محبرة الخليقة (46)

تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 

الأجنحة:

       الطفولة المغدورة 

-----------------------------

(                   بعدما

                       أنهى العشاءْ ،

                    رفعتْ صحنَ الغمامِ الريحُ عنْ

            مائدةِ الياقوتِ في

                       بيت المساءْ )

وحتى الآن احتقنت ارواحنا بالأسى والحزن ، وامتلأت قلوبنا قيحاً من غلّ الإنسان ووحشيته وعدوانه على أخيه الإنسان من جانب ، وعلى الأرض الأم التي أنجبته من جانب آخر . في نصوص قليلة من القسم السابق "السيرة المسائية لابن الصباح" بدأ الشاعر يحقن عروق حيواتنا اليابسة بشيء من الأوهام والآمال الشعرية المنعشة . إنّ كل ما يجري حولنا من حوادث ومتغيّرات وعلاقات تشي بالنهاية السوداء ، وبتصحّر الطبيعة والقلوب والعواطف ، ولا أمل في الأفق قريب . وطغاة هذا العالم وكهّانه وبعض فلاسفته وعلمائه "التافهين" يريدون إفساد حياتنا الباطنة بعد أن افسدوا الحياة في الخارج كلّها ، وجعلونا عبيداً للعقل الجامد المؤلّه من ناحية ، وللآلة وعالم الحديد القاهر الفظ من ناحية ثانية مكملة . العلماء قدّموا خدمات إعجازية للحياة ، لكن علماً بلا حدود .. بلا إله .. بلا روح خلق الكثير من المفاسد . وأوّلها إفساد أسرار الحياة التي تعتاش عليها أنفسنا عن طريق كشف آلياتها الفسيولوجية . حتى الحب يقولون أنه خاضع لحوامض أمينية مجهرية في شحمة الدماغ ، في حين أنّه بالنسبة للعشّاق والشعراء مشكلة وجود ، وسرّ حياة ، ولغز إلهي . خذ محنة "الموت" - مثلاً - التي تقضّ مضاجع جوزف حرب وترعبنا جميعاً . لقد حوّلوها من "سرّ" إلى "مشكلة" كما يقول الفيلسوف الفرنسي "جبرييل مارسيل" . والفارق بين المشكلة والسرّ أن الأولى منهما شيء يلتقي به المرء من الخارج فيقف حجر عثرة في طريق تقدّمه ، في حين أن الثاني منهما هو شيء يتلبس بنا ، ويغلّف بغموضه صميم وجودنا ، فلا نملك أن ننظر إليه من الخارج ، لأننا مرتبطون به مندمجون فيه . وبهذا المعنى يمكننا أن نقول إن الموت سرّ لا يكاد ينفصل عن صميم وجودنا مادام وجودنا وجوداً زمانياً متناهياً يسير نحو الفناء . وعلى الرغم من أن الموت هو الحقيقة الوحيدة التي لا يرقى إليها الشك ، إلا أنه في الوقت نفسه السر الوحيد الذي هيهات للعقل البشري أن يتمكن يوماً من إماطة اللثام عنه ... فليست فكرة الموت هي الأصل في كل تساؤل ميتافيزيقي فحسب ، وإنما هي الفكرة التي تخلع على شعورنا بالحياة كل ما له من قيمة وأهمية وحيوية . وآية ذلك أنه ما تكاد فكرة الموت تغيب عن أذهاننا حتى تستحيل الحياة في نظرنا إلى مجرّد عادة أو ملهاة أو تسلية (83) . أما العالِم فيأتي مترهيّاً ليفسد هذا السر العظيم بكل بساطة ويقول إنه عبارة عن توقّف القلب ، وانقطاع موجات الدماغ الكهربائية . هكذا يحل السرّ الذي انشغلت به البشرية منذ مئات الألوف من السنين . وكيف سيقنع قلب الأم المرتجف والنازف أمام جثة ابنها الوحيد ؟! أو الحبيب الراكع أمام قبر حبيبته تتساقط عليه دموعه ؟  لم يبق لنا سوى الشعراء يحافظون على هذه الأسرار العظيمة ومنها أيضاً الجمال ، والحب ، وعذوبة الأمل بل الوهم ، وروعة الأبدية ، وروح الطفولة ، ورمزية الأمومة والخصب وأنسنة الطبيعة .. وغيرها من الركائز التي إذا جرّدنا العلم منها – وهو يسعى حثيثا لذلك وحقق الكثير على هذا الطريق – فإن هذه الأرض وهذا العالَم ، سوف يتحوّلان إلى ما يشبه "مدينة النحاس" التي تحدّثت عنها سيّدة الحكّائين "شهرزاد" في "ألف ليلة وليلة" .

في هذا القسم ، "الأجنحة" ، يشغّل جوزف حرب أجنحة الشعر لتنقلنا من ما هو أرضي إلى ما هو سماوي متخفّف من تلك الأعباء اليومية السقيمة ، ويضعنا في مركز عملية الخلق حيث كل الموجودات تمتلك حساسية المشاركة الوجدانية بعيداً عن العزلة الإغترابية المقيتة ، ويلفت أنظارنا المضببة بالحركة الآلية العارمة ، إلى مواطن الجمال التي نسيناها ، وعلاها الصدأ ، وأماتت دهشتنا بها أتربة التعوّد والإلفة البليدة . في هذه النصوص يفلح جوزف فعلياً في إيقاف حركة الزمن الجارفة التي تخلخل كل لحظة أركان وجودنا ، ويوقفه ليوفّر لنا لحظات نمسك بها بروح الأشياء ونتأملها و"نشبع" من حضورها الثابت بعيداً عن تهديدات عجلة الزمان المسنّنة . يحرّك "أجنحة" الموجودات التي قصقصتها النظرة النفعية المادية المباشرة ، ويطلقها لتحلّق ، وترفع رؤوس أرواحنا معها نحو السماوات والأعالي ، بعد أن تعودت على التنكّس بفعل القهر واللهاث وراء الأرضي والبشري الدبق . يطلق هذه الأجنحة بدءاً من مقطوعة الإفتتاح القصيرة "عشاء المساء" :

(                   بعدما

                       أنهى العشاءْ ،

                    رفعتْ صحنَ الغمامِ الريحُ عنْ

            مائدةِ الياقوتِ في

                       بيت المساءْ – ص 1177) . 

إنّه يذكّرنا الآن بالمقطع الأول من النص الأول "الرائعة" من ملحمته هذه حيث "السيّد" يده ريحٌ ، وطاولته سواد الليل ، والأوراق غيمٌ عن يمينه ، قربها أقلام صندلةٍ ، ومحبرةٌ تقطّر حبرها الكحلي من ماء البنفسج (راجع الصفحة 11) . لكن الخلطة الصورية هنا أكثر إدهاشاً وحركيّة . "هم" في ما بينهم يخدمون أنفسهم ، كلٌّ من جنس الآخر و "طبيعته" . وحفل العشاء هذا هو الحفل الذي لا يمكن التقاطه بأي كاميرا علمية مهما كان تطوّرها ، ولا يستطيع أي عالم اجتماع تحليل علاقات أطرافه . والمشهد يتكوّن من حركتين : إنهاء المساء لعشائه ، ثم رفع الريح لصحن الغمام عن المائدة .. ترفعه لتعدّه لفعل كوني ضروري آخر . والغمام الأبيض الذي تراكب على مائدة الياقوت هو المشهد الذي أسقطته عذابات الحياة من مسرح ذاكرتنا . نحن متعبون فعلاً .. والشاعر يعيننا على أن نعود إلى حالتنا كموجود ضمن شبكة أرواح شفيفة منسجمة ومتناغمة ، وليس كعمّال وموظّفين منهكين ومسحوقين طفرت أرواحهم من قهر العمل وعناءاته ، ويريدون الوصول إلى سرير النوم ليناموا ويستعدوا لدورة استنزاف جديدة لقواهم . إنّ الشاعر يسحبنا من مسيرة الرتابة الآلية إلى لحظة خلق يتجلى فيها الله حيث نشاهد – ولأول مرة – سحر جلسة عشاء المساء لنقارنها بطقوس عشائنا الأرضي العجول والمصنّع . لقد نسينا هذه اللحظة التي ينهي فيها المساء عشاءه ليخلي مكانه لليل في حركة كونيّة عظيمة في سحرها وتناسقها وحفظ أدوارها وتهذيب أطرافها اللايُصدّق . متى وقفتَ آخر مرّة لتشاهدَ المساء وهو ينهي عشاءه ، وتدفع الريحُ بلطف حلقات الغمام عن ياقوت السماء ، لتبدأ الملائكة بالنزول لتمسّح على رؤوس المبهورين بحس الطفولة .. متى ؟ .. منذ أن ماتت الطفولة فينا . هكذا يجيب الشاعر في النص الثاني "ألحكايات" . والغيبُ بتعقيداته التي أقحمها في حياتنا هو الذي أمات الطفولة فينا .. محى دهشتها وشبكة تساؤلاتها وفضولها الجسور في كل شيء :

(                  محا الغيبُ

                   كلَّ حكاياتِ هذا الوجودِ .

   محا الطفلَ فيَّ .

                   وحوّلني عبدَهُ

                   في

                   الجوابِ الأخيرِ . – ص 1178) .

 ولو ترك الغيب روح الطفولة حيّة فينا ، لأصبحنا جميعاً شعراء . فالأطفال والشعراء هم الوسطاء بين الآلهة والبشر . والأطفال والشعراء فقط هم الذين يمثلون نقطة لقاء الروح بالمادة . والشاعر يحاول أن يستكشف الطبيعة كما كانت تتراءى له في أيام أيام طفولته ؛ الأيام الرخيّة التي ترى كل شيء فيها حيّاً قد يرضى وقد يغضب أو ينقم . عالم بلا "نقاط" وجودية "عنصرية" تقول هذا جماد وهذا نبات وهذا بشر . ارواح تمتزج وتتعانق وتتشاكى تحت خيمة الله ورعايته . والشاعر مطمئن لمعين خلقه ؛ معين الطفولة الذي لا ينضب هذا الذي جفّفه الغيب الذي صار فوق كل ذلك "علماً" . وبسبب سطوة الغيب ومعمّياته و"حقائقه" الماورائية الخافية أقصي الطفل فينا :

(               فلا سَفَرٌ بعدُ للطفلِ

                عبرَ

                العصورِ .

                ولا جدّةٌ ذاتُ شمسيّةٍ من

   خيالٍ ، وعكّازِ جنٍّ ، تُلملمُ كلّ حكاياتها من

   حقولِ الرياحِ ،

                    وريشِ

                 الطيورِ . – ص 1179) .

كان الشاعر – كما يقول "ريلكه" في "رسائل إلى شاعر شاب" – يستطيع حتى لو كان مسجوناً بين أربعة جدران أن يتذكر طفولته ، وأن يغترف من كنوزها ، وأن يعبّر عن أحزانه وآماله والخواطر التي تتوارد على ذهنه ببساطة وإخلاص مستعيناً لبلوغ هذه الغاية بالأدوات المتواضعة التي تحيط به ، وبصورة مستقاة من ذكرياته وأحلامه الخاصة ، وكلّها تنبثق من نبع الطفولة . فما الشاعر إلا إنسان راشد يحمل معه أرجوحة طفولته تحت إبطه . وقد جرّده منها الغيب المكفهر وأحرقها :

(                 لقد

                  أحرقَ الغيبُ أرجوحتيْ . حذفتْ

   راحتاهُ عصافيرَ بريَّةِ النومِ .

                  رشَّ رماديَ فوق

                  بياض

                  السريرِ .

                  بلا أجنحٍ صرتُ

                  صادرها الغيبُ منّي .

                  ولا جسدٌ فيّ إلّا أقيلَ

إلى القبرِ .

                  أيّةُ حريّةٍ سوف تبقى

                  إذا قُتل الطفلُ فيها ؟ - ص 1180) .

وهذا التساؤل الخطير الأخير هو المآل النهائيّ الذي توصلنا إليه سطوة "علم" الغيب . فهو العلم الوحيد الذي لا يقوم على حرّية التساؤل والإندهاش ، بل على المسلمات القاضية التي تعتبر عدوّها الأول هو روح الطفولة المحمّلة ببراءة الدهشة ، وسحر كلّية الفكر ، ونرجسية الجسد المحببة . الطفولة عدوة الغيب ، وبسؤال فجّ منها يمكنها أن تهير أسس كل هذا "العلم" ؛ علم الغيب . مرّة قال أدونيس الماكر في حيرة مسمومة :

(سألني طفل : هل يحلق ملاك شاربيه ؟                                                   فوجئت . ولم أعرف أن أجيبه . غير أنني وعدته بأن أستفتي العارفين وأنقل إليه جوابهم ) (84) .

حوّل الغيبُ عالمنا إلى مذبحة ، وتربعت السماء على صدر الأرض وكتمت أنفاسها ، وقصّت أجنحتها ، ولا حلّ لمأزقنا الخانق هذا إلّأ بما يجترحه الشاعر المجرّب : بلسم يتمثل في استعادة روح الطفولة ، وتحرير الأرض الأم بالأجنحة :

(                     ومن أجلِ أن تُبعِدَ الأرضُ

    عنها السماءَ ، لتنصرفَ الأرضُ للأرضِ ، حيثُ

    تداوي الجراح التي عمّقتها يدُ الغيبِ ،

    وانتشرت بينها

                      الأضرحهْ ،

                      ومن أجل أنْ تنتهيْ

                      هذه المذبحهْ ،

                      لنُرجعْ إلى الروحِ طفلَ الحكايةِ ،

       ولنرفعِ الأرضَ

                      بالأجنحهْ . – ص 1181) .

إن الطفل يعيش في نوعٍ من الأبدية المسحورة ، في نوع من الحاضر الخالص ، بدون ماضٍ وبدون مستقبل . وهذا ما لا يقرّه "علم" الغيب الذي يُمسك الأزمان كلها بيده الحديدية . كما إن الطفولة تحفظ القلب لازمنياً . حتى السجين الذي يُتلف وينحل تدريجياً في غياهب زنزانته يستمد الغذاء الروحي منها إلى آخر دقيقة . حتى المريض اليائس من الشفاء يستمد منها العون ، لا لأنها بمنجى من الأخطار . إنها مثلنا وربما أكثر منا معرّضة للفناء ، مهدّدة كما لو أن التهديد يأتيها من داخل ذاتها وصميم جوهرها . بل لأن القدر كلّه مكثّف فيها . وهذا بالنسبة لـ "علم" الغيب تجديف وهرطقة لأن القدر مأسور في صندوق الحاوي الأكبر كما يقول علماء الغيب وفقهاؤه . أمّا علم الشاعر ، علم الطفولة المستعادة قصداً ، وبودلير هو القائل أن العبقرية هي الطفولة المستعادة قصداً ، فإنه لا يشتغل إلّا وفق تلك النظرة البريئة ذات العينين الواسعتين التي "تلتهم" الظواهر بنظراتها ، وتهضمها في مشغل عالمها الإرواحي الذي تديره الروح "السيّدة" .. روح الخلق التي تفزع من أيدٍ غير مطهّرة ، وأرواح غير نقية تدخل مخبرها ، لكنها لا تطهّرها أو تنقّيها بالأحماض والمعقّمات الكيمياوية مثلما يفعل السادة العلماء ، بل في أعظم التكوينات – لاحظ أن التكوينات أوسع من المواد – المطهِّرة في الكون : البحر ، والنهار ، كي يتهيّئوا لرحلة "الإنتقال" لا الرحيل التي ستحل غداً ؛ الإنتقال من جسد إلى غمام :

(                 تعالوا

                  أخبّىءْ يديكمْ

                  بموجٍ البحارِ ،

                  أذوّبْ لكمْ روحكمْ

                  في النهارِ .

                  ألا فلتنقّوا أياديكمْ في البحارِ ،

وأرواحكمْ في النهارِ . فأنتمْ غداً ذاهبونَ لكيْ

تصبحوا قطعةً

                  من غمامْ ،

                  فضاءً من الصيفِ يسبحُ

            فيهِ

                  الحمامْ . – ص 1182 و1183) (نصّ "تعالوا") . 

وهذا قول يستنكره الغيبُ ويستفز كيانه كلّه . فعن أي "تحوّل" يتحدّث الشاعر ؟! عن أي تحوّل يصبح فيه الإنسان غماما يسبح فيه الحمَام ، ولا يُلقى في القبر ويُدفن ؟! من يفلت من عذاب الدفّان ؟ ثمّ من هو قائل هذا الحديث ؟ أليس طفلاً حالماً بعالم يبنيه حسب رغائبه ونزواته ؟ عالم تخترعه المخيّلة ويترجمه السيّد الكلام ؟ والكلام والكلمة – بالنسبة للشاعر - هي حجر حياة الطفولة ؟ لا تقبل التكذيب فقد نزفت عندما تلقّى طعنات التشكيك بياض نواياها الجميلة :

(                 ومنْ قالَ ذلكَ كان الكلامَ .

وإنّي أصدّقُ قولَ

                  الكلامْ .

                  فإنّ دماهُ على ما ارتدى

             منْ

                  بياضِ السلامْ . – ص 1183) .

هذه النصوص تعيدُ الثقة بالأرض والإنسان والكون والحياة بعد جفاء مرّ طويل .. وطويل جداً ؛ نصوص تعيد التأسيس أو تعيد اكتشافه كأنها في فعلها أساطير للتكوين والخليقة والأصول الأولى . فهناك في تلك الفراديس المبادة فقط يتمّ تطهير الأيدي والأرواح بنور النهار وموج البحار لتصبح الأجساد غماما ، ويكون الموتى قطراتٍ من ماء :

(                في

                 الكتبِ البيضاءْ

                 حيثُ الريشةُ لا تُغمسُ إلّا

         في

                 محبرةٍ خضراءْ ،

                 كان الموتى

                 قطراتٍ من

                        ماءْ . – ص 1184 و1185) (نصّ "في الكتب البيضاء") .

ويبرع جوزف حرب – وهذه من سماته الأسلوبية الصارخة الرائعة – في استخدام الألوان . ومن جديد لا يمكنك إدراك عمق هذه السمة وخطورتها في إبداعه إلا إذا أغمضت عينيك وتخيّلت الصورة وقد صارت حركة ، ناهيك عن تخيّل الكلمات كخطوط وألوان وظلال كما في فن الرسم . الكتب البيض منفصلة في الصورة المكتوبة عن الريشة ، وهذه بدورها لم تُغمس في المحبرة الخضراء إلّا افتراضاً . الآن تخيّل يداً ناعمة تمسك الريشة بخفّة ، وتغمسها في محبرة خضراء ، وتبدأ بـ "الكتابة" برشاقة واقتدار على وجه الكتاب الأبيض . أي تناسق وروعة وانسجام . ومباشرة ينبثق لديك شعور طاغ بأن هذه اليد إنما ترسم الوجود الأخضر على وجه الوجود في بداءته الناصعة الفجّة . الألوان لدى جوزف حرب ، نوعها وطبيعتها وحدّتها تفرضها طبيعة المكوّن المعبّر عنه - وهو في محبرة الطبيعة - عندما كان رؤيا أو "إمكان وجود" كما يقول محيي الدين بن عربي . إنها مثل جلد الجنين الذي يولد به طبيعياً ولا يمكن لصقه وتصنيعه . الرحم الرسام يعرف اللون المناسب لوليده . ورحم الألوان يلد المكوّنات (بـ .. ) يدي الشاعر ، فهما "قابلته" الماذونة ولا يفعلان أكثر من ذلك . ولكن هذه ليست مهمة آلية رتيبة ، إنّها تتطلب حسّاً واستجابة روحيّة لكلّ مكوّن يولد . وبذلك فألوان الشاعر قبل أن تتمظهر بكلمات على الورق ونتخيلها في المخيّلة ، تمر في روحه حيث "تّعامل" بخفقات القلب ورعشات الروح وهي ترى الصورة بألوانها الجنينية الخاشعة . ولهذا تاتي أغلب قصائد جوزف حرب لا كلوحات شديدة الإتقان والتعبير تجسيماً ولوناً حسب ، ولكن كطبيعة مرّت بالروح ، وجلست على مائدتها ، وتناقشتا حول لون وطبيعة ثيابها قبل أن تخرج على العالم وإلى الناس بطلعتها المهيبة الساحرة . ومكوّنات القصيدة / الطبيعة الصغيرة ، هي في الواقع "لون" قبل أن تكون "مادة" صمّاء . فالسماء هي "زرقاء" قبل أن تكون "سماء" من أرواح وبخار ماء . والأرض "حمراء" عند المساء " و"بيضاء" عند الصباح قبل أن تكون تُراباً وصخوراً .. وهكذا . وهذا هو سرّ نداءات الأرض العطشى وهي تبتهل الآن للسماء "الزرقاء" كي تردّها امرأة "بيضاء" بعد أن قحلت وتشقق جسدها وصارت "سوداء" . اللون لدى جوزف حرب هو الهويّة ، وحين يتحرك المكوّن الذي يحمله فإنه يفعل فعله من خلال سمات اللون لا من خلال خصائصه حسب . ولهذا ترى قاموس الشاعر اللغوي / التصويري حافلاً جداً بـ "أخضر" الوجود و "أبيض" الحياة ، ككائنين مستقلّين يشكّلان في فعل حركة هويّتهما اللونية اساطير الوجود وحوادثه كما لو كانا مخلوقين ماديين خرافيي المواهب :

(                 كانتْ إذ تعطشُ هذي الأرضُ

      كثيراً ، ترفعُ كفّيها

                             أشجاراً

                            عاريةً ،

                  وتصلّي :

                             يا

                             زرقاءْ ،

                             يا

                             أيتها

                             السيّدةُ

                             الزرقاءْ ،

                  ردّيني

                  امرأةً بيضاءْ ،

                  رُدّيني

                  امرأةً بيضاءْ .

                  وهبيني خاتمَ نعمانٍ ، وسوارَ خُزامى ،

       ومواويلَ تسوقُ البجعَ الراحلَ

                                كلَّ

                                مساءْ .

                  هبيني

                  قبّعةً حمراءْ ،

                  وسنونوْ عندَ الصبحِ تعلّمنيْ

                        فتّ السنبلةِ الصفراءْ . – ص 1185 و1186) .

بهذه الزينة الرائعة المتناغمة ، وبهذه الإكسسوارات المتناسقة ، وبهذه السمات / الألوان ، وبهذه المهارات التي تتبادل تعليمها مكوّنات الطبيعة ، تخرج علينا الأرض كل صباح ومساء . لكن هل "فكّك" الشاعر وحدة قصيدته ، ونسي ما افتتح به نصّه من أن الموتى كانوا قطرات من ماء في أيام الكتب "البيضاء" التي تًكتب بمحابر خضراء ؟

إذا نسي الشاعر تلك "الخطوة" التصويرية الإفتتاحية ، فمعنى ذلك أننا سوف نرتد إلى ما كان يُعدّ نقصاً في قصيدة العمود الشعري من أنها أبيات منضّدة ، بيتاً فوق بيت . وهنا – في حالة نصّ جوزف حرب - سوف نصبح أمام قصيدة صور منضّدة ، صورة فوق صورة ، بحيث يمكنك تقديمها أو تاخيرها من دون أن يتأثر معمار القصيدة أو تسلسل صورها ، مثلما بإمكانك أن تقدّم بيتا أو تؤخره في قصيدة العمود بلا تاثير على رؤيا الشاعر أو الفكرة الأساسية التي تحكمها . الأمر ليس كذلك في نص جوزف حرب . فبعدَ أن صوّر لنا الموتى في زمن الكتب البيض كقطرات ماء ، اضاف معلومة / مشهداً تصويرياً ثانياً هو دليل عملي على علاقات مكوّنات كونه عبر هويّاتها اللونية ، وعلى تجسّد الفعل المادي من خلال اللون ، وذلك من خلال ابتهال الأرض العطشى للسماء الزرقاء بأن تكسو عري يباسها الحارق بألوان مكوّناتها ، وأن تُعنى بتجميلها بريشة فنان . بهذا المثال اللوني المصور قدّم لنا الشاعر فكرة عن طبيعة العمل في مشغل الطبيعة . الآن يمكنه – بعد أن أعدّنا نفسياً وذهنياً لاستقبال الحركة المقبلة  - أن يعود ليصوّر لنا عمل الله وكيف تكون أرواح الموتى قطرات من ماء :

(                  كان الله قديماً يُدعى : الريحُ .

         يجيء اللهُ ، ويجلسُ عندَ الأفقِ بمكتبةِ

         الكونِ ، ويأخذ منها الغيمَ

                                        ويفتحهُ ،

                                         ويقلّبهُ ،

                                                  تتساقطُ

         منهُ قطراتٌ من ماءٍ

                         حاملةٌ

                               صوتاً

                               للعشبِ الآتيْ .

                         كان الغيمُ

                         سجلّ الموتىْ . – ص 1187) . 

والمشهد الأخير هو عبارة عن سلسلة من "الحركات" التصويرية ، المنسجمة الملتحمة المعبّرة عن "أفكار" الخلق . فكان الله يُدعى الريح هي "صورة" تترتب عليها "حركة" ، لكنها "فكرة" أصلاً ، وحين يجيء الله ، ويجلس عند الأفق بمكتبة الكون هي "حركة" تتشكل منها "صورة" تنطوي على "فكرة" فذّة تصوّر الكون مكتبة كبرى والله يشتغل على "مصادرها" في عمله . وحين "يأخذ منها الغيم ويفتحه ويقلّبه وتتساقط منه قطرات من ماء حاملة صوتاً للعشب الآتي " ، هي سلسلة "حركات" توصل إلى "صورة حركيّة – وسمعية في النهاية  - مركّبة" تتضمن "فكرة" أنّ الله في فعله العفوي المحيي للأرض العطشى من خلال تقليب "مصدر" الغيم ، يمنحها أرواحاً سوف تتساقط وهي تصيح مندهشة من مفاجأة الهبوط المتزاحم عبر الفراغ ، لتصل الأرض وتنبت عشباً ، أي أنّ "الفكرة" الأساسية المعبّر عنها ، وهي فكرة خلق لا نظرية مجرّدة ، هي أن عشب الأرض يتكوّن من أرواح .. فـ "خفّف الوطء" عزيزي القاريء على طريقة أبي لعلاء المعري . والنتيجة التي تترتب على ذلك هي "فكرة" لكنها "صورة" و"حركة" كامنتان ، وهي أن "الغيم كان سجل الموتى" .

وسوم: 638