الأطياف الأربعة

د . مصطفى محمد أبوطاحون

تأليف : الإحوة حميدة ، أمينة ، محمد ، سيد قطب .

تقديم : المستشار عبدالله العقيل .

الناشر : مركز الإعلام العربي ، ط1 ، 2015م .

عدد الصفحات : 240 صفحة .

في طبعة ثانية أنيقة جداً ، صدرت " الأطياف الأربعة " عن مركز الإعلام العربي ، وكانت الأولى قد نشرتها لجنة النشر للجامعيين .

والأطياف الأربعة بشيءٍ من التجوز ، هي مجموعة قصصية لإخوة أشقاء أربعة هم :

حميدة وأمينة ومحمد وسيد قطب ، وجميعهم اشتهر بحسن بلائه وصبره وجهاده وتضحيته من أجل هذا الدين ، رحمهم الله أجمعين . وفي الأطياف انطباعات شخصية ، وشيء من سيرة ذاتية ... وقصص أدبية ، ومواقف فكرية ، إن الأطياف قد أزعجها الفقد " فقد الأم بعد الأب " ... فتألم لذلك ... الوجدان ، وانفعلت أرواحهم للحرمان ، ويصح أن يقال عنهم ، إنهم : " أناس حاولوا أن يقتنصوا الأزمنة ، والأمكنة في رمز ؛ في نص ، في كلمة ، في كيان مشحون بالحياة الصادقة التي تتجاوز الصمت ، والحصار الاجتماعي ، وتنطلق بقوة الأرواح كاتبة تاريخها الخاص " .

وقد تصدرت الطبعة مقدمة رصينة بقلم المستشار عبدالله العقيل هي من أهم ما يميز ـ كمثيلاتها من المقدمات ـ طبعة جديدة لإبداع أدبي أصيل ، بَعُدَ به الزمنُ عن المتلقي .

وقد استغرقت المقدمة أكثر من ثلاثين صفحة ، ما بين (9 ، 41) عرض فيها العقيل ابتداء للقبائل والأسرات الأدبية عبر تاريخ العربية قديماً وحديثاً ، أما قديماً ، فكما في طيءِّ وهُذَيل ، وكما في أسرة جرير الشاعر الأموي . وأما حديثاً فقد اشتهرت الأسرات : التيمورية ، والبستانية ، والأباظية ، والرافعية ، بالاشتغال بالأدب .

وفي إشارة إلى خصوصية التأليف الأدبي المشترك لإخوة أشقاء ، أشار إلى الخاليّين ، أبي بكر محمد بن هشام ، وأخيه : ابي عثمان سعيد اللذين اشتركا معاً في تصنيف :

الأشباه والنظائر ، وأخبار أبي تمام ومحاسن شعره ، وأخبار المفضل وغيرها .

ثم عرض للأطياف الأربعة تحت عنوانات فرعية هي على التوالي :

ـ الأطياف الأربعة ... إخوة النسب والأدب .

ـ الأطياف الأربعة والحب العذري .

وكشف في دلالة على عمق القراءة ، واستيعابها وواقعيتها وإنصافها على خصوصية كل طيف ، تحت عنوانات دالة ، هي على التوالي :

حميدة ... الطيف المغترب

أمينة ... لغة الحنين

محمد ... فيلسوف الأطياف

سيد ... الطيف الشاعري

وانتهى المستشار العقيل في تقديمه للأطياف إلى أن " الأطياف ... روح مشتركة وأربعة أقلام " فهي مجموعة إبداعية .. لئن أبدعها مختلفون ، فقد جمعتها سماتٌ مشتركة كثيرة ، عدد منها المستشار خمسة هي :

1 ـ الذكريات المشتركة ، وخاصة ما يتصل منها بالطفولة والأم .

2 ـ العفة ، وهي سمة الجميع ، ذُكرناً وإناثاً حال الحديث عن الآخر .

3 ـ الرومانسية المُحببة ، ومن ملامحها ، الاغتراب والقلق ، والانشغال بالموت ، والفزع منه .

4 ـ الوفاء .

5 ـ براعة الوصف .

وختم تقديمه بقوله : " إن الأطياف نص أدبي إسلامي بديع ، يغلب عليه الطابع القصصي ، وفيه ما يتصل بأدب السيرة الذاتية وأدب الخاطرة ، والأطياف أدب في مجمل حديثه عن الحب عذريٌّ رومانسيٌّ أصيل " .

وتبدأ الأطياف " بتعريف " أظن سيداً كاتبه ، وأظنه اختار " تعريف " دون مقدمة أو تصدير ، إحساساً منه ، أن عنوان " الأطياف " مستغرب ، خاصة حينما ندرك أن إبداع الأطياف هو في الحقيقة أطياف الأطياف ، والتعريف على هذا قاصدٌ إلى المبدعين لا إلى الإبداع ، كما أن " الأربعة " هي الأخرى مستغربة ، إذ لم يُعْهدْ حديثاً تأليف إبداعي أسريٌّ مشترك ، وهناك من القصاصين المصريين إخوة لم يشتركوا في إبداع أدبي واحد ، كمحمد ومحمود تيمور ، وعليه فتصدير الأطياف بـ " تعريف " لفتةٌ ذكية موفقّة ، خاصة حينما تبدأ هكذا ، محققة توافقاً وصدقاً وواقعية بين العنوان وما يليه ، وفيه : " صبية وفتاة ، وفتى وشاب ، أولئك هم الأطياف الأربعة ، إخوة في الدم ، إخوة في الشعور ، كلّهم أصدقاء ، وذلك هو الرباط الأقوى ، إنهم يقطعون الحياة ، كأنهم فيها أطياف " .

ويعرف بالأطياف ، طيفاً طيفاً ، بترتيب ما ورد بها ، لا بترتيب السنّ ، بل على عكسه تماماً ، إذ يبدأ بالصغرى ، وينتهي بالأكبر . يعرف أولاً بعذراء السجن الحربي (حميدة) " ولدت في 1937 وتوفيت في 2012م " فيقول : " أحد هذه الأطياف تلك الصبية الناشئة ، إنها موفورة الحسن أبداً ، مُتفزِّعة من شبح مجهول " ويعرف ثانياً بشاعرة الشهادة والمعتقل (أمينة) (ولدت في 1927 ، وتوفيت في 2007م) فيقول :

" وأحد هذه الأطياف ... تلك الفتاة الهادئة ، إنها سارية في الماضي ، لا تكاد منه تعود ، إنها شاعرة ، ثروتها من التصورات أجزل من ثروتها في التعبير " .

ثم يعرف ثالثاً بمحمد قطب " ولد في 1919 وتوفي بجدَّه في 4 أبريل 2014م " فيقول : " وأحد هذه الأطياف ... ذلك الفتى الحائر ، إنه دائم التجوّل في دروب نفسه ومنحنياتها .

يُفتِّش فيها ويتأمّلها ، ولا يسأم التأمل والتفتيش ، إنه يحلم في اليقظة ، ويستيقظ في الأحلام !! " .

أما حديث المعرِّف بذاته ـ إن صح توقعنا ـ فهكذا :

" وأحد هذه الأطياف ذلك الشاب الشارد . إنه عاشق المُحال !

إنه يطلب ما لا يَجِدْ ، ويسأم من كل ما يُنال .

ويسأم من كل ما يُنال .

وإنه بعد ذلك كله ـ لَلْوالدُ والأخ والصديق لأولئك الأطياف " .

وابتداءُ التعريف لجميعهم في كل مرة بقوله : " أحد هذه الأطياف .." ثم اسم إشارة للبعيد ، يعود إلى الفقرة الافتتاحية من التعريف ... بعده بدلٌ يلتزم فيه ذكر ما كان من تعريفه في السطر الأول " صبية ، فتاة ، وفتى وشاب " ولذلك كله ثلاث دلالات :

الأولى : المساواة التامة ، بل روح التسامح الراقية ، والتلاحم الوثيق بين الأربعة ، وإنزال الضعيف منهم منزلة نفسه ، فهو مثلهم ، وجميعهم متساوون ، لا فرق بين أحدهم أو إحداهم والآخرين .

الثانية : تماسك نص " تعريف " بتكرير الرباعية " صبية وفتاة .." على الترتيب محدداً في التعريف بهم .

الثالثة : تقدير " سيد " للمرأة ، انطلاقاً من فطرته السوية ، وتقدميه للضعيف على القوي ، إذ قدم الصغرى ، وأخَّر الكبير .

وبالأطياف (41) واحد وأربعون نصاً ، يغلب عليها أن تكون قصة ، اختص الطيف الأول منها (حميدة) بثلاثة عشر نصاً هي : " غربة ، عبادة الحياة ، أيها القبر ، غرور ، قلب متمرد ، الحلم واليقظة ، إلى المجهول ، الزمن الساحر ، في الليل ، في ضوء القمر ، اليد الخفية ، عظمة الليل ، أرنب يستغيث " ، وهي عنوانات يغلب عليها الاسمية ، كما هو الحال مع سائر الأطياف ، وعتبات النصوص الرئيسية تقع في منطقة الثبات من الوجهة اللغوية ، وهي من الوجهة الدلالية والسردية تكشف عن حالة من القلق " غربة ، إلى المجهول ، الزمن الساحر " والحزن " أيها القبر ، في الليل " .

وفي نصها الأول " غربة " وهو الأطول بالأطياف جميعها ، إذ يشغل من صفحة (74) وحتى (36) وقد جاء في قالب رسالة ، أرسلتها " حميدة " إلى صديقتها أو اختها الحبيبة " سميحة " ، والطرفان " حميدة ، سميحة " يتشاكلان ، ليس من الوجهة العلمية ... الصرفية ، فحسب وإنما من خلال السرد يبدو بينهما كثيرٌ من صور التوافق النفسي والخلقي والاجتماعي ، بحيث يكون بدا الطرفان متجانسين .

والقصة / الرسالة " غربة " تحكي موت الأم وأثرها الكبير في نفس الصغيرة ، خاصة ، والأسرة عامة ، ذلك الموت الذي أوقف بطلة القصة / الطيف لأول مرة أمام حقيقة الموت وقسوته ، وأثر ذلك في اغترابها عن دنيا الناس وخلوتها إلى نفسها ، تبدأ القصة ، وهي أشبه بمقطع من سيرة ذاتية واقعية للفتاة وأسرتها ، بنداء محبب يوهم بالواقعية ، وأن رسالة ما كانت ، ورداً ما كان عليها ، تقول :

" أختي الحبيبة سميحة .. وأخيراً جداً وصلتني رسالتك ، لقد كان يجب أن تصل إليّ ، قبل هذا بكثير ، كانت نفسي تنتظرها حتى قبل أن أبعث إليك برسالتي "

ثم هي تكشف عن غربتها ، وربما غرابتها عن مثيلاتها ؛ إذ هن يستمعن ويحاربن الصخب والضجيج ... تقول : " تلوميني يا عزيزتي على هذا الفراغ ، وتسألينني عن هذا الخجل الغريب الذي يجعلني أعيش هكذا دائماً في نفس بعيدة عن المجتمع وعن الناس ... وتسألينني كيف يعيش مَنْ في مثل سنّي ، حيث الصخب والضجيج والآمال الثائرة والحياة المتفتحة ... كيف يعيش هكذا كالغريب ... آه يا صديقتي لو تدرين ماذا أثارت في نفسي هذه الكلمة الصغيرة " كالغريب " .

وشخصية القصة " القاصة ذاتها " ليست كأترابها ، ممن يعيش حياة الراحة لهواً وتمتعاً ، وبالنص في أكثر من موضع اتكاءً على الوصف الفاعل في تشكيل الحدث ، وتوصيف الحالة ، كما في " الخجل الغريب ، الآمال الثائرة ، الحياة المتفتحة " ...

ثم تترقى " غربة " في الحديث سرداً عن سبب الاغتراب ، وأنه تمثل في موت الوالد ، تقول : " إن والدي الذي أحبه ، وأُلقي بنفسي بين ذراعيه فيربت عليّ في حنان عميق قد مات !! " .

وقد بدا اضطراب الفتاة لموت أبيها الذي نزل بها كالصاعقة متمثلاً في فقدان إحساسها بالمكان ، فبدت حيرتها بين فرحتها بالحياة في المدينة مع أسرتها ، وبين حبها للريف رغم منفراته ، تقول :

" مرّت العاصفة ، وبدأت نفسي تحت وقع ذلك الفيض الكبير من الحنان الذي غمرني به الجميع .. وعاد إليَّ شيءٌ من مرحى المفقود ،وكانت والدتي وشقيقي قد عادا من القرية واعتزما تركها والحياة في المدينة ... وفرحت أنا بهذه الحياة الجديدة ، فلقد أحببت المدينة من أول نظرة ، ولكن شيئاً ما قد اندسّ ينغِّصُ عليَّ بعض فرحتي بهذه الحياة . لقد كنت أحب الريف رغم كل ما فيه من منفرات " .

ثم كانت الكارثة التي عمقت الآلام حين اختطف الموت بعد الوالد الأم كذلك ، فتعزّز إحساس الجميع بالغربة ، لا الفتاة الصغيرة وحدها ، تجسد " غربة " هذه الفجيعة ووحشيتها فتقول :

" أصبحنا ذات يوم ، فإذا نحن أربعة غرباء في هذا الكون الواسع الكبير ... لقد اقتلع الموت البقية الباقية لنا من جذور ! لقد اختطف منا والدتنا ، وقضى علينا أن نصبح هكذا نبتة غريبة بدون جذور ، وهنا خرج الغول القابع في نفسي في ركن بعيد ، وإذا هو قد تضخم ونما ، وملأ نفسي ، وغشّى كل ما فيها من أحاسيس " .

وتستمر هذه الغربة حتى بعد مضي سنتين على موت الأم ، تقول :

" مرّت سنتان ، وتلاشت العاصفة تقريباً ، فإذا أنا غريبة غريبة عن كل ما في الكون الواسع إلا ما كان في الماضي القريب ، فإذا بذلك الغول الكبير يجثم على نفسي كلها ، فلا يترك لها بارقة من نور " ، وتنتهي القصة إلى فقدان إحساسها بكلا الزمان والمكان معاً ، لموت الوالد والأم ، فلا يقرّ لها عيش بالمدينة مع إخوتها ، ولا يهنأ لها بال بالعودة إلى موطن الذكريات بالريف تقول في النهاية :

" حينما بدأت تلوح القرية من بعيد أحسست أن قلبي يخفق ونفسي تبتهج ، وأحسست أن أنفي يندفع إليه نسيمٌ جميل ... وحينما دخلت السيارة في أول الشارع أبصرت أطفالاً قذرين مُهلهلين يسيرون في الطريق ، وبعض النسوة يجلسن بشكل غريب أمام الأبواب ينظرن إلى السيارة ببلاهة ونهم .

أحسست أن غشاوة سوداء قد ألقيت على نفسي ، إنني أيضاً غريبة عن هنا ، وعن كل هذه الأشياء ! إنني لست من الريف !!!" .

ثم تختم رسالتها أو قصتها أو بعض سيرتها ، كاشفة عن حيرتها ، وغربتها الغالبتين عليها ، إذ تقول : " إنني يا صديقتي نبتةٌ حائرة في هذا الوجود " وقد جسّدت " حميدة " في (غربة) مشكلة الاغتراب النفسي / الوجداني الذي تعاني منه الفتاة اليتيمة ، حينما تفقد ركنين من أركان الإشباع العاطفي الطبيعي الفطري .

ومع ما حاوله أفراد الأسرة من رغبة صادقة في تعريف الصغرى يتمها الباكر ، فإن شيئاً ما أصيلاً لا يمكن أن يملأ فراغه بديل ٌ ، وإن كان بعطاء " سيد " .

وفي قصتها الثانية " عبادة الحياة " تجسد الإقبال على الحياة ، وإن كانت عامرة بالشقاء ، وفي سرد شعري ... تقول :

" لمَ لا يعيش الإنسان كل لحظة من الحياة بكل ما في قلبه من حياة ...

ويحٌ لهذا المجنون الذي يلقي بنفسه من النافذة فإذا هو هباء

إنه يظن نفسه كاسباً بهذا الفناء

كاسباً بفراق الأرض وما فيها من شقاء

كاسباً بالراحة الأبدية لا يتخللها عناء

إنه خاسر ، خاسر كل شيء بفقدانه ذلك الشقاء ! "

والمقطع كأنه شعر ، لا باتحاد النهايات الخماسي ، ولا بالتكرير في المفاتح ، فحسب بل بالروح العامة التي تسري في جسد النص .

وفي مقطع رومانسي ولغة حالمة أقرب إلى الشعرية كذلك ، تتماهى فيه الذات مع الطبيعة .. نقرأ :

حينما تسحب الشمس خيوطها الصفراء الباهتة إيذاناً ، بالرحيل ، ويتسرب الليل على الكون الذي أضناه النهار ، حينما يغفو كل شيء ويلقي بعنانه إلى الليل السمح .

وحينما يضم الليل أبناء هذه الأرض كالأم الحنون

ويتسلل القمر الساحر إلى الكون في بطء وهمس

وكأنما يخاف أن يُمزّق سكون ذلك الصمت الرهيب

ويهمس الكون الغافي فيصحو ويجيب

يكون ذلك المسكين (الإنسان) هامداً في أعماق الثرى

إنه لا يسمع أبداً همس القمر الساحر البديع

ولا يعرف أن الليل الحنون يضم أبناء الأرض في رفق رحيم "

وفي قصتها " إلى المجهول " يبدو تلاشي الأمنيات باعثاً على القلق والضيق ، تقول في لغة تصويرية صادقة ، وقورة :

" أمنيات كبيرة مجهولة ترفُّ كالطير السعيد

ثم تحاول (أن) تقتفي واحدة من هذه الأمنيات

فإذا بها تومض وترقص ثم تغيب . كالشبح تراه العين ولا تلمسه اليدان

وتحاول أن تعرف في أي اتجاه تسير . فإذا بها خيال أشباح ترقص في غير اتجاه

وهكذا يغمر نفسها القلق والضيق

فتعود إلى الناس لتتحدث في توافه الأمور ".

وعن فعل الزمن تقول في " اليد الخفية " التي هي الزمن ، وفعله في تحوّلات أوتحويلات الاهتمامات لدى الإنسان :

" تمرّ الأيّام والشهور والسنوات

فتدبّ دبيبها الخافت الرقيق . على الأرض وكل ما فيها من قلوب

حين تتسرب في بطء وئيد هامس (...) ثم ينتبه الإنسان بعد قليل أو كثير

فيحسّ أن نفسه قد تغيّر فيها كثير . وأنه قد انقلبت فيها الموازين والمقاييس

وإذا هي تحبُّ ما كانت تكره بالأمس ، وتكره ما كانت تحبّه "

أما الطيف الثاني " أمينة " فنصوصه أقل من نصف نصوص " أمينة " إذ هي ست ، على التوالي : " المنوال المسحور ، رحلة إلى الماضي ، خريف وربيع ، رسول الفناء ، ثياب العيد ، أختان "

وفي قصتها الأولى " المنوال المسحور " تحكي هي الأخرى صراع الإنسان مع الزمن ، ومن داخل هذا الصراع الكبير صراع الأجيال المتعاقبة ، الجدة ، الأم ، الابنة ، الحفيدة ، وعن رغبة المرأة الفطرية في الاحتفاظ بشبابها وجمالها دائماً ... كما تحكي عن مشاعر المرأة في سن الأربعين ، وتبدأ القصة بداية شائقة بما يوحي بأزمة ما ، جرت وقائعها الأولى خارج المنزل ... هكذا :

" صعدت الدرج وراءها ابنتها ، وفي نفسها أسىً واستسلام وهبوط ، غير أنها عندما دخلت إلى حجرتها قصدت مسرعة إلى المرآة ، وأخذت تتفرس في وجهها وكأنّ بها مساً من الجنون "

ثم هي تكشف عن سر فزعها إلى المرآة ، بما يقرر عفتها وأصالة أخلاقها ، وأنوثتها أيضاً ، إذ تقول : " لم تسرع على المرآة بدافع الاطمئنان على شكلها وهيأتها ، بل كان هناك دافع آخر ... لقد فوجئت بهذه الغضون الخفيفة التي بدأت تظهر على جبينها وحول عينيها ... وجلست لتخلع حذاءها .. في إهمال ، وراحت تحدق في ركن من أركان الغرفة بنظرات ذاهلة غائبة " .

وهي تقرر هذا الذهول ، متكئة في ذلك على الوصف هي الأخرى ، فتقول :

" كان صوت ولديها الصغيرين اللذين يتنازعان لعبة من ألعابهما في الحجرة المجاورة ، كان يلمس أذني ، وكأنه يأتي من مكان بعيد فلا يؤثر في حسِّها ، ودخلت ابنتها ... ومرت أمامها فلم تشعر بها إلا كما يشعر الإنسان بخيال عابر سريع "

وتعتمد على تقنية الفلاش باك ، حينما استدعت زيارتها لصديقتها " بدرية " ، وللاسم دلالته على الجمال ... تلك القيمة الغالية على المرأة .

وتُلمّح " أمينة " إلى تأفف الأجيال الشابة من السابقة في أدب جم ... تقول :

" وإذا بجدة صديقتها ، ملك العجوز الوقور الطاهر القلب ، تأتي لتحييها وتجلس معها ومع (بدرية) بعض الوقت ، وأحستا بشيء من الضيق لمجيء العجوز ... ولكن آدابهما لم لم تكن تسمح لهما بإبداء هذا الضيق "

وبطلة الطيف الثاني " أمينة " هي الأخرى ، في " المنوال المسحور " تحاول توقبف الزمن لئلا يذهب جمالها تماماً كبطلة قصة أختها في (الزمن الساحر) ويلاحظ التقارب الشديد بين العنوانين والفكرتين ، إذ تتساءل بطلة الطيف الثاني مندهشة ذاهلة : " ما أقسى هذا وما أمره على نفسها ! أو حقاً هي الآن امرأة في الأربعين ..

وهل ستظل الأيام تمضي مسرعة دون توقف أو إبطاء ؟ وتصل هي إلى الخمسين ثم إلى الستين ، وتصير جدة هرمة كوالدة صديقتها ؟ لا هذا محال . إن هذا قاسٍ ومؤلم لا يطاق ، ولن يكون هذا أبداً "

والبطلة وهي على هذه الحال ، وفي نهاية القصة ، تبدو عاطفة الأمومة لديها طاغية ، لا يشغلها عنها شيء ، ولو كان الزمن أو الجمال ، إذ لما "طرق سمعها صوت أحد ولديها وهو يحلم حلماً مزعجاً ، فإذا بها تنتفض واقفة تسرع إلى هناك حيث ينام " .

والقصة تكشف عن الواقعية في معالجة الأزمات الذاتية ، وعدم التصادم أو التشدد ، بل التسامح والاستعانة بالمباحات في التسرية عن النفس .

ومن أروع قصص أمينة (ثياب العيد) وتحكي عن تباين حظوظ الناس في الدنيا ، وعن قسوة الإقطاعيين ، وبؤس الفلاح المصري (عبد التواب) وأسرته ، إذ تثقله الديون ، وينهشه المرض ، فلا يقوى على تلبية حاجيات أبنائه الأساسية من ثياب أو مأكل .

أما الطيف الثالث (محمد) فتبدو نصوصه كما ورد عنواناً لأولها (صورة نفسية) لذاته ، وقد جاءت أغلبها في إطار شكلي كأنه الشعر ... المنثور ... في القدرة على التصوير والتكثيف ، وسرعة الانتقال من مشهد لآخر ، كما في قوله بأول صوره النفسية " من ذكريات الطفولة " :

" الطفولة التي تفغر فاها عجباً لكل جديد ...

الحماسة لكل شيء والاندفاع إليه / الحركة التي لا تهدأ ولا تقر .

القفز والوثب والعبث بكل شيء وبكل إنسان

الفوران لكل طرقة كما يفور النبع من باطن الأرض / الانطلاق والحرية

ما أعذب أيام الطفولة ! "

ويبدو فيها البطل / الطيف ذاته ، عنيداً ، منطوياً ، يخشى الناس والشارع فهو :

" مع هذه الجرأة على الظلام كان يرهب الشارع ، ولا يخرج إليه حتى في وضح النهار " وتبدو في الصورة / القصة روح العالم مستكنة بذات الطيف الثالث باكراً ، وذلك في تساؤلاته المتتابعة ، الكاشفة عن تأمل عالِم وروح أديب ، إذ " يذكر أنه خرج ذات يوم مع والده إلى الحقل فرأى عالماً جميلاً لم يكن رآه من قبل ، العالم الفسيح الممتد ... لا يحدّه ... إلا الجبلان القائمان في السماء ، وهما في ذاتهما منظر عجيب جميل ، فأين هما ؟... ما هما ؟ ما هو الجبل ؟  كيف ينبت في الأرض ؟ وهل السماء تنتهي عناك ؟ هل السماء مرتكزة على الجبل هناك عند منهى النظر ؟ أم هي وراءه ؟ وما هي السماء ؟ وما هذه الزرقة الصافية التي يراها فيها أبداً ؟ "

وهو يكشف في نهاية الصورة عن تيارين رئيسيين يتنازعان ذاته العالمة الأديبة ، فبدت الصورة ـ قبساً من سيرة ذاتية ، إذ يقول :

" ذانك تياران قويان في نفسه يفترقان حيناً ويلتقيان حيناً ... فأحدهما إيمان بالواقع المحسوس ،.... والآخر إيمان بما وراء الحياة من قوى خفية ، وهي أعظم أثراً من ذلك المحسوس كله ، وإن كانت لا تبين .

إيمان بالعلم وإيمان بالخيال ومن هنا كانت فيه عقلية عالم دقيق البحث ، يؤمن بالمنطق ، ويُحكمه في كثير من أفكاره وكانت فيه نفس شاعر ، وروح متدين ، وانطلاق روحاني لا يؤمن بالحدود والقيود "

أما الطيف الرابع ، فنصوصه تنسجم في المجمل مع نصوص الأطياف الأخرى في أشياء ، وتفارقها في شيء رئيسي ، أما انسجامها معها فإحساسه الرهيب ، مثلهم بالزمن ، وإن غشيته عنده مسحة فلسفية ، كما في قوله :

" أيها الزمن ! أيها الرحيم القاسي !

إنك لَتلأم الجرح ، وتفتح البرعم ، ولكنك تبلي الكيان وتذوي الحياة ...

إنك لتمنحنا الجديد ، وتهبنا الطريف ، ولكنك تسلبنا القديم ، وتحرمنا التليد ، لا بل أنت تسرق منا هياكلنا ونفوسنا ، وتخطف ذراتنا وخواطرنا وأيا كان ما تعوضنا فإن تعويضك محدد بالعمر صائرٌ إلى نفاد ، وفقداننا إلى غير رجعة ، ولن يُستعاد ! "

وهو يذكر مثلهم الأم والطفولة والطيف ، فهو في نفثته الأولى " أماه " يقرر تفكك وحدة الأسر بعد موت الأم ، إذ لم يشعر الأبناء والإخوة الأطياف حال مات الوالد ... بل حين ماتت الأم ... يقول :

" إننا لم نعد بعد أسرة ... اليوم فقط مات أبي ، واليوم فقط أصبحنا شتيتاً منثوراً ، وإني لأضم اليوم على صدري ابنكما وابنتيكما ، أضمّهم بشدة لأستوثق من الوحدة ، وأُشعرهم بالرعاية ، ولكن هيهات هيهات ، فأنا وهم بعدك أيتام يا أمّاه "

وهو في حب صادق وألم فاجع لفراق الأم ... يدعوها إلى البقاء ...! دون أن يبالي بمرارة آلام الذكرى التي يتجرعونها ... ويعتبر فراقها ثم التسلي عنها بذكراها هو الفراغ القاتل ، فيختم نفثته قائلاً :

" عيشي معنا يا أماه في هواجسنا وأفكارنا ، ولا تبالي أن يلذعنا ألم الذكرى كل لحظة ، فهو ألم رفيع عزيز ، يغذي من نفوسنا ما كان يغذيه عطفك ، ويملأ من وجداننا ما كانت تملؤه رعايتك ، الفراغ القاتل والسلوى الرخيصة يا أماه "

وزمنياً بين الفترة الرابعة (21/11/1941) والأولى (12/10/1940) من نفثته هذه ما يزيد على العام ، ومع ذلك فلوعة الفراق وحرارته كما هي لا تحيد ، ولا تنطفئ جذوتها ، ولا يلمح القارئ حتى مع التفاته للتاريخين ـ أي اختلاف في حرارة الأسلوب بين الفقرتين ، لأنه الوفاء الصادق حينما يعتمل في نفس الأديب ، وأكاد أؤمن من حديث الأطياف عن الأم ، في ضوء واقع الأبناء من بعد ، وقد قضوا جميعاً ، أنه حقاً وراء كل رجل عظيم امرأة ... شريطة أن ترعاه بعين الأم .

أما ما تفارق نفثته سيد نصوص الأطياف الأخرى ، فشاعرية أسلوبه التي انسرب لها كثير من أضوائها الأصيلة إلى قصصه بالأطياف والحق أن " القصة القصيرة تشبه القصيدة الغنائية : كلتاهما محكومة بشيئين ، بالبؤرة الشعورية التي تنمو إحداهما حولها ، وبطول مهما يمتد ، فإنه لا يتجاوز مقداراً تحتمه وتقرره دورات نمو لابد أن تقف عند به عند حد ، ثم تختلف كلتاهما في ما عدا ذلك "

ومن أبرز تقنيات تلك الشاعرية ما بدا أولاً في تكراره للفاتح (أماه) في مطلع كل مقطع ، وأحياناً في ختام بعض المقاطع من نفثته الأولى (أماه) وهي تقنية شعرية بامتياز .

ومن تلك التوازنات الشعرية التي تجاوزت مراحلها عشر دوال لثلاث مرات متتالية قوله :

ـ هناك ألوان من الحديث ماتت في شفاهنا ، فلن تنطق بها أبداً ،

زألوان من الذكريات خمدت في قلوبنا ، فلن تثور بها أبداً ،

وألوان من الأمنيات طمست في أرواحنا ، فلن تضيء لها أبداً "

... أولئك هم الأطياف الأربعة ، وهذه خطواتهم في كتاب ، إنهم عصارة من نفوسهم ، وظلال من حياتهم ، إنها أطياف الأطياف .

والأطياف بحاجة إلى دراسة علمية مُعمقة ، تضعها بمكانها اللائق على خريطة الإبداع العربي والأدب الإنساني عامة ، والإسلامي خاصة .

وسوم: 636