فأَصْبَحَتْ كالصَّرِيم
مساقات 472
العابثون بالتاريخ!
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيْفي
يذهب (د. كمال الصليبي) إلى أن (مِصْر) تقع بين (أبها والخميس)؛ فهي لديه قرية مجهولة سمّاها (المِصرمة/ المصرامة). والدليل: (ميم، صاد، راء). وسبحان الله، فقد كانت تلك القرية التعيسة المجهولة مملكة عظيمة مثل مملكة الفراعنة في وادي النيل، ولها مَلِكٌ فرعون. تخيَّلوا: مَلِكًا فرعونًا لقرية! وفيها طِبٌّ متطوّر، وأطباء مهرة، وهي تُحنِّط الموتى من العظماء، وتستعمل التوابيت. ولذلك أَمَرَ (يوسف) أطباء المصرمة بتحنيط أبيه (يعقوب)، كما زعم المؤلف في كتابه "خفايا التوراة"(1).
ولا غرو، فهي مستعمرة مِصْريَّة، كما يزعم. ذلك أنه لمـَّا تورَّط في الزعم أن المصرمة هي مِصْر التوراتَّية، وجد بعض التفاصيل المِصْرَّية الدقيقة والصميمة في مِصْريَّتها، لا سبيل إلى نقلها إلى (عسير) إلَّا بالإرداف بزعمٍ آخَر أن المصرمة كانت مستعمرة مِصْريَّة. وهذا ما فعله في كتابه اللاحق "خفايا التوراة"(2). ومع أنها مجرّد مستعمرة، فلها مَلِك فرعون. ولمَّا لم يكن لقب فرعون مستعملًا في ذلك التاريخ، حتى في مِصْر نفسها، زعم زعمًا إضافيًّا أن مِصْر استوردت من عسير لقب فرعون، ليُستعمَل في مِصْر، 950 قبل الميلاد تقريبًا؛ ليصبح الفرعُ أصلًا والمستعمَرةُ مستعمِرة.
ولقد كانت المصرمة نسخة أخرى مصغَّرة من مِصْر السابقة واللاحقة في كلِّ شيء، لا تنقصها سوى الأهرامات! بل لها نهرُ نيلٍ خاصّ، هو (وادي لِـيَة)، كما قال، و"يبدو [لاحظ "يبدو" هذه!] أن هذا الوادي عُرِف في الأزمنة التوراتيَّة بنهر مصرايم"!(3)
والمصرمة- التي هي تارة "قرية" وتارة "أرض"- استوعبت من (بني إسرائيل) وحدهم ستة آلاف، هذا من الذكور فقط! بما يقارب، في الأقل، 10000 (عشرة آلاف إسرائيلي)، إضافة إلى أبناء البلاد الأصليِّين، الذين هم بالتأكيد أضعاف ذلك. ولنقُل مثلًا: نحو 30000 (ثلاثين ألف نسمة)، قاطنين في قرية المصرمة بين أبها والخميس! بل سيحدِّثنا العهد القديم (التوراة) عن أن الخارجين من مِصْر من العبرانيِّين كانوا يبلغون 600000 (ست مئة ألف ماشٍ من الرجال فقط)، عدا غيرهم من الولدان والنساء، ولفيفًا كثيرًا معهم، والغنم والبقر والمواشي الوافرة جدًّا.(4) وهذه الأرقام تساق باعتراف الصليبي(5) نفسه، لكنها لا تحرّك لديه استغرابًا. وتقديرًا، فقد كان بنو إسرائيل لا يقلّون عن (مليون نسمة) مع مواشيهم وأمتعتهم. كلّ هؤلاء استوعبتهم قرية المصرمة المعجزة- حسب الصليبي- إلى جوار أهلها الأصليِّين! وطبعًا كلّ مكان، كبُر أم صغُر، يتحوَّل لدى المؤلّف إلى قريةٍ؛ فدولة مِصْر: قرية، والمُدُن: قُرَى، والبيوت العائليَّة: قُرَى، والناس بدَورهم يتحوَّلون إلى: قُرَى!
إن سكان قرية المصرمة، إذن، كانوا يَرْبُون على 3000000 (ثلاثة ملايين)، في أقلّ تقدير، بناءً على نصّ التوراة! فيا لها من قريةِ نملٍ أُسطوريَّة حقًّا، لم يسمع عنها أحد!
ومع أن الصليبي ظلّ يزعم أن إقامة بني إسرائيل كانت في (المصرمة= مِصْر)، فإننا حين نقرأ في (سِفر الخروج، الإصحاح 12، 37): "فارْتَحَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ من رَعَمْسِيسَ إلى سُكُّوت"، نفهم أن (رعمسيس) و(سكوت) تقعان في (مِصْر= المصرمة). والسياق يدلّ على أن نقطة انطلاقهم خارجين من مِصْر كانت رعمسيس، وأنها كانت في أرض إقامتهم أو في جوارها. ولمَّا لم تكن قرية المصرمة لتستوعب ما استوعبته مِصْر التوراتيَّة- مهما حاول الصليبي الادّعاء- فقد ذهب إلى القول إن (رعمسيس) و(سكوت) كلتيهما تقعان في (سراة بالقرن)!(6) فهل كانت المصرمة في بالقرن؟ أم في جوار خميس اِمْشيط؟
إنه لا يفكِّر إلّا في الحروف. ولذلك لا يسأل لِمَ سمِّيت المصرمة بهذا الاسم؟ وإلَّا لوجد احتمالات لغويَّة عربيَّة عديدة، لا علاقة لها لا بمِصْر وادي النيل ولا بمِصْر التوراتيَّة. أ فلم يعد في مادة (صرم) أو (مصر) إلّا (مصر أو مصرايم)؟! إن "الصرم" في العربيَّة: القَطْع. والصَّرامُ والصِّرامُ: جَدادُ النخل. وصَرَمَ النخلَ والشجرَ والزرع يَصْرِمُه صَرْمًا واصْطَرَمه: جَزَّه. والصَّريمُ: الكُدْسُ المَصْروم من الزَّرْع. فيُقال: نَخْلٌ صَريمٌ، أي مَصْروُمٌ. وفي (القرآن الكريم): "إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، ولَا يَسْتَثْنُونَ، فطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِن رَبِّكَ وهُمْ نَائِمُونَ؛ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيم، فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ: أَنِ اغْدُوا علىٰ حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ".(7) وأَصْرَمَ النخلُ: حان وقتُ صِرامِه. والصُّرامَةُ: ما صُرِمَ من النخل. والصِّرامُ: قَطْعُ الثمرة واجتناؤها؛ يقال: هذا وقتُ الصِّرامِ والجَذاذِ. وقد يطلق الصِّرامُ على النخل نفسه لأَنه يُصْرَمُ. والصَّريمُ والصَّريمةُ: القِطعة المنقطعة من معظم الرمل. وصَريمةٌ من غَضىً وسَلَمٍ وأَرْطىً ونخلٍ أي قطعةٌ منه. ويقال للقطعة من الإبل أو الغنم صِرْمةٌ إذا كانت خفيفة، ويقال لصاحبها: مُصْرِمٌ، وصاحبتها: مُصْرِمة. والصَّريمَةُ: الأَرضُ المحصودُ زرعُها. والصريم أرضٌ سوداء لا تنبت شيئًا. والصُّرامُ اسم من أسماء الحرب والداهية. وأَصْرَمَ الرجلُ: افتقر. ورجل مُصْرِمٌ: قليل المال من ذلك، وامرأة مُصْرِمة كذلك. وقيل هو من بقيتْ له صِرمة من مال. والمِصْرَم، بالكسر: المِنْجَل. والصِّرْم، بالكسر: الأبيات المُجْتَمِعة المنقطعة من الناس، والصِّرْم: الفِرْقة من الناس ليسوا بالكثير. وناقة مُصْرِمةٌ ومُصَرَّمةٌ: مقطوعة الطُّبْيَيْنِ أو منقطعة اللبن. وأرض صَرْماءُ ومُصْرِمة: لا ماء فيها. وصِرْمَة وصُرَيْم وأَصْرَم: أسماء. وفي الحديث: أن النبي غَيَّر اسم (أصْرَم) فجعله (زُرْعة)؛ كَرِهَه لما فيه من معنى القطع، وسمّاه زُرْعة لأنه من الزَّرْع.(8) ويقول الشاعر الجاهلي (المرار بن منقذ)(9)، مثلًا:
رَأَتْ لي صِرمَةً لا شَرخَ فيها أُقاسِمُها المَسائِلَ والدُّيونا
و(بنو صَريم): بطن من (تميم)، وبطن من (ضَبَّة)، وبطن من (أزد السَّراة). و(بنو صِرْمة): بطن من (قيس عيلان).(10)
لا معنى، إذن، للقفز على كلّ هذا التاريخ اللغوي لافتراض أن مصرمة تعني: مِصْر أو مصرايم التوراتيَّة. بل القفز على اللغة العربيَّة واشتقاقاتها إلى اللغة العبريَّة، لافتراءٍ متكلّف جدًّا أن المصرمة تعني: مصرايم. فمصرمة كمزرعة، سمّيت بهذا الاسم بالنظر إلى أحد المعاني السابقة. وأقربها الإشارة إلى: أنها أرض مُصْرِمَة، أي قاحلة لا ماء فيها. أو أنها أرضُ تجمّعٍ سكانيٍّ، فيها صِرَم من الناس والأنعام. أو أنها أرض ذات حصاد وصِرام.
أمَّا تسمية مِصْر باسم "مصرايم" في الكتاب المقدَّس، فله أسبابه الواردة في كُتب التاريخ. من ذلك، مثلًا، قولهم: إنه يشير إلى أحد أبناء حام بن نوح اسمه: (مصرايم أو مصريم). وقد فصَّل (تقيّ الدِّين أحمد بن علي المقريزي)(11)- محيلًا إلى (الهمداني) و(المسعودي)- في سبب تلك التسمية. وممَّا سجَّله أن مِصْر كان اسمها قبل الطوفان: (جزلة)، وإنما سُمِّيت باسم مِصْر نسبةً إلى: (مصر بن مركابيل بن دوابيل بن عرياب بن آدم)، وهو مِصْر الأوَّل. وقيل: بل سُمِّيت بمصر الثاني، وهو (مصرام بن يعراوش الجبار بن مصريم الأوَّل). وقيل: سُمِّيت بعد الطوفان بمِصْر الثالث، وهو (مصر بن بنصر بن حام بن نوح)، وهو (مصريم) الذي سُمِّيت به.
وعليه فلا وجه لا لادّعاء علاقة بين (المصرمة) العسيريَّة و(مِصْر)، ولا بينها وبين مصرايم أو مصريم التوراتيَّة. لكن صاحبنا لا يأبه لشيء سوى لتصاقب بعض الأصوات اللغويَّة، ليربط من خلالها الشام باليَمَن والمشرق بالمغرب.
(1) انظره: (2006)، (بيروت: دار الساقي)، 160.
(2) انظر: م.ن.
(3) الصليبي، (1997)، التوراة جاءت من جزيرة العرب، ترجمة: عفيف الرزّاز (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة)، 260.
(4) انظر: سِفر الخروج، الإصحاح 12، 37.
(5) خفايا التوراة، 265.
(6) انظر: م.ن، 243- 000.
(7) سورة القلم، الآيات 17- 22.
(8) انظر: ابن دريد، (1991)، الاشتقاق، تحقيق: عبدالسلام محمَّد هارون (بيروت: دار الجيل)، 1: 158- 159، وابن منظور، لسان العرب، (صرم).
(9) انظر: الضَّبِّي، المفضَّل، (1979)، المفضليّات، تحقيق: أحمد محمَّد شاكر وعبدالسلام محمَّد هارون (القاهرة: دار المعارف)، 74/ 14.
(10) انظر: ابن دريد، 1: 159.
(11) انظر: (1998)، المواعظ والاعتبار بذِكر الخِطط والآثار (المعروف بالخِطط المقريزيَّة)، تحقيق: محمَّد زينهم ومديحة الشرقاوي (القاهرة: مكتبة مدبولي)، 1: 56.
* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «العابثون بالتاريخ!: (15- فأَصْبَحَتْ كالصَّرِيم)»، المصدر: "المجلة الثقافية"، صحيفة الجزيرة، السبت 6 يونيو 2015، ص12].