الوردي : (35) الموقف الجريء من خيانة ابن خلدون

لغز الصفحات العشر البيض في كتاب "التاريخ العام"

الموقف الجريء من خيانة ابن خلدون :

لقد كتبتُ عدة مقالات نشرتها في صحف مختلفة تساءلتُ فيها عن سبب عدم إشارة المثقفين العرب إلى خيانة ابن خلدون وتعامله مع ( تيمورلنك ) الغازي ، ومساهمته في فتح أبواب قلعة دمشق الصامدة أمامه ، وما حصل من ذبح وحرائق بعدها ، مذابح وحرائق يشير إليها ابن خلدون بشكل عابر وبدم بارد ، بعدما كان تيمورلنك قد فكّر بعقد هدنة مع أهالي دمشق بفعل صمودهم . وقلتُ أن هناك نوعا من التستر على هذه الخيانة وليس التغافل أو التغاضي أو التناسي .

تصوّروا مفكّرا عربيا مهما مثل الدكتور ( محمد عابد الجابري ) يؤلف كتابا يقع في (483) صفحة عنوانه ( فكر ابن خلدون – العصبية والدولة – معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي ) صدر عن دار الشؤون الثقافية ببغداد في الثمانينات (244) ، يتجنب فيه التطرق - ولو بكلمة واحدة على الأقل  إلى المدّة التي قضاها ابن خلدون في دمشق ودوره الخطير الذي لعبه في إسقاطها لمصلحة الغازي .

وخذوا كتابا آخر يقع في (686) صفحة وعنوانه ( الفكر الأخلاقي عند ابن خلدون ) لمؤلفه الدكتور ( عبد الله الشريط ) (245) . هذا الكتاب هو أصلا أطروحة دكتوراه يتحدث فيها المؤلف عن أدق تفاصيل الفكر الأخلاقي وما يلحقه من سلوك لدى ابن خلدون دون أن يشير ولو بكلمة واحدة إلى تلك الواقعة السلوكية الخيانية ، بل على العكس من ذلك نجد المؤلف يقدم المواعظ والنصائح الأخلاقية للقراء العرب انطلاقا من التنظيرات الأخلاقية لابن خلدون . يقول (شريط) :

( إن الإلحاح على تمجيد ماضينا دون إلحاح يعادله أو يفوقه على نقاط ضعفنا في التاريخ وفي الواقع المشاهد ، ودون تعليل لكل ذلك بفكر علمي متحرر من العقد . إننا بدون ذلك نصبح أشبه بمن يلوي عنق أمته فتُصاب بانفصام في شخصيتها ، ويصبح عندها من الطبيعي أن يكون الحاضر للآخرين والماضي لنا ، والدنيا لهم والآخرة من نصيبنا ، وإن أول عمل علمي يجب أن يقوم به المثقف هو أن يثور على واقعه بالنقد الذاتي ) .

إن الدكتور شريط الذي يقول أنه أمضى ست سنوات في صحبة ابن خلدون دارسا له ومؤشرا نقاط الضعف في فكره الأخلاقي يعلن في ختام مقدمة كتابه :

( وإذا نحن استطعنا يوما أن نعرف ونفهم أنفسنا وإمكاناتنا المعنوية والطبيعية والبشرية ، نكون قد حققنا الخطوة الأولى الصحيحة لخلق فكر أخلاقي فعال وحاسم لأمتنا ، ويكون ابن خلدون ( كذا ) الذي لم يخادع أمته يوما هو معلمنا الأكبر الذي هدانا إلى هذا المنهج القويم ) .

وخُذْ أيضا كتابين من تأليف وتحقيق الدكتور ( علي عبد الواحد وافي ) وهو أكثر الباحثين العرب تخصصا بتراث ابن خلدون ؛ الأول هو ( عبقريات ابن خلدون ) (246) وفيه يتعرض لحياة وآثار ابن خلدون تفصيليا ، ويتحدث في الفصل الرابع عن ( لقاء ابن خلدون بتيمورلنك) من الصفحة (91) إلى الصفحة (95) ويعلّق على (لقاء) ابن خلدون بتيمورلنك والمساومات والتنازلات المهينة التي قدمها ابن خلدون له بالقول :

(ويظهر أن ابن خلدون قد عاوده حينئذ داؤه القديم وساوره الحنين إلى المغامرات السياسية ، فكان يعلّق على صلته بتيمورلنك آمالا أخرى غير ما وُفق إليه في شأن دمشق وشأن زملائه العلماء والقضاة ، ولعله كان يرجو الانتظام في بطانة الفاتح والحظوة لديه . ولذلك أخذ يكذب في مدحه ويذكر له أنه كان عظيم الشوق إلى لقائه منذ أمد طويل ، ويتنبأ له في مستقبله بملك عظيم مستدلا على صحة تنبؤاته بحقائق الاجتماع وأقوال المنجمين والمتنبئين بالغيب . ويظهر كذلك أن ابن خلدون قد أنس سذاجةً في هذا الفاتح مرحبا في المديح فأخذ ينفخ في كبريائه بهذه التنبؤات . ويروي ابن خلدون ما ذكره بدون أن يصرح بما دعاه إلى ذلك فيقول : ففاتحته وقلت له : أيّدك الله ، لي اليوم ثلاثون أو أربعون سنة أتمنى لقاءك . فقال لي الترجمان عبد الجبار : وما سبب ذلك ؟ فقلت : أمران ؛ الأوّل أنك سلطان العالم وملك الدنيا ، وما أعتقد انه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد مثلك ، ولست ممن يقول في الأمور بالجزاف ، فإني من أهل العلم . وأما الأمر الثاني مما يحملني على تمنّي لقائه فهو ما كنت أسمعه من أهل الحدثان وهم المنجمون والملهمون من المتنبئين بالغيب .. ) .

ويكمل الدكتور (وافي) رأيه بالقول :

(غير أن ابن خلدون لم يوفّق إلى تحقيق ما كان يأمله من تيمورلنك ، فلم تمض أسابيع قلائل حتى سئم البقاء في دمشق واستأذن تيمورلنك في العودة إلى مصر فأذن له ) .

أما الكتاب الثاني للدكتور وافي فهو كتاب ابن خلدون نفسه : ( التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا ) ، وهو سيرته الذاتية التي قام الدكتور وافي بتحقيقها (247) وفيه قسمان بقلم ابن خلدون عن ( لقاء الأمير تمر سلطان المغل والططر ) ، و (الرجوع عن هذا الأمير تمر إلى مصر ) من الصفحة 406 إلى الصفحة 428، يتحدث فيهما وبدم بارد ولغة رشيقة عن خروجه على إجماع أبناء قلعة دمشق الصامدين ، وخوفه على نفسه ، وتدلّيه من السور لمقابلة أعظم ملك منذ أيام آدم كما يقول ، وكيف قبّل يد الغازي المحتل . يقول ابن خلدون :

(وجاءني القضاة والفقهاء واتفق رأيهم على طلب الأمان من الأمير "تمر"على بيوتهم وحرمهم وشاوروا في ذلك نائب القلعة فأبى عليهم ذلك ونكره فلم يوافقوه ) ثم يذكر كيف تدلّى ( المثقفون ) العقلانيون (والتطبيعيون !!!) من قضاة وفقهاء من السور وقابلوا تيمورلنك :

( فأحسن لقاءهم وكتب لهم الرقاع بالأمان وردّهم على أحسن الآمال ، واتفقوا معه على فتح المدينة من الغد ، ودخول أمير ينزل بمحل الإمارة منها ويملك أمره بعز ولايته) .

ثم يتحدث عن ( مبادرته الخيانية) في الليلة التالية فيقول :

( وأخبرني القاضي برهان الدين أنه – أي تيمورلنك – سأله عنّي ، وبتنا تلك الليلة على أهبة الخروج إليه ، فحدث بين بعض الناس تشاجر في المسجد الجامع ، وأنكر البعض ما وقع من الاستنامة إلى القول . وبلغني الخبر من جوف الليل فخشيت المبادرة على نفسي ، وبكرت سحرا إلى جماعة القضاة عند الباب ، ودلّوني من السور . فلما دخلت عليه فاتحت بالسلام وأوميت إيماءة الخضوع ، فرفع رأسه ومدّ يده فقبلتها ) .

المهم أنني في مقالاتي تلك عن خيانة ابن خلدون كنت أحيّي المبدع السوري ( سعد الله ونّوس ) لأنه أول من تعرّض لهذه المسألة الخطيرة ، وكشفها بصراحة في مسرحيته ( منمنمات تاريخية ) . ولكن بعد أن قرأت كتاب الدكتور (علي الوردي) : (منطق ابن خلدون ) تكشفت لي حقيقة أخرى وهي أن الوردي هو الذي يحمل قصب السبق في هذا المجال . صدر كتاب الوردي في سنة 1960، وقد جاء ليعبّر عن اهتمام الوردي المبكّر بابن خلدون حيث كان جزء كبير من أطروحته التي حصل عنها على شهادة الدكتوراه من جامعة تكساس عام 1950 مخصصٌ لفكر ابن خلدون . ولكن الوردي - وبخلاف الباحثين العرب الآخرين - كان متوازنا في بحثه ، بل وغير هيّاب في أن يخصّص فصلا كاملا من كتابه هو الفصل الحادي عشر لدراسة الصلة بين سلوك ابن خلدون الذي رآه الشريط أخلاقيا يجب الإقتداء به ، ونظريته ، وكان بعنوان جسور هو ( السلوك والنظرية ) ، قال في جانب منه : ( .. مقابلة ثانية قام بها ابن خلدون بالإشتراك مع جماعة من فقهاء دمشق حيث خرجوا إلى تيمورلنك ليفاوضوه في أمر تسليم المدينة له ... أمر لهم تيمورلنك بالطعام ، فنشر لهم السماط أكواما من اللحم المسلوق ، ووضع أمام كل منهم ما يليق به . فتعفف البعض منهم عن الأكل تنزّها ، وتشاغل آخرون بالحديث عنه ، بينما أخذ بعضهم يلتهم الطعام إلتهاما ، وكان ابن خلدون من بين هؤلاء الآكلين . وانتهز ابن خلدون المناسبة فنادى بصوت عال : " يا مولانا الأمير ، الحمد لله العلي الكبير . لقد شرفت بحضوري ملوك الأدام ، وأحييت بتاريخي ما ماتت لهم من أيام . ورأيت من ملوك الغرب فلانا وفلان ، وشهدت مشارق الأرض ومغاربها ، وخالطت من كل بقعة أميرها ونائبها . ولكن لله المِنّة إذ امتد بي زماني ، ومَنّ الله علي بأن أحياني ، حتى رأيت من هو الملك على الحقيقة ، والمسلك بشريعة السلطنة على الطريقة . فإن كل طعام الملوك يؤكل لدفع التلف ، فطعام مولانا الأمير يؤكل لذلك ولنيل الفخر والشرف . يقول ابن عربشاه ، فاهتز تيمورلنك عجبا ، وكاد يرقص طربا . وأقبل بوجه الخطاب إليه ، وعوّل في ذلك دون الكل عليه ، وسأله عن ملوك الغرب وأخبارها ، وأيام دولها وآثارها . فقصّ عليه من ذلك وخدع عقله وخلبه ، وجلب لُبّه وسلبه .. ويحدثنا ابن خلدون كيف أنه صار موضع رعاية تيمورلنك وفي ضيافته خمسة وثلاثين يوما .. وكتب أثناء تلك المدة رسالة عن جغرافية المغرب طاعة لأمر تيمورلنك الذي كان عازما على فتح بلاد المغرب فأراد أن يتعرف على جغرافيتها سلفا . وقد أتمّ ابن خلدون الرسالة في اثنتي عشرة كرّاسة ، قدمها إلى تيمورلنك ، فأمر هذا بترجمتها إلى اللغة المغولية ) (248) .

# أول محاولة تربط فكر المفكّر بسلوكه :

---------------------------------------

ومن ناحية أخرى قد يكون جهد الوردي هذا هو الجهد الأول من نوعه الذي يتناول علاقة سلوك مفكر بفكره في الوطن العربي ، وقد سبقته محاولات في التحليل النفسي للأدب تربط بين سلوك المبدع ومنجزه الإبداعي للعقاد ومحمد النويهي ، ولكن حسب مراجعاتنا لم يحصل في تاريخ الثقافة العربية أن ربط كاتب بين سلوك مفكر وأفكاره وبنيته الشخصية ، اللاشعورية تحديدا. والسمة الثانية التي تميز الوردي في تناوله للجانب السلوكي لشخصية ابن خلدون هي الصراحة الحادة رغم أنه من المعجبين بأفكاره ، وأعتقد أن هذا هو أساس الموقف الموضوعي . يقول الوردي :

(مما يلفت النظر في حياة ابن خلدون ، لا سيما منها تلك الفترة التي اشتغل فيها بالسياسة ، أنها لم تكن تخلو من خُلُق الغدر والنفاق والانتهازية .وهذا أمر يكاد أكثر الباحثين يتفقون عليه . فالمعروف عن ابن خلدون أنه كان لا يستقر في ولائه على شيء وكثيرا ما كان يتملّق من يرجو المنفعة عنده ويبدي له إمارات الإخلاص والنصيحة حتى إذا رآه مهزوما أو مغلوبا قلب له ظهر المجن وأسرع إلى خصمه الغالب يتملق له على منوال ما فعل مع سلفه ) (249 ) .

ولا يتردد الوردي في التساؤل الصادم عن أن ابن خلدون قد قام بفعلته هذه وكان عمره ينوف على السبعين عاما ، فـ :

( ليت شعري كيف كان حاله إذن عندما كان شابا طموحا يحب السياسة ويندفع في سبيلها اندفاعا شديدا ؟ ) .

# المفكّر العظيم قد يكون منحطّ السلوك :

----------------------------------------

ولا يقف جهد الوردي عند حد إثارة معضلة التناقض بين سلوك ابن خلدون وفكره ، بل يوسّع النظرة ليرد على تصور خاطيء لدى قطاع واسع جدا من الناس يفترض أن الشيء العظيم يجب أن يكون عظيما من كل ناحية ، فلا أحد يستطيع تصديق حقيقة أن دستويفسكي – مثلا – كان يسرق مصوغات زوجته ويرهنها كي يلعب القمار وهو الذي يلقب بحق أنه ( نبي روسيا ) ، وأنه أخبر غريمه تورجنيف أنه اغتصب طفلة عمرها عشر سنوات !!. يقول الوردي :

( يحاول بعض المعجبين بابن خلدون تبرئته من وصمة النفاق والتملّق ، كأنهم لا يستطيعون أن يتصورا مفكرا عظيما كابن خلدون يسير في سلوكه الشخصي على هذا النمط الذميم . ولعلهم يرون أن الرجل ما دام عظيما في تفكيره فلا بد أن يكون عظيما في سلوكه أيضا . إن هذا الرأي لا يلائم ما يقول به العلم الحديث في أمر تكوين الشخصية في الإنسان ومدى الصلة بين السلوك والتفكير فيها . فالإنسان قد يكون ذا تفكير عظيم جدا ، وهو في الوقت ذاته ذو سلوك منحط ) (250) .

ويضرب الوردي مثلا بالأستاذ (جود) الذي كان من أعظم المفكرين في القرن العشرين ويرأس قسم الفلسفة في جامعة لندن وله مؤلفات مهمة ، ولكنه مات بعد أن ثارت حوله فضيحة خلقية كبرى ، حيث كان على الرغم من شيخوخته وعلمه يركب المترو دون أن يدفع الأجرة . وكثيرا ما كان يراوغ ويدلّس في هذا السبيل من أجل فلوس معدودة . وعندما انفضح أمره اعترف بأنه كان مصابا بعقدة نفسية تدفعه إلى مثل هذا العمل الشائن دون أن يعرف كيف يتخلص منها . ويضع الوردي معادلة محكمة لحل هذا الإشكال حين يقول :

( أن المنهج الذي اتبعه ابن خلدون في دراسة المجتمع يمكن أن نتبعه نحن في دراسة ابن خلدون نفسه وفي دراسة نظريته . فالرجل كان ذا تفكير عظيم بمقدار ما كان ذا سلوك منحط ، ولعله لم يكن – وهنا يضعنا الوردي في صلب كشف إنساني فكري عظيم – قادرا على إبداع نظريته الرائعة لو كان ذا سلوك اعتيادي .. وربما كانت انتهازيته المفرطة التي شذ بها عن مفكري زمانه هي التي جعلته يشذ عنهم في التفكير ، فالجانبان متلازمان كتلازم الصفات الحسنة والسيئة في الأشياء جميعا ) (251) .

قصة الصفحات البيض :

------------------------

من الإنتباهات الدقيقة جدا والتي تعبّر عن القراءة التحليلية العميقة والمتأنية التي قام بها الوردي لتراث ابن خلدون ، هو التفاتته إلى موضوعة الصفحات البيض في مؤلف ابن خلدون المعروف : " التاريخ العام " . هذه الصفحات البيض التي كان موضعها غريبا ولم ينتبه إلى وجودها أحد من الباحثين ولم يتساءلوا عن مغزاها . يقول الوردي :

( مما يلفت النظر أن ابن خلدون لم يذكر شيئا عن ثورة الحسين في تاريخه العام ، بل ترك مكانها فارغا . والغريب أن الذين قرأوا تاريخ ابن خلدون ، والذين اشتغلوا في طبعه ، لم يفطنوا إلى علة هذا الفراغ " الأبيض " في صفحات الكتاب . يخيل إلي أن ابن خلدون ، عندما أراد أن يكتب عن ثورة الحسين في تاريخه ، تملكته الحيرة وتوقف عن الكتابة . فهو لا يدري أيكتب الرأي الذي يؤمن به في قرارة نفسه ، أم يكتب الرأي الذي يريده الناس منه . والظاهر أنه خصّص لحادثة الحسين صفحات من تاريخه ، وتركها بيضاء لكي يعود إليها فيملأها بعد أن يستقر في أمر الحسين على رأي معين . ثم مرّت به الأيام فنسى أمر تلك الصفحات البيضاء ، حيث بقيت على حالها إلى يومنا هذا ) .   

وسوم: 635