محبرة الخليقة (39)

تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 

المرارات:

   عذابات بائع الأوهام

-----------------------

(                    أما

                     من خالقٍ آخرَ ؟!

                                          شكلٍ آخرٍ

     ليسَ لهُ أيُّ شبيه ؟

                     صار ما يُضجرني

                     أني كثيرُ الأسئلهْ ،

                              والأخيلهْ .

                     لا أحبُّ الموتَ ، لكنْ ، أضجرتني

     قبلَ أن تأتيْ

                     السنينُ المقبلهْ . )

 

في حياة منافقة متناقضة مثل هذه ، مليئة بالغلّ والحقد والوحشية وعدوان الإنسان على أخيه الإنسان ، وفي ظلّ تدهور حضاري أخلاقي يتستر بالعقل على حساب انحطاط إنسانية الإنسان ، ومع تنامي الظلال المعتمة لشبح الخيبة وتكسّر الأحلام والآمال في عالم حرّ وعادل يسوده الحب والسلام ، ليس غريباً أن يأتي القسم التالي من ملحمة جوزف حرب حاملاً عنوان "المرارات" ؛ مرارات خانقة يتجرّع أكؤوسها ببطء . ولكن مرارات جوزف حرب ليست مرارات الإحباط المترتب على الخيبة الواقعية من الظواهر المفزعة التي تحيط به .. من الإنسان والعقائد والأفكار الزائفة وصراعات المصالح المميتة حسب ، بل هي مرارات وجودية من خواء حياته ، وعجزه عن الحصول على تساؤلات ترتبط بمصيره ، من أين وإلى اين ؟ ، ورتابة إيقاع يومه الثقيل المتكرّر بوظائف الجسد الحيوانية وحاجاته الأرضية :

(                مضجرٌ ما أنا فيهِ ،

                 منْ قيامي ،

                           وقعودي .

                 من مصيري آخرِ الأمرِ ،

                 ومنْ شكلِ وجوديْ .

                 كلَّ يومٍ ليَ

                                أكلٌ ، وشرابٌ ،

 لُغةٌ ،

        نومٌ ،

        وحبٌّ ،

        وصراعْ . – ص 1055 و1056) (نصّ "ضجر") .

وتتضاعف المعاناة هذه وتتحمل بغرابة أمضى حين يكون الشعور الضجر من الشروط والمظاهر التي تُعدّ "امتيازات" للإنسان ، يعلو بها على مستوى المملكة الحيوانية وبها يسمو . أن يضجر الإنسان من رتابة إيقاع حياته ، أو من خواء مضمونها ، أمر يحصل في حالات كثيرة ، ولدى العديد من البشر . لكن أن تضجر من حرّيتك وتصبح عبءاً عليك ، فهو اختناق وجودي شديد الخطورة . والحالة المضنية الأكبر هو أن الحلول التي كان يتوسّلها الإنسان ليفرك الصدأ عن وجه حياته ، ويضفي عليها احتداماً محفّزاً وتوتراً منعشاً ، صارت بدورها مصدراً للإنزعاج والغصّة والألم المزمن . فبعض الأشخاص يفتشون عن التغيير والصراع ، وعلى طريقة أحد النقّاد الذين وصفوا رغبة "بودلير" في تحقيق أيّ "تغيير" – مهما كان مبتذلاً - في يومه ، بأنه سوف ينام تحت السرير إذا عاد إلى البيت ، ولم يقم بشيء مخالف في نهاره ، فالشاعر لم يعد يجد المتعة في أيّ شيء .. لا في الحرّية ، ولا في الصراع ، ولا في القمع . صارت رغباته متعادلة باهتة ومحصلة تفاعلها تساوي صفراً :

(                مضجرٌ قمعيْ .

                 وما حريّتيْ ؟ مضجرةٌ !

                 لا شيءَ يلغي ضجريْ منّي .

  ولا رغبةَ لي أنْ أصبحَ القدّيسَ ، أو أن

  أغدوَ الشيطانَ . – ص 1056) .

ويمكن أن تجرفنا تساؤلات الشاعر السابقة بزخمها الموجع فنعدّ شكواه جزءاً من حالة عامة تسم حضارتنا المعاصرة ، فهي "حضارة الضجر" بحقّ . والشاعر بسلسلة تساؤلاته المريرة يحيلنا الى موضوعة قد تبدو عابرة لغير الباحث المتخصّص أو الملاحق لمتغيّرات الحضارة المعاصرة خصوصا في مناحيها النفسية والاجتماعية إلّا أنها ذات فعل مركزي في تنشئة ونمو وتراكم أمراض هذه الحضارة . هذه الموضوعة هي "الضجر" الذي يرى المحلل النفسي الشهير "إريك فروم" ان له دورا غير بسيط في إحداث العدوان والتدميرية في عالمنا الراهن . إنّه بالمعنى الدينامي لعلم الطباع هو حالة من الإكتئاب المزمن ، والاختلاف باد في استخدام مصطلح "الضجر" . فإذا قال أحدهم "أنا مكتئب" فهو يشير عادة الى حالة ذهنية . وإذا قال أحدهم "أنا سئم" فهو يقصد أن يقول شيئا عن العالم في الخارج ، مشيراً الى أنه لا يوفّر له المثيرات الشائقة والمسلّية . ولكننا عندما نتحدث عن "شخص مُضجر" فإننا نشير الى الشخص ذاته ، الى طبعه . ونحن لا نقصد أنه اليوم مضجر لأنه لم يرو لنا قصة مشوّقة ، فعندما نقول إنه شخص مُضجر نعني أنه مضجر بوصفه شخصاً . ففيه شيء ميّت ، غير حيّ ، غير مثير للإهتمام . ومن دأب الكثيرين من الناس أن يعترفوا بيسر أنهم "ضجرون" ، ومن شأن القليل جدا من الناس أن يعترفوا بأنهم "مُضجرون" . والضجر المزمن المعوّض عنه أو غير المعوّض عنه ، ظاهرة من أبرز الظواهر المرضيّة في المجتمع التقني الإلكتروني المعاصر ، مع أنه لم يلق بعض الإعتراف به إلا مؤخراً ) (78).

والشاعر يعلن أنه ضجر من كل شيء حوله ، وأن الاشياء كلّها "مُضجرة" له وتنغّص حياته إن بقي لحياته معنى . هو لا يريد أن يُصبح قدّيساً صالحاً ولا شيطاناً مغوياً شرّيراً ، فماذا يريد أن يكون ؟

لقد ضجر الإنسان الأول من رتابة نظام الفردوس وشرط "عدم التقرّب" ، فارتكب الخطيئة بالعصيان الجميل ، وهناك من باعوا أرواحهم للشيطان – ما يُسمّى بـ "الصفقة الفاوستية" - ليعرفوا ويغيّروا ويبتهجوا بالمعصية . فما الذي يبغيه الشاعر من إعلانه هذا ؟ والأهم – أو ما لا يقلّ أهمية - ما هو الحل ؟ :

(               كمْ يضجرنيْ

                أنّيْ تُرابٌ آخر الأمرِ .

                                           وكمْ

   تضجرنيْ هدهدةُ الأمِّ ، كمنْ يغزلُ ليْ

                                     نوميْ . – ص 1056) .

هنا تتكشّف معضلة جوزف حرب المزمنة - ليس في ديوانه هذا ، بل في كلّ أعماله -  والمتمثلة في "قلق الموت" . لقد أهدى منجزه الملحمي هذا "إلى الموت" الذي لا يعرف الضجر أبداً ، وها هو ، وبعد أن حيّرنا بمظاهر وعوامل ضجره الحياتي والوجودي المتضادة ، يكشف عامل الضجر الأعظم ، بل الأوحد ، الرابض في لاشعوره ، وهو خوفه من النهاية الأخيرة التي يعود فيها "تراباً" ، ويغادر هذه الحياة بلا رجعة . ولاحظ أنّ إشارته إلى ضجره من هدهدة أمّه ، وهو من عبدة الأم المعروفين ، غير مرتبطة بـ "السياق" بوشائج قويّة ومتسقة ، إلّا إذا كان قد وصل حدّاً من القلق جعله يحسب النوم شكلاً آخر للموت أو ممرّاً إليه ، وهدهدة الأم تغزل هذا السبيل الأسود . فوق ذلك صار يضجر حتى من خالقه "المكرّر" والثابت "الهيئة" والسلوك . وكل علامات وفواعل الضجر هذه التي يطرحها الشاعر هي في الحقيقة تساؤلات عن جدوى ما يقابلها من طرق وأنشطة يُفترض أن تكون سبل علاج . وهذه حالة توصل إلى "حلقة مفرغة" من التساؤلات ، فصار الشاعر ضجراً حتى من الأسئلة ، لأن تحت غطائها يلوب السؤال الأعظم : سؤال الموت ، الذي يُربك الشاعر من جديد ، ويجعله يقدّم إعلاناً نشترك فيه جميعاً : "لا أحبّ الموت" ، والذي لن يغيّر حبّه أو كراهيته من ثقل أحمال السنين المقبلة التي سنقطعها للوصول إليه . هنا خاتمة غثيان من سنوات العمر واستعجال مجيء المُثكل ، وهناك - قبل أبيات قليلة - خشية من الرجوع إلى التراب الذي منه جئنا وجاء الشاعر :

(                    أما

                     من خالقٍ آخرَ ؟!

                                          شكلٍ آخرٍ

     ليسَ لهُ أيُّ شبيه ؟

                     صار ما يُضجرني

                     أني كثيرُ الأسئلهْ ،

                              والأخيلهْ .

                     لا أحبُّ الموتَ ، لكنْ ، أضجرتني

     قبلَ أن تأتيْ

                     السنينُ المقبلهْ . – ص 1057) .

إنّ ضجر جوزف حرب هو من النوع الذي عاناه "بول فاليري" ، ووصقه بدقة حين قال :

(الضجر من الحياة .. لا الضجر الناتج عن التعب ، لا الضجر الذي نرى جذوره أو ذاك الذي نعرف له حدوداً . بل ذلك الضجر الكامل ، ذلك الضجر الخالص ، ذلك الضجر الذي لا يصدر عن قلّة حظ أو عاهة ، والذي يلائم نفسه مع أسعد الظروف قاطبة (هدهدة الأم مثلاً – الناقد) ، ذلك الضجر أخيرا الذي ليس له من مادّة سوى الحياة عينها ، ومن علّة ثانية سوى حدّة وعي الكائن الحي . ذلك الضجر المطلق ليس في ذاته سوى الحياة عندما تنظر إلى نفسها بوضوح عارية تماماً) .

ويبدو أنّ قلق الموت والخشية منه لا يعرف الإستكانة خصوصاً إذا كان مرتبطاً أو مؤسساً على مشاعر عميقة بالذنب ، فتراه متحرّكاً ضاغطاً يدقّ كل الأبواب الذهنية فيشتّت قوى التركيز ، ولا يستطيع الشاعر البرّ بأي وعد يقطعه على نفسه ، وقد أعلن قبل قليل ضجره من كثرة أسئلته وأخيلته ، ليعود بعد مسافة قصيرة جداً بمقدار صفحة واحدة ، نقلبها ليواجه أبصارنا "سؤال" كبير يعيد تشغيل عجلة حلقة التساؤلات المفرغة المعذّبة :

(                    ما منْ شيءٍ إلّا أقدرُ أن

                أتخلّى عنهُ

                    إن شئتْ .

                    فلماذا

                    جئتْ ؟ – ص 1058) (نصّ "سؤال") .

والتساؤلات التي يعلن الشاعر ضجره منها ، ويحاول الخلاص منها بكل طريقة ، تستولي – بطريق غير مباشرة - على كلّ نصوص هذا القسم ، قسم "المرارت" ، بصورة مريرة تحطّم الروح ، وتسحق النفس . فكلّ وقفة أمام لحظة هاربة هي سؤال عن أين تذهب أيامنا وأعمارنا ؟ وكلّ استعادة لذكرى رائعة غائرة هي سؤال عن لماذا لا تعود اللحظات الجميلة الغاربة ؟ وكل فكرة تمنٍّ نأمل فيها بيأس أن نغيّر ما لا يتغيّر ، هي سؤال عن سرّ هذه الحركة المرسومة الجائرة التي تحكم حيواتنا ، والسائرة ابداً إلى الأمام ؛ نحو الموت . 

وسوم: العدد 623