مِن سَناسلِ حيفا يَنبعثُ صدى الانهيار!
أقام نادي حيفا الثقافيّ والمجلس المِلّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا ومؤسّسة الأفق للثقافة والفنون أمسيةً ثقافيّة، لإشهار "الانهيار" للكاتب المسرحيّ عفيف شليوط، في قاعة كنيسة ماريوحنا الأرثوذكسية في حيفا شارع الفرس 3، بتاريخ 8-10-2015، ووسط حضور من المثقفين والأدباء والأصدقاء، وقد رحب المحامي (رئيس ومؤسس نادي حيفا الثقافيّ) بالحضور، وتولى عرافة الأمسية الإعلاميّ وليد ياسين، وتحدّث عن "الانهيار" كلٌّ من الأدباء: حنّا أبوحنّا، نبيهة جبّارين، د: محمد صفوري، والمحامي حسن العبادي، وفي نهاية اللقاء وجّه الحضور أسئلة للكاتب، ثمّ شكر شليوط الحضور والمتحدثين والقائمين على إحياء الأمسية، ومن ثمّ تمّ توقيع الكتاب والتقاط الصور التذكاريّة!
مداخلة وليد ياسين عريف الأمسية: عفيف شليوط عرفته قبل ما يقارب أربعة عقود من الزمن، كانت بداياته في عالم الفن المسرحي، وجمعنا بعض الكرّ والفرّ في هذا المضمار لسنوات.. لكن عجلة الزمان تدحرجت وتشعّبت، فانحاز كلُّ طرَفٍ إلى مشاغله ومسيرة حياة تفرض نفسَها، وتقودُ الإنسان إلى عالم يكون أحيانًا غيرَ عالمِه. اخترتُ الصّحافة واحترافَ النّصّ السّياسيّ، الّذي تداخلَ أيضًا هنا وهناك في النصّ الأدبيّ، أو مجال العمل الاجتماعيّ، وأمّا هو، فسعى إلى استكمال مسيرتِهِ الفنّيّةِ ككاتبٍ مسرحيٍّ ومُمثّلٍ ومُخرجٍ، وباحثٍ في عالم المسرح المَحلّيّ، وطبعًا ككاتبٍ قصصيٍّ له عالمُهُ الخاصّ.
عفيف شليوط، المُشاغبُ في كتاباتِه، أثارَ أحيانًا الجدلَ حولَ إنتاجاتِهِ الفنّيّةِ وكتاباتِهِ، في انتقادِهِ الجريءِ لظواهرَ تَعامَلَ معها غيرُهُ كأبقارٍ مُقدّسة، تخوَّفوا مِن مُلامستِها، ربّما خجَلًا أو وَجلًا مِن ردّ فِعل، لكنّهُ خاضَ معركتَهُ، ولم يَعرفْ مَعنى اليأس في تَحَدّيهِ لواقعٍ نظَرَ إليهِ بشكلٍ مختلف، ونجَحَ مِن خلالِ أعمالِهِ المَسرحيّةِ والأدبيّة، وحتى في نصوصِهِ النّاقدة، بفرْضِ نفسِهِ على السّاحةِ، وحقّقَ رسالتَهُ، لا بلْ توَّجَها بإنشاء مؤسّسةٍ لرعايةِ الفنّ والإبداع الأدبيّ، في وقتٍ غابتْ فيهِ المُؤسّساتُ الفاعلة في هذا المَجال لهذا السّبب أو لآخر.
الفنان والكاتب عفيف شليوط من مواليد شفاعمرو، لكنّه اختارَ حيفا مَقرًّا لإقامتِه، وبهذا تستحقُّ شفاعمرو وحيفا تقاسُمَ شرفِ انتسابِهِ إلى كلٍّ منهما. اختارَ في دراستِهِ الأدبَ المُقارنَ واللّغةَ العربيّة، وكرَّسَ جُهدًا للكتابةِ الإبداعيّة. شاركَ في تمثيلِ وإخراج وتأليفِ عددٍ كبيرٍ مِنَ المَسرحيّاتِ، وأثبتَ حضورَهُ اللّافتَ، سواء على المسرح أو في عالم الإبداع الأدبيّ. ونعتزّ بأنّ أعمالَهُ وصلتْ إلى العالميّة، سواء مِن خلال مشاركاتِهِ في مهرجاناتٍ مسرحيّةٍ دوليّة، أو منتدياتٍ أدبيّة.
في أحضانِ حيفا نلتقي بهِ هذا المساء، والاسم الذي اختارَهُ لمجموعتِهِ التي نحتفي بها هنا "الانهيار"، لا يُجسّدُ المرحلة التي حققها بشكلٍ تصاعُديٍّ في إبداعِهِ الأدبيّ، كما الفنّيّ.. لكنّها مرحلة تُحتّم الوقوفَ على ضفافِها، لاستقراء ما وصَلَهُ كاتبُنا في مسيرتِه. معنا في هذه الأمسية الأديبُ والشاعرُ حنّا أبو حنّا، والناقد الدكتور محمّد صَفّوري، والشاعرة نبيهة جبّارين.
مداخلة الأديب حنّا أبوحنّا: سلسلة قصص قصيرة تدور جُلُّها حولَ محوَرٍ يتصدّرُ عنوان الكتاب "الانهيار"، ومشهد مسرحيّ قبل ذلك في كتاب "السنسلة"، يدورُ أيضًا حولَ هذا المحور؛ "في النهاية ينبعثُ صوتُ انهيارِ السنسلة، وصوتُ صرخةٍ رهيبةٍ يُطلقها السيّد". ونعودُ إلى اللغة حيث "انهار" تعني انقضّ وسقط فجأة، أي هوى وانحطّ بكلِّ ثِقلِهِ وحجمِهِ وبشدّةِ صوت، تصدّعَ وتداعى وتهاوى ووقع ضعف، إلى حدٍّ فقدَ معهُ كلَّ طاقةٍ ونشاط انهيار انكسار وهزيمة".
القصّة الأولى "الانهيار": "صاحب مصلحة" يَدعو العمّال إلى بيته في ذلك المساء، ويُصرُّ على حضور الجميع. توافدوا مساءً، وانتظروا في غرفة الاستقبال، لكنّهُ كان في غرفتِهِ طالبًا عدمَ إزعاجِهِ. هؤلاء العمّال يتصرّفون كالقطيع لا يسألُ، وينساقُ صامتًا، يقولُ لهم صاحب المصلحة: تنتظرون أن أتكلّم لتعرفوا سبب الدعوة؟ وحين يشرحُ يقولُ: كنت أقرّرُ وحدي وأنتم تتمتعون بنجاحي، دون أن تتحمّلوا نتائجَ أخطائي. كنت دائمًا الشخص القويّ الذي يُقرّر. أقفُ اليوم لأخبركم بأمرٍ خطير، صدمة ربّما لم تتوقّعوها". تصبّب العرقُ من الجميع. يقولُ: يجبُ أن يحدث تغييرٌ جذريٌّ في حياتنا. يجبُ أن تُشمّروا عن سواعدِكم وتعملوا. المصنعُ لم يعُدْ قادرًا على تأمين الحمايةِ لنا. أجهشَ بالبكاء، ولم يتجرّأ أحدٌ أن يسألَ ماذا حدث. وقف. وقفوا. دخلَ إلى غرفته دونَ أن يتكلّم، أمّا هُم فعادوا وجلسوا بصمت. لم يتكلموا. أرادوا أن لا يعرفوا.
ونعود الى القطيع: "نظراتٌ تتجوّل في أنحاء المكان، دون أن يصطدمَ بعضُها ببعض، هذه العيون أتقنت جيّدًا فنّ الهروب الأزليّ". الوحيدة التي تحاولُ أن تبادرَ إلى عملِ شيءٍ هي الابنة الصغرى. حملت صينيّة عليها ما تيسّرَ من الطعام، واتّجهتْ إلى باب غرفة الوالد، و"الجميع ينظر بصمت". أغلقت البابَ وغابت. انتظروها دون أن يُبدي أحدٌ انتظارَه، لئلّا يلحظ الآخرون. "خرجتْ والخوفُ بعينيها تتأمّلُ الحاضرين". لم يسألْها أحدٌ عمّا يحدث في الداخل.
هناك قرارٌ واحدٌ اتّخذَهُ القطيع: "قرّروا إغلاقَ الببيت. إسدال السّتائر. عدم الرد على الهاتف، وقطع كلّ اتّصالٍ مع الخارج، إلى أن يتوصّلوا إلى حلّ!". وهكذا يكون "العمل في اللاعمل"، أو الحركة في اللاحركة. وأمّا نهاية "صاحب المصلحة" فقد لبستْ ثوبَ الرّمز، فهو في الداخل يتململُ جسمُهُ، يشعرُ بالتقلّ.. يُحاولُ أن يختفي.. أصبحَ جسمُهُ بحجم كفِّ اليد. اختفى رأسُهُ، ويداهُ، ورِجلاهُ تحوّلتا كالسّلحفاة. وأتركُ النّهاية للقرّاء.
القصّة "كهنة من الثلج": المنتظرونَ على الشاطئ في حيفا يُحدّقونَ في اللّاشيء طالَ انتظارهم؟ "جلسوا.. تثاءبوا.. وقفوا.. شربوا.. عادوا.. ناموا.. استيقظوا.. ركضوا.. جاعوا.. أكلوا.. عطشوا.. شربوا ولم يخرج شيء.. أمّا أمّ عاطف العرجاء فلا تحتمل عالم اللافعل وتصيح: "ولكوا تحركوا، اعملوا اشي، الشجرة الاشي الوحيد اللي تحرك" لكن صراخها لم يُحرّك ساكنًا.
وفي قصة "لحظو عابرة": ص48: "ذاتي تقرّر أن تتمرّد علي، أن تصبح شيئًا آخر، ذاتي تبحث عن هُويّتها، تحتار أيّ الضّمائر تختار: هو هي هما هم هن أنتم أنتنّ أنت أنتما.. كلّ شيء إلّا أنا". وقع الاختيار أخيرًا على ضمير الغائب. الاختيار ليس مجرّد صدفة، والعِداء للأنا ليس مجرّد صدفة. ولنلتفت إلى هذا الحوار في القصّة "القادم الجديد إلى هنا" ص40: تسأله الفتاة الإسبانيّة: من أين أنت؟ -من فلسطين. -هل تُجيد اللغة العبرية؟ - نعم."
في هذه القصص رسالة أساسيّة في صرخة أمّ عاطف العرجا، ويكون السؤال: هل كانت نكبة 1948 مثارًا لتلك الصرخة؟ ونسأل دائمًا: كيف لا نكون قطيعًا؟ لكنّنا نسأل كيف كان موقف خالد في قصّة "الخمول"؟ وكيف كان أثر أمّه عليه، وهو الذي صمد وحارب من أجل إحداث التغيير؟ لا تسألوني ولكن اسألوا الكتاب واقرؤوهُ. ولا بدّ مِن همسة لعزيزنا عفيف: ليتك راجعت أو استعنت، لتمنع عددًا مِن هفوات اللغة، ممّا لن يكون في الطبعة الثانية.
مداخلة الاديبة نبيهة راشد جبارين: السّلام عليكم وطاب مساؤكم. عندما دُعيت للمشاركة في هذه الاْمسية، لعرض وإشهار كتاب الاستاذ عفيف شليوط (انهيار – قصص قصيرة) لم أتردّد، لأنّني أجد في قصص الاستاذ نكهة خاصّة، أشتمّ منها رائحة الفنّ، وأشاهد أثناء مروري ظلالًا وأنوارًا، وتمرّ من فوقي غيمات، تحمل زخّات من الخير، وأرى أنّ الأخ الأستاذ ينظر بعين النّسر، نظرات ثاقبة سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا ودينيًّا نظراتٍ مُحِبّةً وغيورة.
ففي مشوار تجوالي بين انهيارات الكهنة من ثلج، والبحث عن وطن، والقادم الجديد الى هنا، ولحظة عابرة، ولوحده، والخمول، والضياع. تتبع ناظراي ناظريّ الاخ الكاتب والفنان الأستاذ عفيف، ونجحت أن أصل إلى نافذة إطلالاته، فأطللت منها، وإذ بها نافذة تطلّ على الوطن، والوطن الكبير، وعلى العرب والعروبة والأصالة، وعلى الحرية والإنسانية بعين الغيرة على..، وعين المحبة، والعتاب النديّ.
قصة الانهيار: هذا العنوان الذي يوحي بالسقوط والفشل والخسارة، أرى في ذات الوقت أنه يُسقط ظلاله على معنىً في اتجاه آخر، يحمل الشّموخ، والعلوّ، والارتفاع. وما بين الشّموخ والانهيار تُذرَفُ دمعاتٌ، اعتصرَها الألمُ والحنين إلى أيّام الشموخ والارتقاء. في هذه القصّة الجميلة المؤثرة، كثيرٌ مِن الحقيقة المؤلمة التي أصبحت تسيطر على المجتمع العربيّ بشكلٍ خاصّ، أنّ قيمة المرء أصبحت بما يَحويه رصيدُهُ مِن المال، وأنّ العلاقة بين الناس، وحتى أقرب الناس أصبحت تنزلقُ في مهاوي المصالح الشخصيّة، وكأنّ الناس تخلّوْا عن إنسانيّتهم، فلا توادَّ ولا تراحُم.
الأفعال الكثيرة المتلاحقة في النصّ، صوّرت لنا الأحداث كأنّها تتراكض عكس الاتّجاه، كا نرى الأشجار بجانب الشارع تركض بعكس اتّجاه المركبة، وذلك لتصوّر لنا لحظة الانهيار، بأنها كانت سريعة ومفاجئة، ومع الانهيار المادّيّ، انهارت القيم والمبادئ والأعراف، لتتقزّم شخصيّة المدير صاحب المصنع، ثم تتحوّر الى جسم صغير غريب غير مرغوب فيه حتى في البيت، ولا أعرف لماذا اختار الكاتب شخصيّة الزوجة هي المبادرة للتخلّص من هذا الجسم الذي أصبح غريبًا، بعد أن مسخه الانهيار، انهيار في الإدارة والربح، وانهيار الصورة الذاتيّة والعلاقة الأسريّة والاجتماعيّة، فسأكون متفائلة، فربّما من مبدأ "قتل الرحمة" فعلت الزوجة ما فعلت. ومِن بين زخّات الألم والانقباض والأسف والدّهشة، تأتي جملة: "خرجَتْ والخوفُ بعينيها"، لتُذكّرَنا بأنّها ذات مرة "جلست والخوف بعينيها" في أشعار نزار، وبين الأوتار في صوت كاظم، فكانت رشقة جمال وتنفّس للقارئ.
2- كهنة من ثلج: نجح الكاتب عندما انتدبَ شخصيّة الكهنة، لأنّهم عادة يحظون بالتقديس والاحترام والإطاعة، ولا يُرجى منهم إلّا كلّ خير، بكلام آخر هم مصدر قوّة عظمى، لكنّ قدومهم من بلاد بعيدة، من وراء البحار كان حدثًا غريبًا، والأغرب أنّهم كانوا يؤدّون الصّلوات، ويقومون بقيادة الناس إلى الخلاص، بشكل حركيٍّ ميكانيكيٍّ خالٍ من الأحاسيس والمشاعر الإنسانيّة، لأنّهم كهنة من ثلج، لا يحملون رسالة، وإطاعتهم عمياء، والشخص الوحيد الذي اكتشف أمرهم اعتُبِر مجنونًا بين المُصلّين. ولكنّ المثابرة جعلته يقتربُ من الحقيقة، وأمّا الحرارة والنور السّماويّ الذي دخل النوافذ، وأذابَ الثلج عن الخديعة، أتاحَ الفرصة ليتسلّم القيادة أحد أبناء الحيّ. هنا لفتة جميلة بأن حركات الشعوب التحرّرية الناجحة هي حركات ذاتيّة، وأمّا الحرارة التي تأتي من الأعلى، فهي تلك القيم والمبادئ الإيمانيّة السّماويّة، تأتي من نفس الشعب، ولا حرارة ولا مبادئ ملائمة لأيّ قيادة يمكن أن تأتي من غير دائرة الشعب. أُعجبتُ بالأفعال المتلاحقة في النصّ، وسرعة وكثرة الحركة المرسومة فيها، ومن بينها تتسلّل رائحة الملل، والانتظار ذاك الذي عانت منه الشخصيات.
الثلج الذي يرمز إلى النقاء، يرمز في ذات الوقت إلى البرودة والجمود. أمّا الحرارة والنور المنبعث من السماء فاخترق النوافذ، لتُضاء الكنيسة بنور الشمس الغائبة عنهم زمنًا طويلًا. وهل كانت الشمس إلّا رمزًا للحرّيّة والانطلاق والحياة؟ وهل كان النّور إلّا رمزًا لمعرفة الحقّ والحقيقة؟ متى يذوب كهنة الثلج، وتُؤدَّى الصّلوات بأصوات تملؤها الحرارة والصدق والإخلاص والانتماء– حيفا، عروس الكرمل تنوبُ عن أخواتها، وتنتظر هذا النور، وهذا القدّاس والصلاة التي يقيمها، ويقودها كاهن ليس ثلجيًّا، ولم يأتِ من بلاد بعيدة من خلف البحار.
3 – البحث عن وطن: لطالما كانت الألوان مبعث فرح وسعادة وحبور، ومَن منّا لا يستهويه ويجذبُهُ قوسُ قزح بألوانه المتعدّدة الجميلة المتناسقة؟ مَن منّا لا يأسرُهُ جمالُ الحدائق الغنّاء بألوانها وأزهارها المتناثرة؟ إلّا أنّ الألوان في قصّة الأستاذ عفيف "البحث عن وطن" اختلطت، وضاعت وضاءتها في فوضى السيطرة والظهور، وجعلت بطل القصّة يحرق أوراقه وكتبه، ويحرق شوقه وحنينه إلى الماضي الجميل، أحرقها في شعلة الخلاف والأنانية التي خلطت ألوان الرايات، وجعلته شلّالًا من فوضى ألوانٍ راحتْ تجري في بحر الخلاف والأنانية. وهامَ البطلُ على وجهِهِ يبحث عن وطن، يكونُ له راية واحدة، وطن يكون للجميع وليس للجَماعات.
4 – القادم الجديد إلى هنا: لقد كان القادم الجديد إلى هناك- إلى لندن، يحمل على الأقل، ومن ضمن ما يحمل من بلاده التي هُجِّر منها وشُرِّد، كان يحمل سلاحًا، هو سلاح الاعتزاز بوطنه، بجماله وخيراته. فما أن انغمسَ ناظراه بالجَمال الطبيعيّ، والعراقة في شوارع لندن، حتى سبقته عبارته بالحسرة والشوق معلنةً: "إنّ هذا الثراء من خيرات بلادي التي استعمرتموها طويلًا". لكنّه لم يجرؤ على ترديدها، لأنها إخلال بالنظام. الاعتزاز بعروبته لا تفارقه طرفة عين، فها هو يرى الجمال، ويشتمّ العزة فيمن جذورها تنتمي إلى الأندلس-لأنهم كانوا هناك- العرب كانوا هناك، في جزيرة البطولة والعزة والكرامة. وهناك تنسّم العرب واليهود أنسام التسامح والتعايش والسلام فيما بينهم، ومن يحمل هذه الذكرى الطيّبة لا مكان له بين صُنّاع القرار، وإن طالب بالسماح بإقامة الدولة الفلسطينيّة، لن يُدعى إلى أي اجتماع بعد ذلك، إلّا أنّ الحمامة في فلسطين، لا تتوقف عن التحليق خوفًا من أحد، فهي تنشد السلام من أجل السلام، ومن أجل من يحملون الحجارة.
5- لحظة عابرة: السرعة هي إطار اللحظة العابرة. ولكنّ سرعة المَشاهد، وحركتها وأصواتها وألوانها وتعابير الوجوه فيها، شيء يدهشني في نص القصة. الحيرة المرسومة بالكلمات وبالضمائر تحيّرني، التساؤل: لماذا أنا غير مرغوب فيّ في وطني؟ سؤالٌ يستفزني، أمام الحواجز والتفتيش والانتظار، فهي تحتجز أنفاسي، أنا في وطني سجين، لكن الفرق فقط أنّ السجن كبير. فإذا شدّني حب الإستطلاع لمعرفة ما يدور عند الحواجز، جعلني "لحظة عابرة". فالإنسان في عمر الزمان لحظة عابرة، فما باله إن كان يعاني من الضياع وفقدان الذات، وفقدان الحرية، حرية الفكر، والتعبير والتنقّل.
اللحظة أسرع من أن يُعبَّر فيها عن موقف، أو عن تساؤل معيّن، والعِداء يُغلق كل الأبواب أمام السيارة وأمام الخطوات، وحتى أما الحروف والكلمات، فإن هي إلاّ "لحظة عابرة"، هذا ما آل اليه حال البطل في القصة، عندما تساءل قرب الحاجز.
6- لوحده: مرة أخرى يطل الكاتب الاستاذ عفيف إطلالة كاشفة كيف أصبحت الذاكرة قصيرة الأمد لا تصل حتى إلى يوم واحد (أربع وعشرين ساعة)، وان العلاقات الانسانية الحميمة أصبحت فاقدة للذاكرة، فلم يعد الزميل يذكر زميله إذا ما أدار ظهره وغاب، حتى وإن كانت الزمالة تجمعهما لسنوات طويلة، حتى وإن كان هذا الغائب يحمل كل سمات الطيبة والخير والمحبة للغير. شهد على ذلك بطل القصة الذي قضى أيّامًا وساعات ينتظر اتّصالًا هاتفيًّا، أو زيارة من زملائه دون جدوى.
أجد في القصّة لغة جميلة تدعو إلى محاربة الروتين، والانغماس في العمل على حساب الراحة الشخصيّة، التي يجب أن نقتطع لها وقتًا خاصًّا أيضًا، فالبطل في صباح اليوم الثالث، عندما قرّر أن يرتشف القهوة في حديقة بيته، أخذ ينظر مليًّا حوله وهو يرتشف القهوة، نظر إلى أزهار حديقته، فاكتشف كم هي جميلة، وكأنّه يراها للمرة الأولى في حياته. شعر بالهواء المنعش وهو يلاطف وجهه صباح ذلك اليوم، وكأنه اكتشف للمرة الأولى في حياته أنه هناك هواء في هذا الكون. استعان البطل بخياله، وطاف في أماكن كثيرة، بعيدة وقريبة ليجد من يتعامل معه بالحسنى والإنسانيّة، إلّا أنّه باءَ بالفشل، فراح يخاطب نفسه قائلًا: "لا أحد يسأل عنّي أو يهاتف، أو حتى يحاول أن يمثل عليّ أنّه مهتمٌّ بي، اِكذبوا عليّ، أنا بحاجة إلى كذبكم، قولوا إنكم قلقون عليّ، وأنا أعلم أنّه في قرارة أنفسكم تفكّرون بذات اللحظة بأمر آخر، لكن لا يهمّ، أنا موافق، أنا بحاجة حتى إلى اهتمامكم الكاذب".
كلام مؤثر جميل، وصورة صادقة للإحباط، ودعوة لنساعد ولو بكلمة كما ورد في الحديث الشريف: "الكلمةُ الطّيّبةُ صَدَقةٌ"، وعندما عاد الى المدينة وتاه في الحياة العاديّة، وجد الشارع خاليًا صامتًا ولا أحدَ يهتمُّ به أو له. أمّا الحصان الضخم فهو الموارد الضخمة التي يملكها الفرسان، أي حكام الشعوب العربيّة، وأمّا أنّ ليست لهم وجوه، أي ليست لهم مواقف ثابتة ومُشرّفة. أما حيفا فهاجسُ الكاتب ورمز لكلّ الوطن الجميل الذي ينتظر أبناءَهُ ولا يتنكر لهم.
7- الخُمول: كثيرًا ما نواجه في قرانا مثل هذين القطبيْن المذكوريْن، سلبيّ وإيجابيّ. الإيجابيّ مُحِبٌّ للخير والعطاء والتطوير، أمّا السلبيُّ فهو فضلًا عن أنّه مُخالفٌ ولا يُحبُّ الخير والعطاء، فهو أيضًا أنانيّ، وربّما سلك هذا الطريق فقط من أجل الظهور واحتلال العناوين، إلّا أنّ الجميلَ في القصّة، أنّ روح التغيير والعمل والعطاء لم يؤثر عليها كلّ أساليب الإحباط، بل انتصر الخير والإيجابيّة، وجذبت القطب السّالب مُخالِفًا لقانون الطبيعة، وقد عبّر عن انتمائه لبلده ومجتمعه بالقهوة العربيّة. وزبدة القول: "لا تنتظر من لا يكترث لطلباتك، ولا يهمّه أمرك وقتًا طويلًا، بل بادِر إلى الخير وسيتبعك الأكثريّة ".
8- الضَّياع: العنوان يقودُنا إلى ضياع وتيه لا نعرف حدودَهما المكانيّة ولا الزمانيّة. الضياعُ في العمل وفي الفراغ، الضياع في الليل وممارساته، الضياع في الداخل وفي الخارج، لأننا كرويّون، والكرة يَسْهُلُ دحرجتها في أيّ اتّجاهٍ نريد. التشبيهُ جميل، فالشعب الفلسطينيّ المُشرّد أشبه بالكرة، والجميع حوله لاعبون محترفون، يُتقنون اللعب والضرب والرّكل في ملاعب الوطن العربيّ، من العاصي حتى الفرات والنيل والخليج، ومَن أراد أن يخرج عن كرويّته ويعود إلى وضعه الطبيعي وحيّزه الحقيقيّ، لا يجد إلّا المطاردة والضرب والرّكل، والعنف بكلّ أشكاله ووسائله، ويبقى شعبنا المُشرّد وحيدًا لا أحدَ يؤازره، ويبقى جائعًا للحرّيّة والسلام والحياة الكريمة. لعلّه يأتي جيلٌ يُرمّم ما انهار، ويُعيد بناءَهُ صرحًا منيعًا للحرّيّة والسلام. وفقك الله أخي عفيف لمزيد من الإبداع والعطاء.
مداخلة د. محمّد صفّوري مجموعة "الانهيار "بين الواقعيّ والغرائبيّ: 1. مدخل: تتّسم قصص مجموعة "الانهيار" للكاتب عفيف شليوط بسمة القصر؛ فهي قصيرة في قطعها الصّغير جدًّا، وهي قصيرة في عدد صفحاتها، إذ تقع أقصرها في ثلاث صفحات، ولا تتجاوز أطولها عشر صفحات، وهي قصيرة أيضا في عدد قصصها الّذي اقتصر على ثماني قصص فقط. واعتمادّا على نظريّة الاستقبال والتّلقّي للمفكّر الألماني(Hans Robert Jauss) "هانز روبرت ياوس(1921- 1997)[2].
في قصّة "الخمول" ينبري الكاتب لمناهضة صفة الخمول، وتثبيط عزيمة من يسعى إلى تغيير واقعه الاجتماعيّ إلى الأفضل، من خلال توظيف شخصيّتين متناقضتين؛ توفيق الملقّب "جلطة" رمز الإنسان الخامل، ومقابله خالد الّذي لا ينثني عن عزمه، حتّى يُحدث في قريته التّغيير الّذي يريد، مدعومًا بهمّة أهل قريته، الأمر الّذي وضع "جلطة" أمام الحقيقة الدامغة، وليتنازل فيما بعد عن أفكاره السّلبيّة وعدائيّته لخالد.
يبدي الراوي في قصّة "الضّياع" تذمّره من تنكّر الإنسان العربيّ لذاته، ويهاجم انغماسه في الملذّات، وسيطرة المادّة عليه، وذلك عبر تجرّد الإنسان من مسؤوليّاته الأسريّة، أو تجرّده من الأخلاق، وعزوفه عن أي مبادرة لتغيير واقعه المرير.
2.2 الهمّ الإنسانيّ: لعلّ من أكثر قصص المجموعة إثارة للقارئ قصّة "الانهيار" وقصّة "لوحده"، إذ يتطرّق فيهما لمعالجة همّ إنسانيّ عامّ، ففي قصّة "الانهيار" يتنكّر أفراد الأسرة لربّها الذي قضى عمره في إدارة مصنع له دون أن يساعده أحد، حين كان يقدّم لهم جميعا كلّ ما يحتاجون، وعندما تراجع العمل وإنتاج المصنع لم يسانده أحد من الأسرة باستثناء ابنته الصّغرى الّتي واصلت خدمته والاطمئنان عليه بعد أن حبس نفسه في غرفته ولم يخرج منها، حتّى بدأ جسمه بالنّحول والتّحوّل في النّهاية إلى سلحفاة، وامتنع عن تناول طعام ابنته الصّغرى إلى أن فارق الحياة، فأحدث بموته أزمة أسريّة جديدة؛ من سيتابع المشوار وحمل المسؤوليّة؟ ماذا سيقولون للنّاس؟ وهل سيبقى في البيت ويبقون هم مدفونين داخله؟ تُسرع الأمّ قبل خروج الناس إلى أعمالهم فجرًا، تحمله في كيس قمامة، لتقذفه في عربة النّفايات، ولا تتنفّس الصّعداء إلّا بعد أن تشاهد عمّال النّظافة يُفرغون محتوياتها، منطلقين إلى مكان آخر، عندها فتحت باب البيت ونوافذه، وسمحت بالرّدّ على الهاتف. إنّها قضيّة تعاني منها كلّ المجتمعات، بل هي قضيّة العصر، قضيّة تنكّر أقرب النّاس لربّ الأسرة الّذي قضى حياته في خدمة أبناء أسرته دون أن يلقى منهم الحضن الدّافئ الّذي قد يخفّف عنه ما ألمّ به، أو يفرّج عنه كربته.
تبلغ قسوة النّاس ذروتها في قصّة "لوحده"، وفيها نسمع صرخة الرّاوي المدوّية نتيجة تشيّؤ النّاس وتجرّدهم من الحسّ الإنسانيّ نحو إنسان خرج إلى التّقاعد، فانفصل عن زملائه، وأضحى وحيدا في هذا العالم دون أن يبادر أحد إلى مواساته. انتظر اتّصال الأصدقاء والزّملاء دون جدوى، إنّهم تحوّلوا إلى أجهزة بلا مشاعر. سعى الرّجل إلى التّخفيف عن نفسه، معتمدًا على قواه الذّاتيّة، من خلال جلوسه في حديقته الّتي شُغل عنها، أو مشاهدة فيلم ما، أو البحث عن علاقات وصداقات جديدة، لكنّه يُصدم عندما يرى النّاس قد تحوّلوا إلى آلات دون مشاعر، فيعود إلى بيته وتسوء صحته، ويغرق في مناجاة النّاس عارضا ما كان يأمل منهم من تضامن، أو مواساة، أو اهتمام ولو كذبا، وتدوّي صرخته عالية، وهو يركض ويصرخ في أعلى الجبل محاولا طرد ما يطارده من أفكار، ثمّ يقع على الأرض ويجهش بالبكاء، يعود بعدها بسيّارته إلى حيفا وسط ظلام دامس، ويرى نفسه محاطا بفرسان بلا وجوه من كلّ جهة، إلّا أنّه ينطلق بسيّارته متحرّرا منهم.
2.3. الهمّ القوميّ: يُفرد الكاتب بعض قصصه لمعالجة الهمّ القوميّ، فيلاحظ في قصّة "البحث عن وطن" أنّ تعدّد واختلاف النّزعات القوميّة، وعنايةَ كلِّ فئة بتحقيق مصالحها الخاصّة، وانشغال أفرادها بإشباع غرائزهم على اختلافها، يؤدّي إلى ضياع الوطن، الأمر الّذي جعل الشّخصيّة تشعر بعدم الرّاحة على مساحة القصّة كلّها، وتتأزّم حالة شعوره بعدم الرّضا وعدم الارتياح في مواقف عديدة ومختلفة، حتّى يقرّر الرّحيل عن الوطن بعد ضياعه. وفي قصّة "القادم الجديد إلى هنا" يعكس صورة لحياة الإنسان الفلسطينيّ وقد أضحت رحيلّا متواصلًا، ويبدو أنّ الفلسطينيّ ذاته كان سببًا مباشرًا في هذا المصير لانعدام فاعليّته في حلّ مشكلته، إلّا أنّ الفاعليّة الوحيدة الّتي يبديها هي اهتمامه بإشباع غريزته الجنسيّة مع فتاته الّتي لم يحسن الحفاظ عليها أيضًا، فما أن ينتهي من ممارسته الجنسيّة حتّى يصفع فتاته ويرحل إلى مكان جديد. وفي قصّة "لحظة عابرة" يؤرّق الرّاوي وضع الإنسان الفلسطيني في هذه البلاد، إذ يشعر أنّه غريب في بلاده، وأنّ حياته شقاء متواصل من المهد إلى اللّحد، بعكس سائر الشّعوب الّتي تعيش لتتمتّع في حياتها، ناهيك ما يواجه من ملاحقة السّلطة وحواجز التّفتيش، وحالة الفوضى والرّعب، وما يحدث من انفجارات، تجعل الرّجل يغادر سيّارته راكضّا بحثًا عن مخرج، فتتّجه الأنظار نحوه، ويطلقون بنادقهم، ليقع أرضًا، دون أن يفهم مِن كلّ ما جرى سوى أنّه لا شيء، إنّه لحظة عابرة.
2.4. لذعات سياسيّة: يهيمن على قصص المجموعة كما أسلفنا كلٌّ من الخطاب الاجتماعيّ، القوميّ، والإنسانيّ، لكنّ الكاتب لا يتنازل عن لذعاته السّياسيّة في بعض القصص، تارة بصورة مباشرة، وأخرى بسخرية مُرّة أو فكاهة سوداء[4]، أو إلحاح الكاتب في تكرار الوصف "صمت قاتل" الّذي ظهر في مواضع عديدة من قصص المجموعة كقوله: "الأعين تراقب حركاتها بصمت قاتل"(8)، أو: "سكنت بصمت قاتل"(ص16)، أو: "يخيّم على المكان صمت قاتل"(64)، وقد يظهر هذا التركيب في القصّة الواحدة أكثر من مرّة، مع بعض التحوير أحيانًا، الأمر الذي يذكّر بمجموعة الكاتب الأولى "الصّمت القاتل "[6]. لكن لا تأتي كلّ المتناصّات مباشرة، إنّما تُفهم باللّمح والإشارة مثل وصف الرّاوي حالة النّاس، وقد تجرّدوا من مشاعرهم، بالآلات، دون أن يُظهروا أيّ تعاطف مع الشّخصيّة، ممّا يستحضر في ذهن القارئ قصيدة "مقتل صبيّ" لأحمد عبد المعطي حجازي وقوله: "النّاس في المدائن الكبرى عدد"[8].
تظهر تقنيّة التّكرار عنصرًا بارزا في بعض قصص المجموعة ليس للتأكيد فقط، إنّما تعبيرًا عمّا في نفس الكاتب من إلحاح على فكرة ما، ترافق القارئ على مساحة القصّة كلّها، ممّا يزيد في دراميّة الحدث وتعظيم الأثر في نفس القارئ
[2] . محمّد فؤاد عبد الباقي. (1988). سورة الرّعد، آية 11. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم. القاهرة: دار الحديث، ص 741.
[4] . نزار قبّاني. (1973). قصائد متوحّشة. ط 4. بيروت: منشورات نزار قبّاني، ص 12.
[6] . غسّان كنفاني. (1970). عائد إلى حيفا. بيروت: دار الآداب.
[8] . تفاصيل أوفى عن نظريّة الاستجابة والتأثير ينظر: فولفجانج آيزر. (2000). فعل القراءة: نظريّة جماليّة التّجاوب في الأدب. ترجمة: حميد لحمداني. الرّياض: مكتبة المناهل.
[9] . مزيدا عن دور التّكرار أو التّكرير وأثره في دراميّة الحدث وتعظيم الأثر، يُنظر: إبراهيم طه. (2014). "قصيدة المقاومة: مشروع تحديث" مدارات، 7: ص15 – 25.
وسوم: 637