جماليات مكاشفة النفس في "الكتاب الأسود" لنرمين نعمان (01)
الجزء الأول
إن الجهل في التعامل مع الذات يدفع بالإنسان ليقع فريسة في الكثير من المشاكل في حياته، وبالتالي يراها منغصات تبعد عنه أسباب السعادة، وما هي في الحقيقة سوى صور ذهنية يتعامل معها من داخل عقله، وهذا حتما سيدفع به إلى الهرب كما لو أنه الحل الأمثل لأي مشكلة تواجهه، ولكن من سيقرأ "الكتاب الأسود" للكاتبة المصرية نرمين نعمان سيكتشف أن المواجهة هي الحل الأمثل لتجنب ذلك التخبط الذي قد يؤدي حتما بالشخص إلى كوارث غير متوقعة في حياته المستقبلية.
ومن هذا المنطلق حاولنا تقديم هذا الكتاب من زاوية صاحبته المبدعة نرمين نعمان التي تهديه بدورها إلى كل من خذلها في الحياة ونجح في تشويش كل ما ظهر منها كجميل وبريء، وكذا إلى كل من أرشدها في رحلتها فأعادها إلى أرض الواقع حتى لا ترى ملامح وجه الحياة كخيال زائف بل هي في حقيقة الأمر واقع ملموس بكل ما يحمله من تناقضات.
في مقدمة كتابها حاولت نعمان الوقوف على تعرية حالتها النفسية وهي تقف أمام مرآة كأي فرد يحاول ملامسة مشاعره الداخلية أين يسعى جاهدا إلى التفاعل معها لكن كما تقول الكاتبة: "الإجابة في غاية الصعوبة لأن عقلي توقف كليا عن العمل وأصبح مخي عاجزا عن التفكير." (ص 7)، وهذا ما يحدث لنا جميعا في كثير من الأحيان حينما نتفاعل مع أحداث الحياة بجملة من المشاعر التي تتلون بين فينة وأخرى، فكلنا نعلم أن العقل هو أداة التفاعل مع كل ما يحدث في حياتنا، والتفاعل بعينه يكون حسب الصورة الذهنية الملتقطة من العالم الخارجي.
أما في ما يخص عنوان كتاب نرمين نعمان "الكتاب الأسود" فجاء أشبه ما يكون ببطاقة هوية دالة على أثر ذلك الغموض في نفس الإنسان، ولذلك جاء متربعا على الغلاف الخارجي ليشهر هوية العمل بكل شفافية ووضوح كما تقول الكتابة في مقدمتها: "الكتاب الأسود محاولة لك أن تجد صندوقك أنت الخاص بك بما فيه من كل التفاصيل والأسرار التي إن سمعتها ووجدتها الآن فقد توفر عليك وقوع الكوارث والحوادث المتلاحقة أو حتى الحد والتحجيم من حجم الخسائر المتتالية عليك." (ص 8).
قسمت نعمان كتابها إلى اثني عشرة بابا كما يلي: شارب هش ونهد وليد، الحب، آدم وحواء، الزواج، البيت، أنا، الآخر، الجنس، الطلاق، الاكتئاب، العشق و المرايا. كل تلك العناوين الفرعية تحمل معاني ودلالات تجعل القارئ يتحرى البحث عن مضمونها ليتعرف بشكل جلي عن وجهة نظر الكاتبة ليبحث له عن إجابة كافية شافية عن جملة لأسئلة قد تراوده منذ أن يقرأ عنوان هذا الكتاب الفريد من نوعه لأن المصرية نرمين نعمان نوهت على غلافه الخارجي بجملة تستفز القارئ الذكي حيث تقول: "هذا الكتاب قد يغير حياتك للأفضل.. أو للأسوء!".
في أول باب في "الكتاب الأسود" سيكتشف القارئ نوعا من التفاؤل لدى الكاتبة لأنها تفتتحه بأحلام المراهقة الوردية حتى أنها تتحدث عن مشاعر الحب لدى المراهقات فتقول: "يساهم الفن، خصوصا الرومانسي جدا من أشعار وأفلام وأغان، في تشكيل وتكوين حالة شعورية متدفقة دراميا مناسبة للفنون، لكن تكون بمنتهى المبالغة إذا تم استقطابها للواقع، والفتاة المراهقة في مثل هذه الظروف النفسية والهرمونية والجسدية الجديدة التي تتورد بالمبالغة والمشاعر الفائرة تنجذب نحو تلك الفنون كمسلمات، وليس كفن من إبداع وخيال صانعيه." (ص 12-13). كما لا تنسى نعمان المراهق الذكر هو الآخر الذي يحاول اكتشاف الحب بطريقة أخرى حيث تقول عنه: "فيبدأ هذا الشاب الفخور برسم (فينوس) -أنثاه- في عقله، ويظل يجمع كل الصفات الجسدية والعقلية الفتاكة." (ص 16). من خلال ذلك نستنتج أن المبدعة نرمين نعمان تحاول إلقاء الضوء على أحلام اليقظة التي يعرفها كل المراهقين إناثا وذكورا والتي قد تتسبب في الكثير من المتاعب النفسية لأنها مسألة تأخذ الكثير من الوقت والإبحار في عالم الخيال.
تواصل الكاتبة في الباب الثاني حديثها عن شيء اسمه الحب مع استرجاع أحلام اليقظة تلك التي كانت في فترة المراهقة لتجعل الشخص يعيش نشوة المتعة حيث نقرأ ما يلي: "أحلام وحب بلا منغصات، وما أحلى هذا الجزء المشابه للشيكولاتة اللذيذة التي تعلو قطعة الجاتوه وتكون الأكثر إغراء لأكلها!..." (ص 19). الجميع يبحث اليوم بشكل أو آخر عن لذة الحب خصوصا مع موجة الفيسبوك وضجة مواقع التواصل الاجتماعي في عصر السرعة لكن يطرح السؤال نفسه: هل يتحرر الفرد من شهوته بمجرد أن يصادف الحب في طريقه؟ هذا ما تحاول الإجابة عنه الكاتبة فتقول: "الحب للمرأة كل حياتها، والحب للرجل مرحلة جميلة تأتي بعدها الحياة لتستمر به." (ص 22).
الباب الثالث جاء للحديث عن حقيقة آدم وحواء على وجه الأرض ومعادلة الخيال التي لا تخلو من جدلية عقيمة في الكثير من الأحيان حتى نعمان كأنثى هي الأخرى تتساءل قائلة: "خلقت من ألم ضلوع عوج حائرة، مطلوبة كونيس لآدمها وهي لا تعلم من أين أتت ولماذا خلقت؟!" (ص 36). ومنه تعود وتستنتج الكاتبة بدورها حقيقة علاقتها بآدم الذكر فتقول: "قد تصبح وسيلة آمنة للتعايش والتقبل السلمي للمفروض واللازم." (ص 40).
الباب الرابع جاء تحت عنوان (الزواج: مؤسسة سعادة غير مؤكدة) فلماذا يا ترى؟ سنجد الإجابة حتما بين ثنايا سطور المبدعة نعمان حيث تجيبنا قائلة: "الزواج.. تلك المؤسسة المتناقضة التي يلهث إليها الإنسان ثم يزعم أنه مسير لها حتما، مع أن هذا ليس بصحيح.. وحين يبلغ مراده بالوصول إليها يتذمر من كل مكوناتها ورتابة أنماطها وروتينها الميت.." (ص 59). تتكاثر الأسئلة والاحتمالات على رأي نرمين نعمان، ولكنها دوما تعود إلى مسؤولية المؤسسين لها وكيفية إدارة تلك المنظومة التي نعرفها باسم الزواج.
تعيد مؤلفة الكتاب إلى الحديث في هذا الباب عن عقلية الرجل الشرقي وثقافته الذكورية الهشة لأنه يرى مؤسسة الزواج تساهمية وغير معنية بالمناصفة مع شريكة حياته على غير منطلق الكتب السماوية، وتنصفها نعمان من منطق العقل حيث نقرأ الآتي: "...إن أحست بالزهو لذاتها انفرجت أساريرها وعملت المزيد من أجل زيادة هذا القدر من السعادة الذاتية، وعلى هذا المنوال إن كان لشريكها رصيد واف بداخلها تغدق عليه نهرا جياشا فتصبح سخافاته نهرا نكاتا مضحكة تميزه عن غيره وخفقاته تجاهها تتلقاها بصدر رحب، سخية بالأعذار له من حمول الدنيا والمآسي التي يواجهها بمفرده." (ص 69).
الباب التالي يبحث بين جدران "البيت" عن المأمن والسكينة، لكن هل هذه حقيقة موجودة في كل بيت عربي يا ترى؟، تجيبنا المؤلفة عن ذلك في سطور غاية في الدقة والذكاء: "بداخل هذا الكيان المتهالك تصبح المناقشات عبارة عن جلسات من الحالات الدفاعية العدائية بين الطرفين.. فكلاهما متحفز للآخر على أهبة الاستعداد لتصفيته فورا وإلقاء اللوم عليه والتخلص من أي ذنب أو تقصير قد يلقيه الآخر كي يبرئ ذمته من هلاك تلك المنظومة..." (ص 73). كما تعمل المبدعة نعمان على الإشارة إلى بعض المؤشرات الهامة التي تطلق جرس الإنذار ويجدر تجنبها قبل فوات الأوان، وعلى سبيل المثال نذكر ما يلي: "انعدام الثقة: الشك المستمر في عدم ولاء الطرف الآخر، وعدم القدرة على الاعتماد عليه أو الثقة به في أي جانب من جوانب الحياة يعطي شعورا بالتوتر المستمر وعدم الأمان! لذلك إن كان أي منكما لا يثق في الآخر لسبب من الأسباب، عليه أن يتحدث معه بالأمر ويخبره بما يجب أن يفعله ليعطيه شعورا أكبر بالثقة والأمان." (ص 79).
أما الباب السادس فجاء بصوت ضمير المتكلم "أنا" وما يشد انتباه القارئ بشكل مباشر تساءل طرحته نعمان وكلنا نطرحه في الكثير من المواقف: "طب أنا غلطتي فين؟!"، وغلطتنا جميعا كما تقول الكاتبة أننا نقع دائما في فخ التوقعات وذلك من خلال جملة من أحلام خيالية عبثية نغرسها بأيادينا في حقول الآخرين لكنها لا تحدد مساراتنا الشخصية بل هي مخاطرة خاسرة لأنها أساسا تعود لتخطيط أصحاب تلك الحقول ومنه نجد الحل في مثال ذكرته الكاتبة: "أهم شيء يجب أن تخلص في العمل عليه هو التواصل العقلي بينك وبين شريكك وإلا بواقي أجزاء الحياة تكون صريعة للتصدع." (ص 84).
من خلال جملة الأبواب الستة الأولى في "الكتاب الأسود" حاولت المبدعة المصرية نرمين نعمان إلقاء الضوء ببراعة على شخصية الإنسان الذي يريد أن يحافظ على ذاته، وعليه يجب أن يضبط التقاء تلك الصور الذهنية عند مواجهة الأحداث الخارجية في حياته، وليس مطلوبا منه ضبط تلك الأحداث الخارجية، لأنها غير قابلة للضبط على الإطلاق، ولكن علينا أن نضبط طريقة التفاعل معها حسب ما أوضحته المؤلفة. ومن الطبيعي أن نختلف كبشر في مشاعرنا تجاه كل مؤشر خارجي، فمنهم من يقوده انفعاله ويتصرف بطريقة قد تضره إما نفسيا أو عقليا أو جسديا، ومنهم من يفضل الهروب وكأنه وسيلة خلاصه من ما يطارده من مشاكل وهموم، ومنهم من يتروى في اختيار تلك الاستجابات السلوكية ليجد نفسه في طريق النجاة من متناقضات الحياة اليومية.
المصدر
(1) نرمين نعمان: الكتاب الأسود، الرواق للنشر والتوزيع، ط1، مايو 2015.
*كاتب صحفي جزائري
وسوم: العدد 643