سيرة المقهى في التجربة الشعرية لمحمد علي الرباوي : قراءة ثقافية في ديوان (الكراسي)
مصطاف مولاي بوسلهام في 09 يونيو 2015 م
إهداء : أهدي هذه الدراسة لأخي الشاعر محمد علي الرباوي .
يلفت المتابع للتجربة الشعرية لمحمد علي الرباوي ، المتأمل في ديوان " الكراسي " تخصيصه كل القصائد للمقهى : هي سبع قصائد عنوانها واحد " المقهى " ، تعمد ترتيبها زمنيا لتمتد من سنة 1975 م إلى سنة 2005 م . هي إذن سيرة حياة الشاعر محمد علي الرباوي في المقهى عمرها ثلاثون سنة . فما حكاية هذه المقهى من سنتها الأولى إلى سنتها الثلاثين ؟ .
نبادر إلى التصريح بأنها قراءة ثقافية تمكننا من تتبع هذه السيرة الشعرية الغرائبية عبر هذه القصائد السبع المشكلة لديوان { الكراسي } الصادر ضمن ديوانه الثلاثي { دم كذب } عن شركة مطابع الأنوار المغاربية بوجدة سنة 2009 م .
اخترنا نظرية النقد الثقافي ، في هذا التطبيق الرابع ، لأننا نؤمن بضرورة تجاوز فترة العمى في النقد الأدبي ، إلى حقبة النقد الثقافي كما بشر بها روادها في الفكر العربي ، أذكر منهم الدكتور مصطفى ناصف حين سماها النظرية الثانية ، والدكتور عبد الله الغذامي من خلال كتابيه " النقد الثقافي : قراءة في الأنساق الثقافية العربية " سنة 2000 م ، أما الكتاب الثاني فهو حوار سجالي للدفاع عن النقد الثقافي " نقد ثقافي أم نقد أدبي " سنة 2004 م وهو كتاب مشترك مع الناقد الأدبي عبد النبي اصطيف .
خصصت جريدة " المساء " المغربية ملفها الثقافي العشرين يوم 15 / 10 / 2014 م للممارسة النقدية بالمغرب . فاعترف محمد بوعزة بأن الساحة الأكاديمية ، بناء على النقاش الدائر حول النقد الثقافي ، تتساءل حول شرعية النقد الثقافي ، وهل يمكن الحديث عنه كخطاب نقدي ؟
أما معد الملف الدكتور يحيى بن الوليد ، فاعترف بالأهمية البالغة لهذا النقد الثقافي بالمغرب ، لأنه يبدو أكثر قربا والتصاقا بالمرحلة التي تستوعبنا ، لاسيما من ناحية مركزية الثقافة في طرائق التفكير مثلما في طرائق العيش ... ويعتبر النقد الثقافي رغم ما كشف عنه منذ أواخر السبعينيات حتى الآن ، فإنه لا يزال شاحب الحضور في الخطاب النقدي المعاصر بالمغرب .
لكن الجواب العملي عن مثل هذه الأسئلة حول جدوى ممارسة النقد الثقافي في المغرب خصوصا ، والنقد العربي بشكل عام ، هو تجريب واختبار مدى كفاية نظرية النقد الثقافي .
1 ـ كفاية نظرية النقد الثقافي :
هذه المحاولة الرابعة لتجريب مدى كفاية نظرية النقد الثقافي في تلقي الأدب والثقافة عموما . أنجزت المحاولة الأولى " قراءة النقد الثقافي لملحمة العصر للمفكر المغربي المهدي بنعبود سنة 2005 م ، ثم أنجزت المحاولة الثانية " قراءة النقد الثقافي للأعمال الشعرية لشاهد العصر الشاعر السعودي صالح الزهراني سنة 2013 م ". وأنجزت المحاولة الثالثة {الدخول إلى المدينة / الديوان " أشجان النيل الأزرق " :قراءة النقد الثقافي لشعر حسن الأمراني } في تكريم الشاعر الناقد حسن الأمراني سنة 2014 م .
سوف نكون أوفياء/ بعض الوفاء لنظرية النقد الثقافي ، لأن الناقد يسمح لنفسه ببعض الممارسة الإبداعية داخل الممارسة النقدية . فالتطبيق لا يكون في الغالب ميكانيكيا . لذلك سوف نستند لآليات النقد الثقافي المستندة إلى الجملة الثقافية وصولا إلى نسقها مع بعض الحرية في طريقة التطبيق.
2 ــ آليات نظرية النقد الثقافي :
وإن عرفت نظرية النقد الثقافي في النقد العربي بالناقد الدكتور عبد الله الغذامي ، إلا أنني أعتبر كتابات الدكتور مصطفى ناصف ممهدة لها . فكتابه " النقد العربي : نحو نظرية ثانية " لا يصرح فيه بمصطلح النقد الثقافي ، لكنه يدعو إلى طي صفحة النقد العربي التقليدي في نظره ، إلى أفق جديد ينطلق من رؤية عميقة لما خلف جمالية الأدب العربي ، إلى آلام وآمال الأمة العربية في هذا الأدب :
فهو يعيب على النقد العربي أنه يحجر واسعا ويلزم غرفته الأدبية الضيقة : { المصطلح النقدي يركز ثقافة واسعة في بؤرة . المصطلح ينبغي ألا يحبس في غرفة ضيقة . الثقافة العربية منزل واسع ذو غرف كثيرة . لكل غرفة طابع ، ولكن الغرف ينفتح بعضها على بعض ، الجزء ينتمي إلى مجموع واحد .} " النقد العربي : نحو نظرية ثانية " ص 10 .
ثم يدعو النقد العربي إلى تجاوز الجمالية الضيقة لمحاولة الكشف عن مخاوف وآمال الجماعة : { آن الأوان لتجاوز الأدبية في سبيل ربط النقد الأدبي واحتياجات الجماعة . مهمة النظرية ــ كما أتصورها ــ توضيح الأثقال والتبعات التي يمكن استبطانها من النصوص النقدية } " نفسه ص 17 " .
ننتقل إلى الدكتور عبد الله الغذامي بوصفه الناقد الذي ينسب له فضل التعريف والتجريب لنظرية النقد الثقافي من خلال كتابيه " النقد الثقافي : قراءة في الأنساق الثقافية العربية " سنة 2000 م ، أما الكتاب الثاني فهو حوار سجالي للدفاع عن النقد الثقافي " نقد ثقافي أم نقد أدبي " سنة 2004 م وهو كتاب مشترك مع الناقد الأدبي عبد النبي اصطيف .
هكذا يستدرجنا الغذامي بدوره للتخلي عن تراثنا النقدي الأدبي لأنه : {وبما أن النقد الأدبي غير مؤهل لكشف هذا الخلل الثقافي فقد كانت دعوتي بإعلان موت النقد الأدبي ، وإحلال النقد الثقافي مكانه .} " النقد الثقافي ص 8 " .
ثم بعد التخلية يشرع في التحلية بتوضيح مقاصد النظرية البديلة " نظرية النقد الثقافي " . وحتى لا يفهم منها إلغاء تراثنا النقدي يبادر إلى القول : { وليس القصد هو إلغاء المنجز النقدي الأدبي ، وإنما الهدف هو تحويل الأداة النقدية من أداة في قراءة الجمالي الخالص ، وتبريره وتسويقه ، بغض النظر عن عيوبه النسقية ، إلى أداة في نقد الخطاب وكشف أنساقه . وهذا يقتضي إجراء تحويل في المنظومة المصطلحية } " نفسه ص 8 " .
هي نظرية تتشابه في بعض خطوطها العامة مع النظرية الثانية عند مصطفى ناصف لكنها تمتاز عند الغذامي بتوريط النقد الأدبي لإغفاله الأنساق الثقافية والخطابات المؤسساتية . هي نظرية ذات أصول غربية تمثل انتقالا من الأدب الرفيع إلى الخطاب الثقافي الكاشف عن اهتمام الناس باليومي البسيط وإعراضهم عن الأدب الرفيع . هي نظرية تلح على صلة الإبداع بحمولته التاريخية وتشكيله التاريخ:{ فليست المسألة بقراءة النص في ظل خلفيته التاريخية، و لا في استخدامه للإفصاح عن الحقب التاريخية ذات الأنماط المصطلح عليها . فالنص والتاريخ منسوجان ومدمجان معا كجزء من عملية واحدة . والدراسات الثقافية تركز على أن أهمية الثقافة تأتي من حقيقة أن الثقافة تعين على تشكيل وتنميط التاريخ .} " نفسه ص 20 " .
بهذه الآليات وهذا العتاد النظري للنقد الثقافي نستأذن القارئ والشاعر في الدخول إلى ديوانه { الكراسي } متتبعين سيرة المقهى :
أول ما نكشفه في هذه القراءة هو أن الديوان { الكراسي } رسالة ثقافية عميقة الدلالة ، لأن العنوان المختار بحس ثقافي ، وعنوان القصائد { المقهى } يكشفان عن رؤية جديدة للمقهى بوصفها مؤسسة ثقافية : المقهى ، في منظور الشاعر الرباوي ، ومن يقترب من عالمه الخاص ، ليس مكانا للتسلية والدردشة وضياع الوقت ، وإنما مصدر للوحي والبحث ، و نسق ثقافي .
فطلبة الشاعر ومريدوه يتحلقون حوله في المقهى لتلقي توجيهاته الأكاديمية والشعرية ، وديوان { الكراسي } بقصائده السبع ، وحمولة الثلاثين سنة تحمل رسالته الثقافية ، المتدرجة في بيان رؤية الشاعر ووعيه بهويته وكينونته :
1 ــ القصيدة الأولى : "المقهى سنة 1975 م "
مشغولة مقاعد المقهى صباح اليوم
تزهر فوقها ضفائر النساء
تدور وسطها سلال الهمس
يحترق فوقها الصباح
تكبر أوراق الشمس
" العيون " وجدة : 11/ 02 / 1975 م .
قراءة الرسالة الثقافية : (من المساء إلى الصباح تزهر سلال الهمس ) .
2 ــ القصيدة الثانية : " المقهى سنة 1984 م " .
وحدك في هذي المقهى . يشربك الصمت
النابت من أعماقك . في هذي المقهى
وحدك . يمخر يم العمر أزيز الزبناء وأنت هنا ...
ــ والدهشة تمضغ أوصالك ــ تصرخ : يا هول
المشهد قد رحلت أشجار الشارع قد
رحلت كل مقاهي الشارع قد رحلت كل
دواب الشارع كل قصور الشارع كل الدور
عدا دار واحدة شامخة تدعوك إليها فاخلع
نعليك وطهر رئتيك وقل لبيك حبيبي .
فاس في : 24 / 04 / 1984 م
قراءة الرسالة الثقافية : ( من المقهى إلى المسجد ، من الرجفة والخوف إلى السكينة ) .
3 ــ القصيدة الثالثة : ( المقهى سنة 1999 م ) .
... فهذه المقهى على وشك الرحيل .. هذه الشمس على
وشك الرحيل ، والعفاف هزت الريح بجذعه الثقيل ،
واللظى تبلع ما في جسدي النحيل من عالي النخيل
فارم ساقيك لهذي الريح يا مجنون نجد قبل أن
تغلق الأبواب قبل أن تهم هذه النخلة موهنا بهذا
الطين ، قبل أن يهم فجأة بريح هذي النخلة الفيحاء
هذا الطين . فارم يا سليل الحزن ساقيك
لهذي الريح أنت لن ترى البرهان والقلب مليئا بالخراب
والصدى ما زال يرتجف
ما زال يرتجف
ما زال يرتجف
فاس : 04 / 05 / 1999 م
قراءة الرسالة الثقافية : { من المقهى إلى الصحراء ، من العمران إلى الخراب } .
4 ــ القصيدة الرابعة : ( المقهى ) سنة 2000 م .
في ركن من أركان المقهى
ألقيت بجسمي المكسور
إلى كرسي يعرف كل تفاصيل حياتي
يعرف من كنت ومن سأكون ...
يا سياف أرحني من وسواسي
اقطع راسي .
قطعه .
ثمت ألقيت بجثتي الزرقاء إلى
كرسي آخر
في مقهى آخر
في زمن آخر
حركت جناحي فسافرت بعيدا
أعرضني في وضح الشمس
على ضوء المصباح اليدوي
أطير حواليه من الصبح إلى الصبح
لعلي من هول ا لطيران أعود إلى الأشكال ...
27 / 05 / 2000 م
قراءة الرسالة الثقافية : ( من المقهى إلى المقهى ، من الصبح إلى الصبح ) .
5 ــ القصيدة الخامسة : { المقهى } 2001 م
في هذي المقهى ..
جلسا
شربا كأسين
وما أبحرت العينان بتلك العينين .
كان الخوف لهيبا يتأجج بينهما
كان الخوف صقيعا يزعج ها تين العينين ...
لك الحمد حبيبي إذ جئت إلينا
أنزلت سكينتك البيضاء علينا
أيدت فؤادينا
بطيور لم نرها
ملأت بالشعراء وبالزخرف جوفينا ...
لك الحمد لأنك لم تتخل حبيبي
عن عبدين هما فرا منك
ولكن سقطا بين يديك
لك الحمد ..
فاس : 25 / 03 / 2001 م .
قراءة الرسالة الثقافية : ( من المقهى إلى المسجد ، من الخوف إلى السكينة .)
6 ــ القصيدة السادسة : { المقهى } 2002 م
جسد أصبح جزءا
من هذا الكرسي المنخور ...
لا أحد يتكلم ..
لا أحد يتحدث ..
أو يصرخ ..
إلا هذي الشاشة :
صور القتلى
وأنين الجرحى
وزغاريد النسوة ..
تملأ هذي الشاشة : ...
أخذتني قدماي بعيدا عن هذي المقهى
أخذتني قدماي إلي رسولا
أخذتني قدماي ..
وجدت فتى أسمر يشبهني
يدخل دارا عالية الأبراج
أشار إلي بعينيه :
أقبل يا هذا الرجل المقتول قليلا ..
أقبلت ..
جلست ..
سألت ..
بصوت يملأه الخوف ..
وتملأه الدهشة :
من صاحب هذي الدار ؟
رد علي سراج وهاج
و حواليه تطوف فراشات
في حجم ا لحلم الأخضر :
هذي دار الأرقم ...
05 / 03 / 2002 م
قراءة الرسالة الثقافية : { من المقهى إلى دار الأرقم ، و من بطش اليهود بالفلسطينيين إلى دار الأرقم ، إلى طمأنينة الإسلام } .
7 ـــ القصيدة السابعة : { المقهى } 2005 م
التف الأشجار الجوفاء حواليه .
إن حمل الكأس إلى شفتيه
تسابق كل الجلاس البسطاء
كل يد تحمل في نشوه
ثمن القهوه ...
نادم قهوتك المرة
في هذا الركن وساق
لا هذا ..
لا ذاك ..
سيدفع عنك مرارة ما أنت تلاقي
دس بهيا يدك اليمنى
في جيب قميصك
تخرج بقصيدة حب
تترقرق حين تجف ينابيع الثروه .
وجدة : 31 / 03 / 2005 م
قراءة الرسالة الثقافية : { تجف ينابيع الثروة والسطوة ، وتترقرق قصيدة الحب } .
هذه قراءة ثقافية لسيرة المقهى في ديوان { الكراسي } للشاعر محمد علي الرباوي ، متدرجة خلال ثلاثين سنة من المقهى إلى سلال الهمس سنة 1975 م ، ومن المقهى إلى المسجد سنة 1984 م ، ومن المقهى إلى الصحراء سنة 1999 م ، ومن المقهى إلى الصبح سنة 2000 م ، ومن الخوف إلى السكينة سنة 2000 م ، ومن المقهى إلى دار الأرقم سنة 2002 م ، ومن ينابيع الثروة والسطوة إلى رقراق الشعر سنة 2005 م .
من شاء تقديم قراءة أدبية جمالية لهذا الديوان الغني فله ذلك ، بل أعده بما سوف يجد من غنى الصور والإيقاعات ، وتنوع المضامين . لكنني مقتنع بأن الرسالة الثقافية للشاعر الرباوي أعلى مقاما من البعد الجمالي ، ولكل وجهة هو موليها ، وحسبي أنني حاولت التعريف بهذا الديوان الغرائبي ديوان { الكراسي } للشاعر الغرائبي محمد علي الرباوي .
سعيد الغزاوي / ناقد ثقافي
المصادر و المراجع المعتمدة في الدراسة :
1 ــ الشاعر محمد علي الرباوي ديوان ( دم كذب ) .
2 ـــ الدكتور مصطفى ناصف (" النقد العربي : نحو نظرية ثانية " .
3 ــ الدكتور عبد الله الغذامي " النقد الثقافي : قراءة في الأنساق الثقافية العربية " سنة 2000 م .
4 ـــ الدكتور عبد الله الغذامي والدكتور عبد النبي اصطيف " نقد ثقافي أم نقد أدبي " سنة 2004 م.