المتعة والرسالة في مسرحية "الشمس والدنس" لعماد الدين خليل
ترجع علاقتي بأدب الدكتور عماد الدين خليل إلى عام 1978، وكنت قد قرأت له كتابـه: "لعبة اليمين واليسار"، فهزني الكتاب هزة عنيفة، وأحسست أنني أمام قلم يجبرني على فحص معرفتي، وأمام كاتب يمسك بزمام الأمور، لا تفلت منه الكلمات، كل كلمة في موضعها بالضبط، وفق منهج دقيق. قرأت له معظم إنتاجه، وتبين لي حين ذاك، أن هذا الإنتاج الأدبي ليس ككل الإبداعات المطروحة على الساحة، إبداع مختلف تمام الاختلاف، وكان الكتاب الثاني الذي قرأته هو "معجزة في الضفة الغربية" ويتضمن عدة مسرحيات قصيرة.
ثم توالت القراءة لأدب الدكتور عماد الدين خليل، وكانت قراءة باحثة وحاولت التعرف على ملامح منهجه، وأخذت ملامح المنهج تتضح لي في بطء شديد حتى وقع في يدي كتابه "فوضى العالم في المسرح الغربي" وهنا أدركت ملامح المنهج على نحو أقرب إلى اليقين، حتى اكتملت الرؤية بكتابه "التفسير الإسلامي للتاريخ"، أدركت أن الدكتور عماد يكتب في الأدب من رؤية مختلفة تماماً لواقع وصفه بالفوضى في كثير من كتاباته النقدية، ويقول عماد الدين خليل:
"إن الفوضى الفنية في تصور الإنسان الغربي للقدر، عادت من جديد في المسرح المعاصر أشد وأنكى.. مواقف عديدة، ورؤى شتى تحمل جميعاً طابع الانغلاق على العالم والكون، والكراهية العميقة للقوى التي لا تراها العيون.. وتسعى جميعاً إلى تعميق الأوهام التي علقت في ذهن الغربي ووجدانه، وصورت له الكون مسرحاً لآلهة تحرقها شهوة الانتقام، وتدفعها الأنانية إلى أن ترفع سلاحها القاهر في وجه الإنسان المنكود"(1) ولقد انتقلت الكراهية العميقة للقوى التي لا تراها العيون إلى أدبنا العربي بشكل كبير، حتى ظن البعض أنه الحق الذي غمض علينا، وراحت أقلام الدرجة الثانية تعمل عملها لترسيخ هذه المفاهيم وتلك الرؤى إلا أن إرادة الله تبقى الغالبة فيذهب الزبد، ويبقى ما ينفع الناس.
وأدب الدكتور عماد الدين خليل يدخل بالقطع فيما ينفع الناس، فهو في مجال الإبداع الأدبي محكوم بالعقيدة التي يراها بعض كبار النقاد معطلة للإبداع!(2). وفي هذه الدراسة أعرض للقارئ مسرحية (الشمـس والدنـس) للدكتور عماد الدين خليل وهي عمل أدبي محكوم بالعقيدة على النحو الذي عرفناه في أعمال سابقة مثل مسرحيـة (معجـزة فـي الضفـة الغربيـة)،وديوانه (رحلة في المصير).
تقع مسرحية (الشمس والدنس) في 110 صفحة من القطع المتوسط أصدرتها دار الاعتصام بالقاهرة عام 1981م، ولم يذكر المؤلف تاريخ كتابتها. وتدور المسرحية حـول: نبأ تداولته وسائل الإعلام بخصوص تزايد خطير في درجات الحرارة خلال أيام، وربما الساعات القادمة، وأن الشمس قد زحفت قليلاً باتجاه عدد من الكواكب السيارة المحيطة ومن بينها الأرض.. وهي تواصل زحفها النسبي البطيء درجات أخرى.. هذا هو النبأ الذي تداولته وسائل الإعلام، وتمت إذاعته على الناس، وطلب إليهم أن يكونوا على الانضباط وقت سماع هذا النبأ المفجع الذي أعلنته ثلاثة من المراصد الكبرى في العالم. إذن فنحن أمام رأي العلموالعلماء؛ أي أمام مسألة علمية ويصيح أحدهم قائلاً: "إن العلم لا يخطئ أبداً".. "أهو خطأ في تركيب الكون كتب على جيلنا أن يعانوا ويلاته".. "إن ثمة خطأ في تركيب الكون وها نحن أذلاء ندفع الثمن القاسي"(3). وجاء الصوت الآخر هادئا:
- هون عليك يا عصام! فلا يمكن أن يكون هناك خطأ في تركيب الكون.. يقيناً.. لا يمكن أن يكون هناك خطأ.. ثم كان هذا الحوار:
عصام: والجحيم الذي نختنق في دخانه؟
عبد الهادي: ألا يجوز أن يكون من صنع أيدينا نحن؟!
عصام (بدهشة): من صنع أيدينا؟ هذا الحر المجنون الذي يغرق العالم، من صنع أيدينا؟ إنك تجافي منطق العلم يا عبد الهادي.. يبدو أن القانون علمكم شيئاً آخر غير العلم!.
عبد الهادي: نعم.. لقد علمنا القانون شيئاً آخر غير العلم شيئاً هو أكبر من العلم نفسه.. شيئاً لم يكن العلم سوى ثمرة من ثماره.. لقد علمنا فلسفة النظام.
عصام: أية فلسفة هذه ونحن نرى نظام الكون يتداعي أمام أعيننا!؟
عبد الهادي: من قال: إن الكون يتداعى أمام أعيننا؟ المراصد؟ أو لا يجوز أن تخطئ هذه الأجهزة التي ابتكرها العقل البشري!؟.
حوار هادئ ولكنه مشحون بالانفعال والترقب. وقد أحكم الدكتور عماد الدين خليل يده على كل كلمة – كما عودنا – فنرى الشخصية لا تردد إلا ما تعنيه، تحرص على حياتها ومتاعها فقط مقطوعة الصلة بالخير فيهتف أحدهم قائلاً: "ليس ثمة ضمان اليوم.. ليس ثمة ضمان.."(4)
وعادت البيانات الإذاعية مرة أخرى تقرر منع التجول، وعلى جميع المواطنين الالتزام الكامل بالقرار. ومما يستلفت النظر أن هذا الأمر نفسه قد تناوله الدكتور عماد في مسرحيته (البلاغ رقم 7) إحدى مسرحيات مجموعة (معجزة في الضفة الغربية) وواحدة من أروع ما كتبه الدكتور عماد الدين خليل. وقد تناولتها بدراسة متواضعة نشرت عام 1980(5)، وقد سيطرت الأفكار نفسها على عقل الدكتور عماد وقلبه! نعم؛ إن الكاتب يكتب نفسه! ولا يمكن أن يتخلص الكاتب من التجربة هكذا ببساطة!. إن مفردات مسرحية (البلاغ رقم 7) هي نفسها الفصل الأول من (الشمس والدنس) المذيع والبيانات والبلاغات وحظر التجول، معاناة شديدة. أشعر أن الدكتور عماد عاشها فعلاً، لذا نقلها إلينا في روعة وجمال.
وقضية العلم ناقشها الدكتور عماد الدين خليل في معظم كتبه، ولا أدري: لماذا قفزت إلى رأسي فجأة كلمة للرافعي في هذا الشأن!؟ يقول الرافعي: "يحتجون بالعلم، وهذا العلم لا ينفي شبهة، ولا يحمل مسألة مما هو فوق العقل، ولابد أن يكون للعقل (فوق)! وإلا كان هو تحت المادة وسطت هي عليه، وأصبحت الحياة بلا غاية والإنسانية بلا معنى"(6)
ونعود لرأي الدكتور عماد في الفكر المسرحي الغربي المعاصر، والذي أكد فيه أن (الفوضى الشاملة التي يعكسها هذا المسرح، فوضى تبدأ من أعمق أعماق الإنسان وتنتهي بالكون وخالق الكون، تبدأ بالإنسان فتمزقه، وتصعد صوب العلاقات الاجتماعية فتدمرها، ثم تلقي ظلالها على العالم والكون فتخيل للناظر أن العبث يلفها في طياته، ونصل أخيراً إلى العلاقة بين الإنسان وخالقه فتسممها وتظللها بالرماد، علاقة خصام أبدي بين إرادة الله وإرادة الإنسان) ص 187.
من هنا نتعرف على المرتكزات الأساسية في أدب الدكتور عماد وهي:
أ- أدب ملتزم بالتصور الإسلامي عن الله والكون والإنسان.
ب- أدب لا يضفي صفة البطولة على لحظات الانحراف والضعف البشري.
ج- الإنسان في حس الدكتور عماد طاقة كونية مريدة فاعلة، وهو يردد في معظم كتبه هذه الكلمات عن الإنسان أنه طاقة كونية مريدة فاعلة، ويمكن قراءتها بسهولة في كتابه الأشهر (تهافت العلمانية).
توقفنا عند (قضية العلم والعلماء) وهي موضوع المسرحية، والتي أبرزها المؤلف من اللحظة الأولى، وهؤلاء الذين يؤمنون به على أنه الكلمة الأخيرة، والذين يؤمنون به على أنه يخطأ ويصيب.
** ننتقل إلى الفصل الثاني من المسرحية:
نحن في قاعة الاجتماعات بمجلس الأمن الدولي، حيث تناقش القضية بحضور المندوب الأمريكي، والروسي، والفرنسي، والإنجليزي، والباكستاني، والأوغندي، والسكرتير العام. ولم يحضر مندوب الصين! اجتمعوا لمناقشة الاحتراق الذي سيدمر العالم ولنتأمل هذا الحوار: المندوب الباكستاني:(لجاره الأوغندي) أتراهم سيتجاوزوننا في هذه المحنة كذلك؟ وهل سيستخدمون حقهم الأبدي في "النقض" هذه المرة؟
الأوغندي : إن المسألة لا تتعلق اليوم بآسيا أو أفريقيا إنها تلف العالم كله.
الباكستاني: أقسم لك إنهم سيواصلون (لعبهم) حتى وهم يرون ألسنة الشمس تتلهى بمصير العالم.. يكفي أنهم كبار..
الأوغندي: في الجحيم يستوي الكبير والصغير.
الباكستاني: لكنهما وهما مقبلان على الاحتراق يدفعان الصغير أولاً..
الأوغندي: ولكن النار ستأكلهم في نهاية الأمر.
الباكستاني: المهم في نظرهم من يموت أولاً.. ومن يدري؟ فلعلهم يأملون، بعد التخفف من نصف سكان العالم أو ثلثيه، لمن يتبقى منهم كافيه تقيهم لفحات الجحيم.. من يدري؟(8)
ويتكلم المندوب الروسي عن غياب المندوب الصيني ويجد فيه فرصة كبيرة لمناقشة المسألة بشكل أكثر تعقلاً .. إنهم عاطفيون أكثر مما يجب!. الكل طامع في الأماكن الأكثر برودة، ويستعد المندوب الروسي لطرد أهالي الشمال من مدنهم الباردة، ويستعد المندوب الأمريكي لطردهم إلى الجنوب، واتفق كل منهما على إزاحة جيرانهم من أماكنهم لينعموا بالبرد والثلج!! ولتذهب مقررات هلسنكي إلى الجحيم!.
ويسأل المندوب الباكستاني السكرتير العام: أين التضامن؟ لابد من إنقاذ أكبر قدر من الناس والخبرات الفكرية، إنه بقليل من التضحية نضع خطواتنا الأولى على طريق المجابهة الإيجابية للكارثة.
وتأتي كلمة المندوب الإنجليزي (لجاره الفرنسي):
"لقد أدينا دورنا كمستعمرين قدماء، ثم ها نحن نحيل أنفسنا على التقاعد لا رغبة منا ولكن لتخلية الطريق لمن هم أقدر منا!"
من هذا الحوار يتضح لنا بجلاء أن النهب والاستغلال صفة لازمة للرجل الأبيض، وأن كل ما أنتجه أوروبا هو بلا شك دفعته الشعوب الفقيرة على قرون طويلة. وأكد ذلك الدكتور فؤاد سيزكين، والدكتورة زيجريد هونكه، وما أنشئت الهيئات الدولية إلا لتخدم فكرة الاحتلال عن طريق الهبات والمعونات والدراسات والأبحاث، وكل ما إلى ذلك من فنون الاستعمار القديمة الحديثة.
وأنهى المندوب الروسي الجلسة قائلاً: إن قضية خطيرة كهذه تهم كل الشعوب لا يمكن أن تحل بهذه البساطة. وعلى أي حال فليس لدى حكومتي، كما لم يكن دائماً، أي رغبة في الوقوف بوجه المحاولات الجدية لحل المشكلات الدولية، لكنه سبق السيف العذل!- كما يقولون.
واستخدم المندوب الأمريكي حقه في الفيتو للأسف الشديد. ويصيح المندوب الباكستاني والأوغندي معاً: ولكن العالم سيحترق أيها السكرتير!. ويغادر السكرتير العام الجلسة دون أن يجيب! هكذا تتم (اللعبة). وجرد السكرتير العام من كل حيلة!
الدول الكبرى الغنيــة! السارقة! الدول الصغرى الفقيرة! المسروقة!.
يؤكد الدكتور عماد على أهمية وجود نموذج العالِم المؤمن السياسي بعيداً عن مصطلحات الحتمية التاريخية والكلام الفارغ الذي يملأ قاعات الهيئات الدولية، والذي لا وصف سوى أنه لا يوصف!. جهل وتجهيل، وفساد وإفساد! ولنتأمل هذا القول:
"ليست الشمس هي التي تقتلنا ولكنها الدول الكبرى! عشرات القرون ونحن نعايش حر الشمس ولفحها اللاهب فما أعطتنا سوى الحياة والنماء. عشرات القرون ونحن نفتح أعيننا على القرص الأصفر وهو يتلظى لهباً، لكنه لم يمد إلينا يوماً يدا بسوء.(ص9)
نعود إلى ما قاله عبد الهادي في رده على عصام:
"منذ ملايين السنين والكون يتحرك، تمدداً واتساعاً من خلال نظام محكم دقيق معجز ولو حدث أن افتقد هذا النظام في جانب ما من جوانب الكون.. لو حدث أن تسرب الخراب إليه عبر ثغرة من ثغراته، ولو كانت تافهة حقيرة، كما يتوهم اليوم لكان الكون قد تداعى منذ ملايين السنين"(10)
إذن؛ القضية هي فكر مواجهة فكر! أو الحق في مواجهة الأباطيل! وهو أمر قديم يوم أن خلق الله السماوات والأرض. فعبد الهادي النموذج للمؤمن مقابل عصام الذي لا يؤمن إلا بالمحسوس الملاصق! ولا نكاد نسمع لليقين صوتاً في اجتماعات مجلس الأمن إلا صوت المندوب الباكستاني في استحياء شديد كمن يخاطب نفسه:
نعم؛ لا أحد يسمعنا في هذه المجالس أو غيرها! ولا أيضاً أحد يهتم بما نقول في الأغلب الأعم، وليدعني القارئ أخرج قليلاً عن الموضوع وأسأل: لماذا لا يسمعنا العالم ونحن نمثل أكثر من مليار ونصف مسلم؟ أقول: لما كانت الثقافة هي بمثابة نظرة شاملة للكون والحياة فهي (أداة بناء) و(أداة ردع) في آن واحد. فهي أداة بناء المجتمع، وتنميته، وحمايته، إذ تعبر عن منظومة قيمه، وتحتوي على منهاج حياته، وترسم إطار العلاقات الاجتماعية فيه وهي مرجع ومحرك السلوك الإنساني. ومن جهة أخرى فإن الثقافة هي عامل حسم يشكل إطار العلاقة بين الأمة وغيرها من الأمم، وعلى قدر قوة ثقافة أمة من الأمم وحسن صياغتها وتماسكها، وتمسك الخاصة والعامة بها؛ تكون الأمة قادرة على التأثير في غيرها من الأمم والتغلب عليها حال الصراع. فجوهر (أمن الأمة) حفاظها على ثقافتها، نقية دون تشويه، قوية مزدهرة، فاعلة مؤثرة. ولا شك أن البطل عبد الهادي يملك قوة اليقين، ولكن هذه القوة لا تكفي وحدها، فجاء صوته كمن يحدث نفسه، لأنه فقد الجناح الثاني وهو القوة! ومطلوب لكي يسمعنا العالم (المتحضر) أن نملك اليقين أولاً، والقوة الممكنة ثانياً.
** نصل الآن إلى الفصل الثالث من المسرحية مع العلماء في إحدى قاعات المرصد الكبير المقام في قرية قرب نيويورك، وإليك هذا الحوار:
هول: (مخاطباً التلسكوب): إنه لا يمنحني منذ يومين رؤية حقيقية للموقف الكوني في فضائنا الغريب. "يا له من ماكر وعنيد ومخادع لا يكف من المناورة!"(11)
فاولي : "إن هناك من يستطيع أن يتقدمنا اليوم خطوات واسعة إلى الأمام"
هـول: من؟
فاولي: رجال الدين!!
هـول: الدين.. نعم، أما رجاله فلا..!
ما أكثر ما يثيرون قرفي واشمئزازي! لقد سبقتني أيها البروفيسور فوصفتهم بالمتسولين، إنهم يتحركون في الخطوط الخلفية ويتاجرون بالخرافة(12)
فاولي: إننا أصلح منهم للقيام بهذه المهمة العظيمة.
هول: وهل بمقدورنا أن نمارس مهمة مزدوجة كهذه؟
فاولي: ليست مهمة مزدوجة.
ما هو الدين يا مستر هول وما هو العلم؟
أليسا هما في نهاية التحليل البحث عن الحق واعتناق معطياته في مجابهة الجهل والخرافة. إنه القنديل الأخضر يحترق فيه زيت العلم فيمنحك شعلة الإيمان الخضراء.
هول: نعم! (13) وبدأ العلماء بحرق زيت العلم في القنديل الأخضر ليمنحهم شعلة الإيمان الخضراء. وواضح أن العالم فاولي هو أقربهم إلى اليقين: "هنا عبر هذا التلسكوب الكبير.. إنه المكان الحقيقي لمعرفة الله.. طيلة عشرين سنة وأنا أروح وأغدو إلى الكنائس، لكنني لم أجد الله هناك.. لم أجده هناك!(14)
ويذكرني هذا بما قاله محمد قطب قبل سنوات طويلة: (لم تعرف أوروبة قط دين الله المنزل على حقيقته الربانية)(15)
أفلس رجال الدين! أفلس مجلس الأمن!
هول: "لا يمكن أن تقف أمريكا ضد قرار يسعى إلى حماية العالم بهذه الصراحة ؟! لم يبق إلا العلماء. أية مهزلة ستكون إذا تبين خطأ تحليلهم لهذه الموجه الحرارية!؟" (16)
فاولي: "لقد كنت دائماً أكره الحسم والجزم والقطع في ميدان العلم الرهيب.. ميدان الاحتمالات. إن العقل الذي يحترم نفسه، ويدرك أبعاد قدراته لا يجزم، ولكنه يصبر لأنه بالصبر والتواضع يمكن أن نقطف ثمار المعرفة وهي أكثر نضجاً.. إنه خطؤنا نحن".
ونعود إلى صوت اليقين (عبد الهادي): "الكبار مزقوا جلودنا بإشعاع قنبلتهم الذرية وقالوا: إنها سياسة..! والصغار مزقوا أمعاءنا وقالوا: إنه عدل" ما كنت أعرف أن العالم على هذا القدر المريع من الدنس.. وإن الشمس لو اقتربت فعلاً فإنها غير قادرة على إحراقه. إن عالمنا المرهف هذا بحاجة إلى مليون شمس لكي يتطهر(18) وأنهى بعض اليقين لدى العلماء خطأ تحليلهم للموجة للحرارية، وأن فعل الإنسان وراء ما يعانيه من أزمات هذا – في نظري ما أراد الدكتور عماد أن يقوله لنا من خلال مسرحية "الشمس والدنس".
نعم؛ إن فعل الإنسان وراء أزماته. الفعل الذي يكسر منظومة القيم، الفعل الذي يمارسه العقل بعيداً عن القلب، والفعل الذي مارسه الصرب في البلقان، وتمارسه أمريكا في أفغانستان، وتمارسه يهود في أرجاء المعمورة، الفعل الذي يرى وجوب أخذ أرض الغير بالقوة، ونهب ثرواتها، وفرض ثقافته وهيمنته على الشعوب الفقيرة بدعوى التحرير! أفعال قاتلة، أكاذيب الهيئات التي يقال عنها: إنها إنسانية وهي بلا شك ضد الإنسانية، وعلم مزور مهزوز يظن أنه ملك الحقيقة لا.. إنه بعيد جداً عن الحقيقة، فرق كبير بين العلم الحقيقي وعلم ظاهر الحياة.
لابد أن يجمع العالم بين العقل والقلب، مطلوب تحقيق التناسب بين (وقود القلب وشحنات العقل) وكما قال العالم هول: (إنك وأنت تقود سيارتك لابد أن تحقق نوعاً من التناسب بين دفعات الوقود ومبدل السرعة.. أليس كذلك!؟ أليس من الدنس اختزال قضية الصراع الإسلامي اليهودي في (مشكلة الشرق الأوسط)!؟
أليس من الدنس محاربة قيام دولة إسلامية في أوربة!؟ أليس من الدنس احتلال أرض الغير بالقوة المسلحة وفرض ثقافته!؟.
إن الأدب رسالة ومتعة معاً! وللدكتور عبد السلام العُجَيْلي كلمة في هذا الشأن أحب أن أنقلها هنا: "الأدب في الأصل متعة، ولكنه لا بد أن يحمل رسالة إذا كان الأديب مخلصاً وصادقاً، وليست كل رسالة مفيدة للمجتمع. نستطيع أن نعد عمر الخيام ذا رسالة في نظرته للحياة ودعوته لعيش اللحظة الآنية. فقد كان صادقاً مع نفسه في هذا، ومبشراً به لمن يستمعون إليه، ولكني أشك في أن رسالته كانت مفيدة للمجتمع، وكذلك إنهم يبشرون بمذاهب كأنهم يؤدون بذلك رسالة ولكنها رسالةتدعو إلى تحطيم المجتمع وتهديم قيمه.
ولكي يكون الأدب جديراً بهذا الاسم لا بد أن يكون ممتعاً. أما قيمته التبشيرية فتتعلق بفحوى الرسالة التي يمثلها مبدع ذلك الأدب"(19)
في هذا العمل الأدبي (الشمس والدنس) تحققت المتعة، كما أدى العمل وظيفته التبشيرية ورسالته الهادفة من خلال تقديم الأنموذج المؤمن الممثل في شخصية (عبد الهادي)، والأنموذج القلق الممثل في شخصية (عصام)، كما قدم الشخصيات الشريرة الخبيثة ممثلة في المندوب الروسي، وتحالف الشر ممثل في الدول الخمس الذين لهم حق الفيتو في مجلس الأمن العاجز عن أداء وظيفته، فهو مجرد ديكور!. وأكد العمل على أهمية العلم وقيمة العلماء ولكن أي علم!؟ إنه العلم المتسلح باليقين والإيمان.
إن خشبة المسرح معمل للتحليل النفسي، ومنصة للخطابة يصرخ من فوقها الإنسان ليخفف من عذابه وآلامه الواقعية. وإن ما قدمه الدكتور (عماد) منسجم مع المنطق والواقع. صحيح أن المسرح مرآة تنعكس عليها روح العصر بجلاء وصدق ووضوح! ولكن هذا الانعكاس الصادق شيء والحكم على موضوعية التجارب التي يطرحها المسرح وإعطائها صفة الشمول والتعميم شيء آخر. ولأن المسرح هو أصدق الفنون على الإطلاق في عرض وتصوير وتحليل طبيعة الإنسان والمجتمع، ومن ثم طبيعة الثقافة والحضارة في أي أمة تزاول هذا اللون من الفنون. إنه جماع الفنون كلها؛ الكلمة والحركة والموسيقى والصورة والأضواء والظلال، وبخاصة بعد أن هيأت له التكنولوجيا الحديثة من وسائل آلية مكنته من أداء مهمته أروع أداء!.
وقد عبر الدكتور (عماد) عن رؤيته وتجربته بدقة متناهية. إنه لم يقل لنا: انظر! ولكنه أخذ بيدنا خطوة خطوة إلى تفهم العلاقة الوثيقة بين إرادة الله وإرادة الإنسان، وبين لنا أن العالَم الفذ العجيب لا يتكشف إلا بوسيلة خارجية بنور يأتي من فوق، ينصب على طريق الإنسان من قلب السماوات ذاتها.
وعلى خلاف ما يطرحه الفكر المسرحي الغربي من فساد في تصور العلاقة بين الله والإنسان والكون، وتخبطه في المدى اللانهائي الذي لم يتح للإنسان ـ مفرداً ـ يوماً أن يصل إلى حقيقة من حقائقه، أو أن ينقل صورة حقيقية من بنائه الفذ العجيب؛ لأن إمكاناته تقف ـ أخيراً ـ عند حدود لا يمكن أن يتجاوزها إلى ما وراءها بما ركب في طبيعتها من طاقات وقدرات..
لذا نستطيع أن نقول: إن الفكر المسرحي القائم على التصور الصحيح للعلاقة بين الله والكون والإنسان هو الفكر الصحيح، وإن ما قدمه (علي أحمد باكثير)، وما يقدمه (الدكتور عماد الدين خليل) هو إنتاج مسؤول دون شك، وإنتاج يرقى بالفرد وينهض بالأمة.
الهوامش :
1- فوضى العالم في المسرح الغربي، عماد الدين خليل، مؤسسة الرسالة، 1977، بيروت، ص216.
2- وعلى رأس هؤلاء الدكتور محمد حسن عبد الله، الأستاذ بجامعة القاهرة، وكذا الشاعرأحمد عبد المعطي حجازي.
3- الشمس والدنس، ص 19.
4- الشمس والدنس، ص 26.
5- الاعتدال الفطري في أدب الدكتور عماد الدين خليل، مجلة الثقافة، مصر، أبريل 1981.
6- إعجاز القرآن، مصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي، لبنان، 1973، ص11.
7- فوضى العالم في المسرح الغربي، سبق ذكره، ص 187.
8- الشمس والدنس، ص 36، ص 37.
9- الشمس والدنس، ص 46.
10- الشمس والدنس، ص 30.
11- الشمس والدنس، ص 59.
12- الشمس والدنس، ص 61.
13- الشمس والدنس، ص 63.
14- الشمس والدنس، ص 64.
15- مذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب، دار الشروق، مصر.
16- الشمس والدنس، ص 68.
17- الشمس والدنس، ص 78.
18- الشمس والدنس، ص 106.
وسوم: العدد 643