الوردي : (26) في أي علاقة بين الدين والدولة ، يخسر الدين وتربح الدولة

# الوعظ سبب لازدواج الشخصية :

يتجلّى الدور الريادي للمفكرّ علي الوردي أولا في موضوعة شائكة مازالت تمثل إشكالية كبرى حتى يومنا هذا وتتمثل في علاقة الدين بالدولة ، والتي عالجها بصورة مفصلة أولا في كتابه "وعاظ السلاطين" ، وذلك في الفصل الثاني منه وهو ( الوعظ وازدواج الشخصية ) حيث يرى أن العهد الأموي قد شهد ثغرة لا يُستهان بها بين الدين والدولة . فالأمويون كانوا أولي نزعة بدوية صريحة ، ولذلك لم يكونوا يبالون بما يقول الفقهاء وأهل الدين . جلّ اهتمامهم كان منصرفا إلى تدعيم ملكهم بحد السيف على الطريقة البدوية القديمة . فالدولة كانت راسخة الدعائم في الشام تؤيدها سيوف القبائل العربية ، بينما كان حَمَلَة الدين والفقه والحديث ينشرون دعوتهم المثالية في صفوف الفلاحين والغوغاء وأهل الحِرَف . فكان الدين والدولة ، بهذا يسيران في اتجاهين متعاكسين . وقد أدى هذا الوضع المتناقض إلى صراع نفسي من ناحية ، وإلى قلق اجتماعي من ناحية أخرى . ويرى الوردي أنه كان من المستحيل أن يستمر الوضع على هذه الشاكلة لأنه كان أزمة ، والأزمة يجب أن تجد لها حلا ، عاجلا أو آجلا . وقد جاء هذا الحل على أيدي العباسيين الذين ادّعوا أنهم جاءوا ليُحيوا السُنّة التي أماتها بنو أمية ، ويقوّموا ما اعوجّ من سبل الدين . وبعبارة أخرى : إنهم كانوا يحاولون إزالة الثغرة التي كانت موجودة بين الدين والدولة في عهد أسلافهم الأمويين . وهذا أمر يكاد يكون مستحيلا . فكلٌّ من الدين والدولة ذو طبيعة متفاوتة ، بل متناقضة . ولا يمكن أن يتلائما تلائما حقيقيا . فالدولة تقوم عادة على أساس القهر والتسلط والاستغلال ، في حين يقوم الدين على أساس الرحمة والعدل والمساواة . وقد يحدث في بعض الظروف النادرة أن يتلائم الدين والدولة ، ولكنه تلاؤم مؤقت لا يلبث أن يزول . لأن جمع الدين والدولة في جهاز واحد شبيه بجمع الماء والنار معا .

لقد حاول العباسيون أن يلائموا بين الدين والدولة فلم يُوفّقوا في هذا السبيل إلّا ظاهرا . فقد قرّبوا الفقهاء وأهل الحديث وأجزلوا لهم العطاء وتظاهروا لهم بالخشوع واستمعوا إلى مواعظهم . والواقع أنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا أكثر من هذا . ففي حياتهم العملية كانوا كغيرهم من الملوك في ضوء ما تمليه عليهم الظروف من مساومة وقسر واستغلال . وهذا ما أكده أيضا البروفيسور ( فيليب حتي ) في كتابه ( تاريخ العرب ) حول قيام الدولة العباسية حين قال :

( وفي الواقع إن التغير الديني كان ظاهريا أكثر منه حقيقيا . ولقد كان الخليفة البغدادي بخلاف سلفه الأموي يتظاهر بالتقوى ويدّعي التديّن. ولكنه كان مع ذلك ذا اتجاه دنيوي مثل سلفه الشامي) (182).

وقد نقل إلينا الوردي حادثة انتقاد أبي يوسف للخليفة المنصور ، حين أشار إلى أن أبا يوسف هذا قد وافق على أن يكون قاضيا لبغداد ( وهو منصب يساوي وزير العدل في وقتنا الحاضر ) في عهد هارون الرشيد ، فوقع على عاتقه مسؤولية انجراف الدين بالسياسة ، حيث افتتح عهدا جديدا في تاريخ الإسلام لم يشهده المسلمون من قبل ، حيث كانت وظيفة القضاء مكروهة في نظر الفقهاء إذ كانوا يعدونها تأييدا للسلطان الظالم . وكثير من المُحدّثين كانوا لا يقبلون رواية من تقرّب إلى السلطان. فهم يرون الموظف يُغضِب الله إذا أرضى السلطان ، ويُرضِي الله إذا أغضبه . ولهذا السبب عابوا على أبي يوسف تولّيه القضاء لأنه غيّر نظرة العامة إلى الوظيفة ؛ فبعد أن كانوا يكرهونها صارت لديهم مطمح الأنظار . ويعلّق الوردي على هذه الحادثة بالقول :

( إن هذا حادث له أهمية اجتماعية . إذ خسر به الدين وربحت الدولة ، وابتدأ عهد من التعاون بينهما لايزال المسلمون يعانون من جرائه ما يعانون " (183) .

# نزل الدين ولم ترتفع الدولة ! :

-------------------------------

ثم يتابع التطور التاريخي لعلاقة الدين بالدولة في الخلافة العباسية من خلال استعراض ما سماه المؤرخون ( المحنة ) التي يأسف الوردي لأن هؤلاء المؤرخين لا يهتمون بهذا الحادث إلا من ناحيته السياسية ، وهذا ديدنهم مع كل وقائع التاريخ الإسلامي الذي جعلوه بسبب ذلك تاريخ ملوك وقوّاد فانتفت عنه تلك الروح المبدئية التي جاء من أجلها الإسلام . و( المحنة ) هو امتحان امتَحَنَ به المأمونُ ، والمعتصمُ والواثقُ من بعده ، الفقهاءَ في مسألة خلق القرآن التي روّج لها المعتزلة . ثم الانقلاب على هذا الوضع في عهد المتوكل حيث عُدّ الاعتزال بِدْعة وكلّ بِدعة ضلالة وكل ضلالة في النار . وظهر لأول مرة في التاريخ الإسلامي مصطلح (أهل السنة والجماعة ) . ومن هذه اللحظة استطاع المتوكل وبضربة واحدة أن يُنجز ما عجز خلفاء بني العباس قبله عن تحقيقه وهو ربط الدين بالدولة ، فقد افتتح – كما يقول الوردي – عهدا جديدا في تاريخ الإسلام حيث صار الدين والدولة نظاما واحدا . وأخذ الدين يؤيد الدولة بقلمه ، بينما أخذت الدولة تؤيده بسيفها . ورفع الناس أيديهم بالدعاء هاتفين : ( اللّهم انصرْ الدين والدولة ) . ويقدم الوردي تقييما موضوعيا لما حصل من خسارة أصابت الدين من هذه العلاقة الشاذة بالقول :

" نزل الدين بذلك ، ولم ترتفع الدولة " (184) .

ثم يلاحق الوردي تطورات هذه العلاقة في العصور المختلفة : دخول خلفاء الأندلس في مذهب ( أهل السنة والجماعة ) الذي يستعرض أثره الفكري والاجتماعي الذي لم يدرسه المؤرخون قبله إلا في حدود ضيقة جدا ، ثم انتقال هذا الاتجاه إلى المشرق العربي ، وتنامي انقسام المسلمين إلى سُنّة وشيعة ، وتزايد الفتنة وتراكمها على مرور الأيام ، ثم الكيفية التي لعب فيها البويهون على هذه المسألة .. وعملية استغلالها في الصراع بين الصفويين والعثمانيين لتسييس الخلاف بين السنة والشيعة الذي اتخذ شكلا صارخا يعلّق عليه الوردي بالقول :

( كان سلاطين الصفويين لا يختلفون اختلافا أساسيا عن سلاطين العثمانيين فأنهم كانوا يعبدون الله وينهبون عباد الله . ولم يكن الفرق بينهم إلا ظاهريا . إذ كان جل همهم مُنصبّاً على تشييد المساجد وعلى زخرفة منائرها . حدثت المفارقة الكبرى على ضفتي دجلة شمالي بغداد ، حيث كان الإمام الأعظم مدفونا على الضفة اليسرى ، والإمام الكاظم مدفونا على الضفة اليمنى . وهنالك ، عبر هذا النهر ، نجد أهالي الأعظمية وأهالي الكاظمية يتبادلون الشتيمة والبغضاء ) (185) .

# السنّة والشيعة كانوا من حزب ثوري واحد وقف ضدّ السلاطين :

---------------------------------------------------------------

ويسخر الوردي من هذا الخلاف القائم على الجهل بأصل الموقف الواحد والرسالة الواحدة للفريقين المتخاصمين بالقول :

 ( نسي هؤلاء المغفلون أن إماميهما كانا من حزب واحد، إذ كانا من أعداء السلاطين . عارض أبو حنيفة المنصور بنفس الشدة التي عارض بها موسى الكاظم حفيده الرشيد . وقد مات كلاهما في سجن هذين السلطانين الظالمين . فرّق السلاطين بينهما بعد الموت، إذ لم يستطيعوا التفريق بينهما في الحياة .. ولله في خلقه شؤون ) (186) .

ويلاحق الوردي تطورات العلاقة بين الدين والدولة – وبدقة أكبر تبعية الدين للدولة – حتى المرحلة الراهنة التي :

( أصبح فيها للسلطان وعّاظ يريدون من الفقراء أن يكونوا أولي أخلاق فاضلة ، ولعلهم يقصدون بذلك تغطية ما يقوم به سادتهم من ظلم وتسفّل . فهم يضعون أمام الناس هدفا مستحيلا لكي يلقوا عليهم الحجة فيما يعانون من بؤس ، ثم يقولون لهم : ( لقد جرّت أخلاقكم عليكم البلاء ) (187) .

والوردي لا يقصد بوصف الوعّاظ رجال الدين على إطلاق ، ولكنه يقصد من أسماهم " الكُهّان " الذين يتزلفون للسلطان ، ويتظاهرون أمام الناس باسم الدين ، والدين منهم براء :

( فهم لم يكونوا في الواقع سوى كُهّان ، شأن أية جماعة من رجال الدين يحيطون بالسلطان ويدعون له . أما الصحابة الحقيقيون ومن جاء بعدهم من التابعين ، فقد ساروا في حياتهم سيرة أخرى ، إذ اتخذوا لهم المساجد مراكز يبثون منها تعاليمهم المُحمّدية ، ونشأ بين المسجد والقصر صراع عميق ) (188) .