الشعر الكعبيّ
الشعر الكعبي.. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بدء الكلام ( نغمات أوّل الأوتار ) 01..
ظاهرة الشعر الكعبي بدأت تستفحل وتستوي على سوقها.. وقد أتت ثمارها وبرزت ملامحها في أفق الشعر العربي، وما عادت تقتصر على قصائد ( أمير شعراء الجزائر ) محمّد جربوعة .. فوجب الالتفات إليها والنظر في مختلف أبعادها ..إنّها بدت وكأنّها مدرسة حديثة في الشعر، تتشكل ملامحها بإطراد يوما بعد يوم ..
منهج الشعر الكعبيّ..02
كلام من ذهب:
تحدّثت الأستاذة فضيلة عبد الكريم عن المنهج الكعبي فقالت:
" جمالية الخطاب و التلقي للقارئ و كذلك هي ظاهرة تقف أمام الحداثة و الفوضى في الشعر التي أتعبت المتلقي وأفسدت الذوق دون مشهد يرسو عليه النص .. "
أوّل ما لفت انتباهي إلى الشعر الكعبي حتّى قبل أن أدرك منهجه المتفرّد ؛ هو قصيدة ( أمير شعراء الجزائر) محمّد جربوعة ( قدر حبّه ) وكانت قصيدةً مذهلة بحقّ، وفيها الملامح الأولى لهذا النّهج لاسيما حين يقول:
" تحبُّهُ صبيّةٌ تنضِّدُ العقيقَ في أفريقيا .."
وحين يقول:
" تحبُّهُ صبيَّةٌ تذهبُ في صويْحباتِها لتملأَ الجِرارْ .. "
إلى أن يقول:
" تحبُّهُ القُلوبُ في نبْضاتِها ما كانتِ القُلوبُ في أهوائِها من قبلهِ ؟.. ليلى ! وهِنداً ! والتي مهتوكةَ الأستارْ ! .. وقِربةُ الخُمورِ في تمايُلِ الخمّارْ ؟!!..
صار الحبّ في هذا المنهج الشعري ( الكعبيّ ) بعيدا عن كلّ تهتّك أو ميوعة في الحديث عن المرأة وذكر مفاتنها، وفوق أن ينحطّ في بعض صوره إلى الدّرك الأسفل من البهيميّة. بل صار التغزّل في المرأة ويرتفع بها إلى مراتب السموّ الرّوحي ومقامات الإنسانيّة العليا، مستمدّا سناءه ونقاءه من الحبّ النبويّ..
وجاءت قصيدة محمّد جربوعة الأخرى ( زهرة القرشي ) التي اعتبرتُها مكملةً لملحمة ( قدر حبّه )، ليظهر فيها هذا المنهج بشكل أكبر وأوضح، ثمّ كتب محمّد جربوعة نفسه يبيّن هذا المنهج الكعبيّ ويوضّح بعده الجمالي السّاحر.. وكتب فيها قصائد كثيرة، يمكن أن تجمع في ديوان ضخم..
وقد ظهر هذا النّهج أكثر ما ظهر في قصيدته التي رفعها إلى كعب بن زهير وأهداها إلى مجلّة الأدب الإسلامي، وكانت بعنوان ( برقيّة إلى كعب بن زهير ) رضي الله عنه، ويقول في مطلعها:
بانت سعادُكَ.. والتقيتَ بأحمدِ
ماذا خسرتَ بهجرها يا سيّدي ؟
قد كان قلبكَ ماسةً في عِقدها
يبقى يسبّحُ صدرها إن ترقدِ
ويظلّ ينفخُ آهَهُ في جيدها
ويختمها بالتوقيه الكعبيّ الكبير:
" أهواهُ، أهجرُ -كيْ أقبّل نعلهُ-
ألفيْ سعادٍ.. فاتناتٍ، خُرّدِ "
وليس المنهج الكعبيّ منهجا مستحدثا أو بدعا في هذا العصر بل له أصل، ومرجع يرجع إليه، إنّه يُرجع به كما بيّن الأستاذ محمّد جربوعة إلى شاعر الرّسول صلّى الله عليه وسلّم كعب بن زهير صاحب قصيدة البردة الشهيرة ( بانت سعاد )، التي أنشدها في المسجد النّبوي وبين يدي الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، ومطلعها غزليّ واضح:
بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ* * مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُفدَ مَكبولُ.
وَما سُعادُ غَداةَ البَينِ إِذ رَحَلوا * *إِلّا أَغَنُّ غَضيضُ الطَرفِ مَكحولُ.
ولم ينكر عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذلك، بل أكثر من ذلك كساه بردته..
ووجدت أيضا أنّ عددا من الشعراء المعاصرين ( لاسيما في الجزائر ) بدأ يكتب على هذا النهج الكعبي ( الذي حدّده الشّاعر محمّد جربوعة )، وفيه تميّز واختلاف بيّن عمّا كُتب سابقا وفقا لهذا المنهج.. إذ لم تعد القصيدة ذات مطلع غزلي يتخلّص به إلى مدح النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، بل قد يأخذ الغزل النّصيب الأوفى، ويستولي على بؤرة اهتمام الشّاعر، لكن يلتفت الشّاعر في خاتمة القصيدة أو في أثنائها التفاتة يستصغر فيها الغزل والنّسيب، وقد ينفيه عن نفسه تماما بسب ذهول قلبه، وانشغاله التّام بمحبّة نور الهداية وسراج العناية الرّبانية محمّد صلّى اللله عليه وسلّم .
وتفرّعـت الشّجرة 03 ..
خطّ الشّاعر محمّد جربوعة النّهج الكعبيّ وبيّن معالمه ودعا إليه بقوّة وعزيمة لا تنحني ولا تلين، ثمّ جعل الشعراء يتقفّون أثره وينسجون على منواله، بعد أن كتب عددا كبيرا من القصائد في هذا الاتجاه، تحدّرت من علياء قريحته الفذّة تحدّر الجُمان ..
وأوّل من رأيته كتب على النهج الكعبي الذي دعا إليه محمّد جربوعة؛ واقتفى أثره هو الشّاعر رمضان بونكانو[2]:
" عبد الوهاب بوشنة ، ومعه الشاعر أحمد العماري ، وعمار نقاز ، ومصعب بلهادف ، وأميرة الشعر ، وعبد القادر بوتدارة ، والشيخ رمضان ، وهارون كيحل ، ورشيد دحمون، وعز الدين لزعر ، وعادل سراوي ، وسليم رهيوي، وغيرهم ...هم بالنسبة لي جياد شعرية أراهن عليها بعينين مغمضتين .. ولم أكتب هذه الكلمة التي ستبقى للزمن ، إلا وأنا على يقين أنهم سيكونون إن شاء الله أسماء شعرية كبيرة.. مع إدراك المنصفين من الشعراء والنقاد ، أن هذه الأسماء تكتب قصائد أنضج وأجمل وأقوى وأسلم من قصائد أسماء ما فتئت ومنذ ألف سنة إلا خمسين عاما تجلدنا بما تسميه هي شعرا ..[4] الذي أوّل ما نسج على النّهج الكعبي فيما أعلم: قصيدته ( تكتم زينب ) التي عارض بها قصيدة الأمير ( أفشت هوانا ) فأتى بالشيء العجاب .. ومطلعها:
" أفشت هوانا في المحافل زينب
والغيد إن أفشت تزيد و تكذب "
وكانت قصيدة فذّة بحقّ تأخذ بلبّ قارئها وتسحر روحه، وربّما كان الأستاذ عبد القادر صيد من القلّة القليلة التي حازت التفوّق الإبداعي في جنسيّ القصّة والشعر معا ..
يقول الشّاعر عبد القادر صيد في قصيدة ( أفشت هوانا زينب ):
كتمت هوانا في الجوانح زينب و الغيد إن كتمت تشيخ و تتعب لمعت وجوه البائحات بحمرة و حبيبتي مما تكابر تشحب نجحت بتقليم الأظافر حولها لا مشفق من حالها يتعتَّب قديسة أفكارها لم تمتزج ببنات لهو بالحواجب تلعب و ترى هوانا مأثما تشقى به كتمانه دين به تتمذهب فتغالب الأنفاس كي تبدو على أن الأمور كما تريد وترغب لو دققوا في حالها كشفوا الخفا لكن ربك حين يستر يحجب
وقد عكس معظم معاني الأبيات التي جاءت في قصيدة الأمير ليخلص إلى الدّلالة ذاتها وكأنّما يريد أن يثبت نظريّة ( والعكس صحيح )، إذا كانت شدّة الهوى تجعل الحبيبة تفشي هواها ولا تقوى على كتمانه، فإنّ شدّة الهوى وبلوغه الذروة في تأجيج القلب، يجعل صاحبته تخاف وتخشى فتكتم وتستر أحيانا.. ويؤثر ذلك على جسمها ووجهها فيبدو مصفرّا شاحبا، قد برّحت به الأشواق.. وما ذلك إلا من عجائب التصوير الشعريّ الجميل، حتى يحار القارئ: أيّ الموقفين أجمل وأروع، وأكثر إيغالا في إيصال المعاني السّامية واللّواعج الهائجة: الكتمان أم الإفشاء ..؟ !
وقد كتبت الأستاذة الأديبة فضيلة عبد الكريم قراءة نقديّة
[2] - ( الأجدّ ) مصطلح نقديّ يستخدمه الدّكتور عبد الملك مرتاض بدلا من ( الحداثي ) ويرى أنّه أكثر دقّة، وأصوب تعبيرا عن الإبداع الحيّ الباقي على الدّهر.
[4] - الأستاذ عبد القادر صيد من مواليد 1967 م مفتّش التربيّة الوطنيّة، شاعر وقاص وكاتب له كتاب مطبوع بعنوان ( الشيخ أحمد سحنون الأديب المصلح ) ومجموعة قصصيّة عنوانها ( بعض الصّمت نزيف )، عضو الجمعيّة الخلدونيّة وعضو جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين وعضو اتحاد الكتّاب الجزائريين.
[5] - نشرتها بمجلّة أصوات الشمال وهي بعنوان ( فن توليد الفكرة و ربط الهوى بالقضية و المبدأ في قصيدة ( كتمت هوانا") بتاريخ 31 / 07 / 2015 م
وسوم: 639