهدًا جبّارًا لمساعدة العرب في تحقيق التنمية الاجتماعية والتقدم الثقافي والاقتصادي والوحدة الوطنية. وحثهم في نفس الوقت على مباشرة حوار ثقافي فاعل وايجابي وبنّاء فيما بينهم اولاً ومع المجتمعات الغربية من جهة ثانية.
أصر الريحاني على أنه يستحيل على العرب تحقيق التغيير الحقيقي والتقدم ما لم يتوحدوا. والوحدة مستحيلة ما لم تحل الهوية الوطنية الشاملة محل الهويات المذهبية والمحلية الضيقة. لذا ناشد العرب بتنمية الروح الوطنية والقومية العربية غير الدينية لمواجهة الولاءات الطائفية والمحلية والقبلية. هذه الروح الجامعة الشاملة هي العروبة العلمانية. هي برأيه التي ستقود العرب إلى النصر في معركتهم من أجل التقدم والتحرر من الاستعمار، وهي التي ستعيد إليهم مجدهم ومكانتهم بين الأمم المتحضرة ليساهموا مجددًا في الحضارة الإنسانية العالمية.
على هذا الأساس أصر الريحاني على بناء دولة عربية عَلمانية يتساوى فيها كل المواطنين في الحقوق والواجبات. في الدولة الوطنية القائمة على فصل الدين عن الشؤون الزمنية والسياسة، رأى الريحاني الحل لمشكلة الأقليات التي استغلتها الدول الاوروبية لتثبيت الاستعمار في الوطن العربي. فالعروبة وحدها (وهي عنده فكرة ثقافية لا اثنية ولا عرقية)، يمكن أن تمنح المسيحيين والأقليات الأخرى حق المواطنة وتؤسس لدولة يتساوى فيها جميع المواطنين. هذا التركيز على الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص كمبدأ أساسي للوحدة هو أهم ما يميز رؤية الريحاني الإنسانية للقومية العربية.
والجدير بالملاحظة أن مفهوم الريحاني للوحدة مفهوم عملي وديناميكي. فتصورّه للوحدة تطوّر خاصة بعد الحرب العظمى من الوحدة الوطنية الصغرى بين لبنان وسوريا (بما فيها فلسطين) من جهة، ووحدة الجزيرة العربية من جهة ثانية، إلى الوحدة القومية العربية الكبرى، أي الوحدة الثقافية والجغرافية والسياسية بين بلدان المشرق العربي. فالوحدة العربية القومية إذن تطور طبيعي وضروري لتحقيق مستقبل عربي أفضل. لذا يجب أن تتم تدريجيًا على أسس ديمقراطية تحترم حرية وإرادة كل الشعوب العربية المعنية بالوحدة، بالإضافة إلى احترام خصوصيات هذه الشعوب ومصالحها.
تجدر الإشارة هنا إلى براغماتية الريحاني وتصوره العملي للوحدة العربية. ففيما يخص نظام الحكم السياسي أصرّ على أن يتناسب مع ظروف البلدان العربية وخصوصياتها الثقافية والاجتماعية والسياسية (مثلاً الملكية الدستورية تتناسب مع أوضاع الجزيرة العربية بينما النظام الجمهوري البرلماني يناسب لبنان وسوريا). ومن الناحية العملية وضع الريحاني عددًا من الشروط اللازمة لتحقيق الوحدة. ففي الجزيرة العربية مثلاً حث على تطوير المؤسسات السياسية والبنى التحتية وتنمية الطاقات البشرية بالتربية والتعليم. وفي لبنان وسوريا أصر على ضرورة تأسيس حكم مدني ديمقراطي وعلى التنمية الاقتصادية والتحرر من الانتداب الفرنسي ومن الهيمنة الثقافية الغربية. هذه الشروط مرتبطة بشكل مباشر بفكرة التقدم عند الريحاني، وبمبادئ الحرية والعدالة والمساواة التي أصر على أنها شروط جوهرية بدونها لا يمكن بناء الأمة العربية الجديدة. وبرأيي، هذا الإصرار هو الذي يجعل من الريحاني رائد الديمقراطية وحقوق الإنسان في الخطاب العربي القومي المعاصر.
ليس فقط لريادتها ولكن ربّما أيضًا بسبب عمليتها وواقعيتها، ما زالت الأفكار التي طرحها الريحاني لمواجهة تحدّيات التغيير منذ مائة عام تتردّد في الأوساط الفكرية. ويرى فيها البعض حلولًا ممكنة لكثير من القضايا العربية المعاصرة خاصة في إطار حركات التغيير الديمقراطي والثورات والانتفاضات التحرّرية التي يشهدها الوطن العربي اليوم. ولا شك أن رؤية الريحاني العلمانية المنفتحة على الثقافات والشعوب الأخرى، خاصة في إطار البحث عن السلام في العالم، هي رؤية بديلة لأيديولوجيا التطرف سواء في الخطاب الديني والمذهبي والطائفي، أو خطاب "صراع الحضارات" الذي يروّج له بعض المستشرقين والاستراتيجيين في الغرب (ومنهم أولاد عرب!)
لا شك أن الشعوب العربية بدأت نضالها من أجل النهضة والتغيير منذ قرنين من الزمن. لكنها لم تصل إلى غايتها المنشودة بعد. رغم الحراك الشعبي والثورات، ومع العنف الذي يعيشه العالم العربي اليوم، تجد الشعوب العربية نفسها، أكثر من أي وقت مضى، عاجزة عن تقرير مصيرها في عالم يسيطر عليه الآخرون. ولا شك ايضًا أن "الأصدقاء" في الخارج مدّوا يد المساعدة، في أكثر من مناسبة، لـ"تحرير" الشعوب العربية. أثناء الإعداد الأميركي لغزو العراق بحجّة التحرير وإحلال الديمقراطية (سنة 2003)، انتقد المفكِّر الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد السياسة الأميركية قائلاً، "إنهم يجعلون من الديمقراطية مسألة تافهة عندما يدّعون أن هذا ما يفعلونه في الشرق الأوسط. لا أعتقد أنه حدث في التاريخ أن تحققت الديمقراطية بالقصف والغزو. لا شك أننا مقبلون على أوقات عصيبة" (E. W. Said, Culture and Resistance, 144).
سبق الريحاني إدوارد سعيد إلى مثل هذا التحذير بأكثر من سبعين سنة. في الثلاثينيات، خاصة بعد أن انكشفت نوايا الحليف الغربي على أرض الواقع العربي، وانقلبت المساعدة الصديقة إلى حماية ووصاية وانتداب واحتلال، حذّر الريحاني الدول الغربية من سياسة التدخل والهيمنة الثقافية والسياسية في العالم العربي. رغم اعتزازه بجنسيته الأميركية المكتسبة وما تقدمه أجواء الحرية في أميركا، حذّر من أنه لا يمكن فرض الحرية والديمقراطية بالقوة سواء بثورة من الداخل أو باحتلال من الخارج. كعربي عاش في الشرق والغرب، وكمواطن أميركي استفاد من الفرص التي أتاحتها الديمقراطية الأميركية، على سيئاتها، حلم الريحاني بتأسيس مجتمع عربي ديمقراطي بمساعدة غربية (خاصة في مجال العلوم والتكنولوجيا والإدارة). واجتهد فكرًا وفعلاً لمساعدة العرب شعوبًا وحكومات لبناء هذا المجتمع حتى يساهموا في الحضارة الإنسانية ويستعيدوا دورهم الفاعل بين الأمم. لكنه أصر على أن التغيير لا يمكن أن يفرض عليهم من الخارج بل يجب أن ينبع من الداخل وبالأخص من داخل ذواتهم.
في محاضرة ألقاها أمام جمهور أميركي مثقَّف في جامعة إلانوي سنة 1930، حذّر الريحاني الغربيين من فرض مفهومهم للحرية والديمقراطية على العرب والمسلمين، "ليس قبل أن تنمو قدراتهم الفكرية ... وعلى كل حال من الخطر فرض التغيير عليهم بالقوة." وشدّد على أن السبيل الوحيد لتحقيق التقدم والحفاظ على السلام العالمي هو "التفاهم والاحترام المتبادل" بين الشعوب والأمم "بغض النظر عن الطبقة أو الدين أو العرق أو اللون." بلغة إنكليزية بليغة وأسلوب ساخر قال لسامعيه، "إذا فرضتم علي وجهة نظركم بواسطة التشريع أو الدين ستجعلون مني عبدًا أو منافقًا أو حمارًا، هذا إذا قبلت تشريعكم أو دينكم. إما إذا لم أرضخ ولجأتم أنتم إلى القوة فستحصل اضطرابات وصراع وثورة وحرب" (Rihani, The White Way and the Desert, 21). باعتبار إيـمان الريحاني الراسخ بمبادئ الحرية والمساواة بين الشعوب، لا يمكن فهم قوله على أنه معاد للديمقراطية أو للحرية؛ ولا انتقاده للغرب كموقف معادٍ لأميركا كما قد يفسَّر في الأجواء الراهنة.
يجب ألا يغيب عن بالنا أن الريحاني عاش ذروة الزمن الامبريالي. معاينته للاستعمار بمختلف أشكاله، المكشوفة وغير المعلنة، زادت من قناعته بأن مبادئ العدالة الغربية التي أعجب بها لم تطبقها القوى العظمى على الأمم الصغرى (وهذا ما توصل إليه بعض المفكِّرين العرب أمثال إدوارد سعيد وكلوفيس مقصود وهشام شرابي وحليم بركات في أميركا، وأحمد الشبول في أستراليا، وغيرهم بعد أكثر من سبعين سنة).
عانت الشعوب العربية من الهيمنة الغربية على مقدراتها ومصيرها منذ أكثر من مائتي سنة. والريحاني كان المفكِّر الوحيد في عصره الذي جسّد في حياته وفكره ونشاطه عمق هذه المعاناة الجماعية على مستوى البلاد العربية كلها. من هذا المنطلق رأى أن الاستعمار الغربي (السيطرة السياسية والهيمنة الثقافية)، أعظم النكبات التي ألـمّت بالعرب في تاريخهم الحديث.
النضال ضد الحكم الأجنبي لم يصرف الريحاني عن معركة العرب الداخلية من أجل الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية والتقدم الثقافي والفكري. من هنا كان نقده المزدوج للامبريالية الغربية وللجمود والتخلّف العربي. بمعرفته الواسعة وخبرته العميقة أمل الريحاني في إحداث تقدّم على الصعيد الداخلي (في السياسة والاقتصاد والمجتمع)، وتغيير في النظرة المتبادلة والعلاقة بين العالمين الغربي والعربي.
طبعًا الريحاني ابن زمانه. كان يأمل بأن تأخذ التطورات العالمية مسارًا إيجابيًا خاصة في إطار علاقات العرب فيما بينهم ومع الدول الأوروبية، وما كان يرى أنه تدخل أميركي إيجابي على صعيد الاقتصاد والسياسة. بتفاؤل المفكِّر، رأى الريحاني أن العالم مقبل ليس على "صراع الحضارات" كما تنبأ صموئيل هانتنغتون فيما بعد، ولكن على حقبة جديدة من "حوار الثقافات"، يكون له فيها الدور الفاعل.
خبراته في كل من الشرق والغرب مكنته من تقدير نقاط القوة في كل من العالمين دون أن يجهل (أو يتجاهل) نقاط ضعفهما. فالتزم برسالة هادفة إلى تقريب العالمين الواحد من الآخر وتشجيع العلاقات الايجابية بينهما. خاطب القراء والمستمعين وأصحاب الرأي والقرار لحثهم على التلاقي حول الخير المشترك والعمل على التفاهم وتبادل القيم والخبرات على أسس التساهل وتبادل الاحترام. فانشغل بتفعيل الدور العربي في الحوار الثقافي، وهو الهم الرئيسي لكثير من المفكِّرين العرب اليوم المنتشرين في بلاد الشرق والغرب.
أود التشديد على أن خطاب الريحاني الرصين ودعوته للتحاور العقلاني بين الشرق والغرب يجب ألا يصرف انتباهنا عن شجاعته الأخلاقية والتزامه الفعلي بالدفاع عن الحقوق المشروعة وكرامة الشعوب الضعيفة التي تشمل العرب. صحيح أن فكره يكشف عن ملامح صوفية وبراغماتية في آن واحد، لكن دفاعه عن كرامة الشعوب العربية وحقوقها المهدورة لم يتزعزع أبدًا.
قلت في أكثر من مناسبة إن الريحاني هو رائد اتجاه الأنسنة في الفكر العربي الحديث. وما يميزه عن كثير من المفكِّرين المعاصرين هي تلك الثقة بالنفس والجرأة التي أعلن بها تمسّكه بهويته العربية وبرؤيته الإنسانية في زمن كان فيه العرب العنصر المغلوب. ربما لهذا استحقّ لقب "فيلسوف الفريكة". ويجب ألا ننسى أنه من هذا الموقع بالذات، كمفكِّر عربي إنساني أصبح الريحاني من أبرز المدافعين عن حركة التحرّر القومية في "البلدان العربية جمعاء"، على حد تعبيره، وأول عربي على الإطلاق يدافع عن الحقوق العربية في فلسطين من على المنابر وممرات السياسة والدبلوماسية الدولية. بثبات وجرأة دافع الريحاني عن حق الشعوب بتقرير مصيرها، لأنه "حق مقدس" من حقوق الإنسان الطبيعية (وصيّتي). فعمل في سبيل استقلال لبنان وسوريا من الانتداب الفرنسي وحاضر في أميركا للرد على الإدعاءات الصهيونية والدفاع عن حق العرب في فلسطين. دفاعه عن الفلسطينيين كان نابعًا من إيمانه الثابت بعدالة قضيتهم وحقهم بالحرية كحق أساسي من حقوق الإنسان، ومن إيمانه المخلص بأن "تحقيق السلام في العالم يتوقف بنحو أو بآخر على السلام في الأراضي المقدسة" (Rihani, The Fate of Palestine, 30).
قال الريحاني إنه "بطبعه رجل سلام" (Rihani, Letters to Uncle Sam, 12). ومع ذلك ناضل ضد الاستبداد والظلم: استبداد السلطنة العثمانية، واستبداد الحكومات الوطنية في ظل الانتداب، وظلم الحكام والملوك المستأثرين بالسلطة، والظلم الذي ألحقه الاستعمار بالعرب، خاصة في فلسطين حيث حذّر من النكبة قبل وقوعها سنة 1948. مع رؤيته المسالمة دافع الريحاني عن حق الشعوب في النضال لتقرير مصيرها. وقد ارتقى دفاعه عن هذا الحق إلى أرفع مستوياته في وصيته "الفكرية" التي خطّها بيده سنة 1931 لتتلى بعد موته.
قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأكثر من خمس عشرة سنة، أعلن الريحاني أن الحرية حق إنساني "مقدّس"، وحثّ الأمم المستعبدة على الجهاد في سبيلها. طبعًا هذا لا يعني أنه أعلن "الحرب المقدسة" كما يفهم "الجهاد" المتطرفون الإسلاميون وبعض المدّعين من "خبراء الشرق الأوسط". فالريحاني استخدم لفظة جهاد بمعناها الصحيح اي بذل الجهد. إلا أنه رفع الجهاد الروحي والمقاومة السلمية فوق المقاومة المسلحة (باستثناء دعوته السوريين في الحرب العظمى للمشاركة بتحرير البلاد حتى لا يحرّرها ويحكمها الأجنبي). وقد تأكدت له هذه الحقيقة خاصة بعد أن تحققت مخاوفه من نوايا الحلفاء الغربيين وأدرك حقيقة "وعود الحرب اللماعة التي خدعت كثيرين" غيره من العرب (القوميّات).
طالب الريحاني بالتغيير الثوري. لكن الثورة كما فهمها يجب أن تنبثق من داخل الأمم والشعوب، رجالاً ونساء. آمن بأن التحرّر لا يكون بالتغيير السياسي وحده، فنبّه بعد إعلان الدستور العثماني سنة 1909 إلى أنه إذا لم يحرر الإنسان نفسه من "التقية والخوف والذلة والجبانة"، "فمئة قانون ومئة دستور لا تحرره." إنها "الثورة الخلقية" تلك التي تحدّث عنها وهي التي ستُحدث "الانقلاب العظيم" والتغيير الحقيقي وتساعد في "ارتقاء" الحياة العربية. "أناشدكم بالحرية"، قال في خطاب بعنوان "الثورة الخلقية"، "إخواني! أرفعوا أعلام الآداب في البلاد، شيّدوا صروح التهذيب، أسّسوا معاهد للفنون، فإن الآداب والتهذيب والفنون هي القوى المعنوية الروحية ... التي يتوقف عليها تحرير الإنسان، وتحرير الشعوب والأمم" (القوميّات).
مهما تغيرت الظروف بقي الريحاني ثابتًا في رأيه أن النهضة العربية تتوقف "على مقدمتين جوهريتين: الأولى تستوجب " تنقية الدين وتخليصه من السياسة" كـ"شرط جوهري للإصلاح الحقيقي الذي يبتدئ فيّ وفيكم ويتدرج ... إلى رؤسائنا وحكامنا." هذا يقود إلى المقدمة الثانية وهي التربية والتهذيب كشرط جوهري للتطور الهادئ والثابت ولتنمية الشعور الخالص للوطن (القوميّات).
عندما أعلن "بداية الربيع العربي" منذ مائة سنة، كان الريحاني واعيًا أن "الشرق الجديد قد بدأ ... يلهو بلعبته الجديدة - بتقرير المصير، والاستقلال، والبرلمان، والدستور." لكنه وهو "في حال التحول" كان بحاجة إلى "طريقة أخرى غير الثورة مثلاً، هي طريقة التطور الطبيعي" التي تقضي على "أسباب التقهقر، الجهل والكسل والادعاء." كان الريحاني يأمل بإصلاح الأمة قبل السياسة، وهذا لا يكون إلا بالتربية العصرية، "التربية الحقة" القائمة على عدة أصول اختصرها بـ: "الاعتماد على النفس، كرامة النفس، حسن الظن بالناس، حرية الإرادة، الجرأة الأدبية، نبذ العقائد والتقاليد القديمة البالية، الصراحة في الصدق والقول، الاستقامة في الرأي وفي العمل، حب العدل والإنصاف واللاطائفية في السياسة وفي الآداب" (التطرّف والإصلاح). "عشرة أصول في تكوين الأخلاق العالية" تخلّق الريحاني بها قولاً وفعلاً. وهي برأيه أكثر ما تحتاجه البلاد العربية للتحرّر، لا للرمح والسيف، ولا للمدافع والمدرعات، ولا للطائرات المدمرة، بل لــ"سلاح الفكر" إذا كان لا بد من السلاح، كما أكّد في مقالة "إصلاح الأمة" (نشرت في التطرّف والإصلاح).
انشغل الريحاني بالمستقبل العربي. منذ مائة سنة أعلن أن التجدّد العربي لا يمكن أن يقوم إلا على مبادئ العقلانية والحرية والديمقراطية العلمانية. لكنه أصرّ على أن التغيير الحقيقي لا يقوم بثورة مسلحة، لا حركات دينية أو مقاومة سياسية مسلحة في الداخل، ولا معارضة داخلية أو خارجية تدعمها القوات البحرية والجوية الآتية من الشرق أو الغرب. فالثورة الحقيقية مسؤولية المفكِّرين النساء والرجال. هم روّاد الثورة الطبيعية الثابتة في الأمم الشرقية والغربية، وهم كما يقول الريحاني، "مثقِّفونا جميعًا في الشرق كنا أم في الغرب" (Rihani, The White Way and the Desert, 31).
---------------------------
هذه المحاضرة مبنيّة على أبحاثي ودراساتي المنشورة وغير المنشورة حول فكر وأدب أمين الريحاني.