أثر الحداثة على اللغة العربية

د. زينب بيره جكلي

إني لأعجب من عربي يطعن بلغته الفصحى ، تلك اللغة التي بلغت الذروة في الجمال والكمال ، ولا أستطيع أن أقول إلا أنه شعوبي يريد تحطيم اللغة والدين عداء لهما ، أو غبي يتبع أقوال  الأعداء دونما تمحيص ويروح يبرر لنفسه جريرته تحت ستائر شتى، وبأسماء يزينها له شيطانه كمثل التقدمية والحداثة والعولمة وما أشبه ذلك :

والحداثة مدرسة مادية إلحادية انتشرت في أواخر القرن التاسع عشر على أيدي الماديين العلمانيين ممن تأثر بماركس وفرويد ونيتشه ثم راحوا يحاربون كل قديم وينشرون كل شاذ وغريب ليحطموا الثوابت العقائدية وغير العقائدية ، وقد قلدهم العرب فراحوا ينددون بتراثنا وحضارتنا ويقولون : " إن الحداثة ليست انقطاعا عن التراث فحسب بل هي أعنف شرخ يضرب الثقافة العربية في تاريخها الطويل " بل أظهروا العداوة للغة العربية ، فسلامة موسى يقول : " إن اللغة العربية تراث لغوي يحمل عقيدة اجتماعية يجب أن نحاربها " ، ويقول أمين الريحاني : " يجب أن نمحو العربية من قواميسنا وصحفنا ونطقنا لأنها لاتصلح لنا " .

بل إن بعضهم أنكر أن يكون للعرب ثقافة لها أثر في تكوين العقل البشري، ونسب فضائل العرب العلمية إلى اليونان أو الحضارة الإغريقية ونسي أن العرب أضافوا الكثير بعد تأثرهم باليونان بل إنهم صححوا أخطاء وقع فيها من قبلهم .

ويكرر نزار القباني أقوال يوسف الخال وكمال أبو ديب في هجومهما على التراث العربي والإسلامي فيقول :

تاريخي ، مالي تاريخ

إني نسيان النسيان

إني مرساة لاترسو

جرح بملامح إنسان 

ماذا أعطيك ؟ أجيبيني

قلقي ؟  إلحادي ؟ غثياني ؟ 

أما أدونيس فيرى أن الحداثة ثورة فكرية جديدة تحدد علاقة الإنسان بالكون والحياة من خلال رؤية جديدة للحياة تعيد النظر في التراث والقيم والمعايير ، وقد تطرف في شعره ، بل ألحد وفجر في هذيانه وراح يكتب أرقاما ورسوما في شعر عابث على نحو قوله  

مكان ولادتي

1930 الشمس قدم طفل

ثم رسم صورة مثلث وكتب إلى جوارها :

عرفت أقل من امرأة

لأنني تزوجت بأكثر من امرأة

عرفت أقل من رجل

لأنني تزوجت بأكثر من رجل

1933 نبتة تشعل قنديلا

1940 طفل يعد الغيم ينتظره الحريق .

ومثل هذ ا العبث جعل أحد الشعراء يقول :

كالشعر لاوزن ولا قافية يشكو الخلل

شتان مابين المثقف والمخرف بالدجل

ومن ادعى حرية من غير تقييد وظل

وممن دعا منهم إلى تقويض دعائم اللغة جبران خليل جبران الذي قال ( لكم لغتكم ولي لغتي، لكم من اللغة قواعدها المحددة ولي منها ماغربلته الأذن من مألوف مأنوس .. ) .

وقد دعا هؤلاء إلى الانزياح اللغوي عن القواعد النحوية وعن الإعراب وحركاته ، وعن مدلولات اللغة ، وطالبوا بأن تتشكل الجملة بلا ضوابط وبأكثر من شكل ، يقول  علوي هاشم ( الأديب بجهده الخلاق يتحرر من الصيغ الجاهزة والتراكيب الشائعة ، وفي الوقت نفسه يوجد مفرداته وجمله .)

كما طالب الكاتب القصصي يوسف السباعي وسلامة موسى بتسكين الكلمات وإبطال التنوين والجمع بالياء والنون في جميع الحالات ، وطالب هادي العلوي بأن تكتب الحركات حروفا على نحو قوله ( يجبو حمايتو الفلاحي من التاجري بإقامتي سوقن حكوميتن ) مقلدا في ذلك اللغة الأجنبية التي لاحركات فيها .

هذا فضلا عن استعمال كلمات لاتسير على الميزان الصرفي العربي وإدخال ألفاظ أجنبية كالفذلكة وزحفطواني  وتكتيكات ، الدوغماتية ، البراغماتية ... وذلك ليوهموا السامعين بأنهم أصحاب علم جديد فضلا عن أن بعض هذه الألفاظ عبارات وثنية وأسطورية تخالف العقيدة ، كما في قول محمود درويش :

( أورشليم التي أخذت شكل زيتونة

دامية

صار جلدي حذاء

للأساطير     

وصليبي يقاتل

هللويا... هللويا ... هللويا . "

فأورشليم اسم عبري ، والصليب ينسبه إلى نفسه ، وهللويا كلمة السلام عند اليهود ولا يجوز استخدامها ، قال تعالى ( وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ) .

كما أشاع الرمزيون الأدب الغامض حتى بات بعضه يحتاج إلى ترجمان ، وعندما عيب على محمود درويش غموض شعره قال :

" طوبى لشعر غامض  

طوبى لشعر لم يصل "

وكثرت لدى الحداثيين الأخطاء النحوية المتعمدة أو غير المتعمدة ، وذلك على نحو قول أحمد مطر :

( الدرج الحالي بزيزفون

والفوقه تعرش ياسمينة

للحلوة التخطر كالظنون

الدرج الرنا إلي عهدا

والكاد لي يشهق من دلال

يقول : جن جن أو أشدا )

ودعوا إلى العامية وزعموا أن اللغة ( غدت جثة ميتة وأرضا يبابا ولا أمل في إحيائها لأنها مكبلة بفكر معين ونظام معين ) . كما دعوا إلى الكتابة بالأحرف اللاتينية، وثاروا على العروض والنقد العربي . ويقول شيلي شميل : ( نرفض ونغير مااستطعنا إيقاعات الخليل ، نثور ونهدم ونعلن الفوضى ) ، ويطمئن لويس عوض المصريين بالانقلاب اللغوي الذي سيقوض العربية والدين في يوم من الأيام ، ولذلك يقول أحمد شوقي في أمثال هؤلاء :

لاتحذُ حَذوَ عصابة مفتونة      يجدون كل قديم شيء منكرا

وإني لأعجب من ثورة الصحف الأمريكية والفرنسية على المسؤولين في بلدانهم حين  يخطئون ، وهم في الوقت نفسه يسعون لتهديم لغتنا ولا يتعرضون للغة الصينية واليابانية والفيتنامية ، ولكن غايتهم باتت مكشوفة للعيان ، يقول تشرشل وزير خارجية إنكلترا سابقا وهو يرفع المصحف الشريف :

( مادام هذا القرآن بين أيدي المسلمين فلن نغلبهم ، ولذلك هونوا شأن لغته ) . فالحرب على الفصحى حرب استعمارية ، ولهذا يقول الشاعر صقر بن سلطان القاسمي :

أئمة اللغة الفصحى وقادتها     ألا بدارا فإن الوقت من ذهب

ردوا إلى لغة القرآن رونقها      هيا إلى نصرها في جحفل لجب

ولذلك فعلينا حمايتها لنحفظ أبناءنا وبلداننا من التبعية الثقافية وغيرها ، ويقول حمد خليفة أبو شهاب في اللغة الفصحى :

هي روح العرب من يحفظها     حفظ الروح بها والجسدا

ياوعاء الدين والدنيا معا     حسبك القرآن حفظا وأدا

كلما قادك شيطان الهوى    للردى نجاك سلطان الهدى