منهج الخطيب القزويني في قراءة الشعر العربي

موجز بحث:

(منهج الخطيب القزويني في قراءة الشعر العربي)

الحمد لله وحده، وسلام على من لا نبي بعده.

وبعد: فقد كرمتني مشكورة دائرة الثقافة والإعلام بحكومة الشارقة بتوجيه الدعوة لي للمشاركة بورقة بحثية  في " ملتقى الشارقة للشعر العربي" في دورته الثامنة التي  ينظمها بيت الشعر في إمارة الشارقة برعاية دائرة الثقافة والإعلام بحكومة الشارقة حول "الرؤية البلاغية والأسلوبية في قراءة النص الشعري"...  ولدى قراءة الدعوة، وجدت نفسي مستجيبا كمن كان على موعد ينتظره، لأن هدفي الأسمى هو طلب المعرفة، لذا شمرت عن ساعد الجد، وبدأت رحلة البحث، واخترت أن يكون عنوان بحثي (منهج الخطيب القزويني في قراءة الشعر العربي). وهو يندرج ضمن عناصر المحور الأول: (الرؤية الأسلوبية في قراءة النص عند البلاغيين والنقاد العرب).

وقد تضمن بحثي العناصر الآتية:

-         مقدمــــة

تحدثت فيها عن فوائدالشعر، وواجبنا نحو الشعر، وسبب كتابة البحث.

-         تمهـــــيد

ذكرت فيه بعض الاصطلاحات البلاغية والنقدية.

-         المبحث الأول: البلاغة قبل الخطيب القزويني

 تحدثت فيه عن نشأة العلوم اللغوية، وسبب دراسة البلاغة، وعلاقة البلاغة بالإعجاز، وجهود العلماء في البحث حول البلاغة والإعجاز، وقد تضمن بعض الرسوم البيانية الإيضاحية.

-         المبحث الثاني: منهج الخطيب في تناول النصوص الشعرية وتحليلها

عني الخطيب القزويني بالتقعيد لمباحث البلاغة، وهو يتناول من الشواهد الشعرية ما يحقق تلك القاعدة، وذكرت أن من آثار مدرسة السكاكي نشوء مدرسة الخطيب القزويني الاتباعية، فقد قام الأخير بتلخيص كتاب: (مفتاح العلوم) للسكاكي، ويعد تلخيصه أفضل تلخيصات كتاب (مفتاح العلوم) وأشهرها، وهو لم يكن مجرد ملخص لمفتاح السكاكي، بل كانت له لمسات وإضافات، ولما كان التلخيص موجزاً، ويحتاج إلى شرح وتفصيل، فقد قام الخطيب القزويني بشرحه في كتابه المسمى: (إيضاح التلخيص)، وعرفت بمنهجه في الإيضاح، ثم ذكرت نماذج من شواهد الخطيب الشعرية في علوم البلاغة الثلاثة، وبينت طريقته في تحليلها.

-         المبحث الثالث: البلاغة بعد الخطيب القزويني

بينت أن التلخيص أصبح دستور المتأخرين في علم البلاغة، وقد تنوع اهتمام العلماء بالتلخيص، فمنهم من شرحه، ومنهم من نظمه، ومنهم من لخصه!!، وقد ذكرت أسماء عدد ممن شرحوا التلخيص، أو اختصروه، أو نظموه شعراً، ثم تحدثت عن انتشار التلخيص في الآفاق، فقد تنوعت بلدان الشارحين، مما يدل على انتشار التلخيص في المشرق والمغرب، ونوهت بما أضافه المتأخرون في علم البديع، وموقف النقاد من هذه الشروح وقيمتها العلمية... عرضت بعد ذلك كله لجمود البلاغة بعد الخطيب، وذلك لارتباطها بمنطق التقسيم  والتقعيد والتعقيد والفلسفة!!.

-         الخاتمة

وقد ذكرت فيها خلاصة التجربة القزوينية، ونتائج البحث

أما في التجربة القزوينية فذكرت أن الخطيب القزويني كان منشغلاً بالتقعيد للدرس البلاغي، وفي مناقشة السكاكي في بعض المسائل العلمية، ولم يكن له قدرة عبد القاهر وخياله في التحليل، ولا منهج السكاكي الصارم في التقعيد والتبويب، بل كان وسطاً بينهما، لم يشغله في النصوص التي أوردها إلا ما يخدم مباحث البلاغة، وتحليله مقتضب في الغالب. وبينت أن التجربة القزوينية بنت وقتها، تصلح في تعليم البلاغة في زمانها وما أعقبه من عصور انحطاط وتقهقر حضاري، ولكن الزمان قد تجاوزها في العصر الحديث!.

وضمن نتائج البحث ذكرت أهم المآخذ على البلاغة لدى مجموعة من الباحثين، وهي:

1-    قصور البحث البلاغي على الجملة أو البيت من الشعر دون النص.

2-    إن البلاغة القديمة لا تغطي مباحث علم الأسلوب.

3-    أدخلت غايات على البلاغة خارجة عن وظيفتها الأساسية.

4-    امتزاج البلاغة بالمباحث الفلسفية.

 وبينت أن هناك من دافع عن البلاغة، وحاول أن يفند الدعاوى السابقة بحق البلاغة، وذكرت أن الموقف العلمي السليم هو أن ننظر إلى العلوم بعامة، ومنها البلاغة، على أنها تنمو وتتطور عبر التاريخ...

عقب ذلك ذكرت بعض المآخذ التي لمسناها في دراستنا للبلاغة، منها:  تداخل المباحث بين المعاني والبديع والبيان، وتداخل المصطلحات البلاغية، وضبابية التعريفات، وأن مقتضى الحال يحتاج إعادة نظر وتطوير، وأن تقسيم مباحث البلاغة على ثلاثة علوم، يقصد منه تنظيم هذا العلم للدارسين، وأن البلاغة المصرية التي تمزج العلوم الثلاثة تحت مسمى البيان

أعقبت ذلك بذكر التوصيات، وهي:

أ‌- لا بد أن يستفيد علم البلاغة مما وصل إليه الفكر البلاغي من تقدم في أبحاثه عند الأمم الأخرى.

ب- لابد أن تكون البلاغة مستوى ضمن مستويات تحليل النص الأدبي..

ج- لا بد من إعادة الاعتبار للغة العربية وعلومها إذا أردنا أن يكون لهذه الأمة مستقبلا مشرقا تحت الشمس!

والحمد لله رب العالمين.

المقدمـــــــــــــــــــــــــــــة

الحمد لله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجعل اللسان العربي أشرف لسان، وجمع صفوة البيان العربي في هذا القرآن، وجعله تذكرة للإنس والجان، فله الثناء كله فهو الحنان المنان.

والصلاة والسلام على النبي العدنان، الذي هدانا للحق والإيمان، بما آتاه الله من قوة الحجة وعذب البيان، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.

وبعد: فإن الشعر هو ديوان العرب كما قال ابن عباس[2]

ومن فوائد الشعر حل عقدة اللسان، وتشجيع قلب الجبان، وتزكية الأخلاق، وتربية الأذواق، وتخليد مآثر السابقين والرموز في كل أمة، وهو وسيلة للتقارب الاجتماعي ودفع الأذى، قال عمر رضي الله عنه: "نعم ما تعلمته العرب البيات من الشعر يقدمها الرجل أمام حاجته؛ فيستنزل بها الكريم. ويستعطف بها اللئيم"[4].

واجبنا نحو الشعر

ولذلك كان الاحتفاء بالشعر وعلومه من واجبات الأمة العربية التي يشكل هذا الشعر تاريخها وهويتها واعتزازها وتطلعاتها، فهو وعاء آلامها وآلامها... ولما كانت دولة الإمارات العربية المتحدة سباقة في ميادين شتى ومنها ميدان الثقافة والعلوم، فقد أقامت في ربوعها بيتاً للشعر، في إمارة الشارقة التي هي ملاذ للعلم والمعرفة، وبيت عريق من بيوت العلم والأدب.

أكرم بشــــــــــــــارقة للعلم والأدب

في حضنها يلتقي المصري بالحلبي

إمارة رفعـــــــــــــــت بالعلم كاهلها

فأصبحت جوهـــــراً كالقلب للعرب

*        *        *

سبب كتابة البحث

وقد كرمتني مشكورة دائرة الثقافة والإعلام بحكومة الشارقة بتوجيه الدعوة لي للمشاركة بورقة بحثية  في " ملتقى الشارقة للشعر العربي" في دورته الثامنة التي  ينظمها بيت الشعر في إمارة الشارقة برعاية دائرة الثقافة والإعلام بحكومة الشارقة حول "الرؤية البلاغية والأسلوبية في قراءة النص الشعري"  وهو يتضمن المحاور الآتية:

-         الرؤية الأسلوبية في قراءة النص عند البلاغيين والنقاد العرب .

-         مقومات عمود الشعر الأسلوبية, مقاربة منهجية في قراءة النص الشعري .

-         مستويات بنية النص الأسلوبية .

المستوى الصوتي المستوى التركيبي المستوى الدلالي

-         الأسلوبية وتأويل النص ...

-         قراءات أسلوبية ...

...

ولدى قراءة الدعوة، وجدت نفسي مستجيبا كمن كان على موعد ينتظره، لأن هدفي الأسمى هو طلب المعرفة، لذا شمرت عن ساعد الجد، وبدأت رحلة البحث، واخترت أن يكون عنوان بحثي (منهج الخطيب القزويني في قراءة الشعر العربي). وهو يندرج ضمن عناصر المحور الأول: (الرؤية الأسلوبية في قراءة النص عند البلاغيين والنقاد العرب)

وقد تضمن بحثي العناصر الآتية:

-         تمهـــــيد

ذكرت فيه بعض الاصطلاحات البلاغية والنقدية.

-         المبحث الأول: البلاغة قبل الخطيب القزويني

 تحدثت فيه عن نشأة العلوم اللغوية، وسبب دراسة البلاغة، وعلاقة البلاغة بالإعجاز، وجهود العلماء في البحث حول البلاغة والإعجاز، وقد تضمن بعض الرسوم البيانية الإيضاحية.

-         المبحث الثاني: منهج الخطيب في تناول النصوص الشعرية وتحليلها

عني الخطيب القزويني بالتقعيد لمباحث البلاغة، وهو يتناول من الشواهد الشعرية ما يحقق تلك القاعدة، وذكرت أن من آثار مدرسة السكاكي نشوء مدرسة الخطيب القزويني الاتباعية، فقد قام الأخير بتلخيص كتاب: (مفتاح العلوم) للسكاكي، ويعد تلخيصه أفضل تلخيصات كتاب (مفتاح العلوم) وأشهرها، وهو لم يكن مجرد ملخص لمفتاح السكاكي، بل كانت له لمسات وإضافات، ولما كان التلخيص موجزاً، ويحتاج إلى شرح وتفصيل، فقد قام الخطيب القزويني بشرحه في كتابه المسمى: (إيضاح التلخيص)، وعرفت بمنهجه في الإيضاح، ثم ذكرت نماذج من شواهد الخطيب الشعرية في علوم البلاغة الثلاثة، وبينت طريقته في تحليلها.

-         المبحث الثالث: البلاغة بعد الخطيب القزويني

بينت أن التلخيص أصبح دستور المتأخرين في علم البلاغة، وقد تنوع اهتمام العلماء بالتلخيص، فمنهم من شرحه، ومنهم من نظمه، ومنهم من لخصه!!، وقد ذكرت أسماء عدد ممن شرحوا التلخيص، أو اختصروه، أو نظموه شعراً، ثم تحدثت عن انتشار التلخيص في الآفاق، فقد تنوعت بلدان الشارحين، مما يدل على انتشار التلخيص في المشرق والمغرب، ونوهت بما أضافه المتأخرون في علم البديع، وموقف النقاد من هذه الشروح وقيمتها العلمية... عرضت بعد ذلك كله لجمود البلاغة بعد الخطيب، وذلك لارتباطها بمنطق التقسيم  والتقعيد والتعقيد والفلسفة!!.

-         الخاتمة

وقد ذكرت فيها خلاصة التجربة القزوينية، ونتائج البحث

وعليه فيكون هذا البحث مكوناً من تمهيد وثلاثة مباحث وخاتمة.

*        *        *

وفي الختام أود أن أشير إلى أن موضوع هذا الملتقى كبير جداً، ضارب في أعماق التاريخ، متمدد في أرجاء الواقع، وفيه من الآراء الكثيرة ما لايعد ولا يحصى، لأن النقد قائم على الذوق، والذوق يتفاوت ويختلف، وهو يطلب القيم

الجمالية التي هي بدورها أيضا مختلفة من جيل لآخر ومن مكان لمكان، ومن أمة لأخرى، وقد أشار إلى ذلك وِلْ دْيورانت فقال: (إن في الجمال آراء بقدر مافي العالم من رؤوس، وكل محب للجمال يعتبر نفسه حجة في هذا الموضوع لامرد لرأيه).[6]

ويبين العلامة ابن خلدون وجه تسمية هذه الملكة بالذوق، فيقول: (واستعيرَ لهذه الملكةِ عندما ترسَخُ وتستقر اسمُ الذوق، الذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان، وإنما هو موضوع لإدراك المطعوم، لكن لما كان محلُّ هذه الملكة في اللسان، من حيثُ النطقُ بالكلام، كما هو محلٌّ لإدراكِ المطعوم، استعير لها اسمُهُ، وأيضاً فهو وِجدانيُّ اللسان، كما أن الطُّعومَ محسوسة له، فقيلَ له ذوقٌ).[8]

وذكر الأستاذان مجدي وهبة وكامل المهندس تعريفات للذوق منها:

(- قدرة الإنسان على التفاعل مع القيم الجمالية في الأشياء، وخاصة في الأعمال الفنية.

 - نظام الإيثار لمجموعة محددة من القيم الجمالية نتيجة لتفاعل الإنسان معها).[10].

الكلام الفصيح:

"خلوصه من ضعف التأليف، وتنافر الكلمات، والتعقيد، مع فصاحتها"[12].

البلاغة:

لغة: الوصول والانتهاء.

البلاغة في الكلام:

)مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته([14].

مقتضى الحال:

هو الاعتبار المناسب[16].

علم البيان:

 (هو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة)[18].

*        *        *

المبحث الأول:

 البلاغة قبل الخطيب القزويني

يجدر بنا قبل البدء في الحديث عن البلاغة، أن نذكر مقدمة حول اللغة وعلومها، تكون توطئة للحديث عن البلاغة وتاريخها، ومدرسة الخطيب القزويني البلاغية ومنهجها في قراءة الشعر العربي.

إن اللغة العربية أشرف اللغات، نزل القرآن بها، وبعث النبي الخاتم على أرضها، وجعل الله الكعبة البيت الحرام في ربوع بلادها، فهي من مقومات بقاء الأمة، ومن أبرز معالمها الثقافية والحضارية على مر التاريخ.

وعلوم هذه اللغة كما ذكر أهل العلم هي  "ثلاثة عشر علماً: الصرف والإعراب ويجمعهما اسم النحو، والرسم، والمعاني، والبيان، والبديع، والعروض، والقوافي، وقرض الشعر، والإنشاء، والخطابة، وتاريخ الأدب، ومتن اللغة"clip_image002_662da.jpg

مخطط يمثل اللغة العربية وعلومها وتطور تلك العلوم

لماذا ندرس البلاغة:

ندرس البلاغة لأسباب منها:

1-    لأنها هي الوسيلة للحكم على النصوص الأدبية.

2-    لتنمية الذوق الأدبي والنقدي.

3-    لتطوير المهارات الأسلوبية لدى الناطقين باللغة العربية.

4-    للتواصل مع تراثنا القديم وأدبنا المعاصر، ومعرفة ما فيه من قيم جمالية.

5-    لمعرفة إعجاز القرآن الكريم.

علاقة البلاغة بالإعجاز

جعل الله كتابه المنزل على سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ معجزةً باقيةً أبد الدهر، ووجوه إعجازه كثيرة منها: الإعجاز البياني، والإعجاز التشريعي، والإنباء بالغيوب الماضية والمستقبلة، والإعجاز العلمي، وغير ذلك..

والإعجاز البياني والأسلوبي هو أهمها وأشهرها؛ وذلك أن  وجوه الإعجاز الأخرى هي وجوه مشتركة بين القرآن وبين الكتب السماوية المنزلة قبله، ووجودها فيه هو إعجاز لها وله، لأنه قد تضمنها، وهيمن عليها، ولكنه انفرد دونها بالإعجاز البياني والبلاغي الذي هو السحر الحلال: يأخذ العقول بجماله، ويبهر النفوس بعظمته، فسبحان من أنزله على عبده!، وجعل فضله على سائر الكلام كفضله على خلقه!.

جهود العلماء في البحث حول البلاغة والإعجاز

وقد هرع العلماء للبحث في وجوه الإعجاز بعامة، والإعجاز البياني على وجه الخصوص، فاقترن البحث بالإعجاز مع البحث البلاغي، وكان أول من تصدى لذلك الجاحظ في كتبه، وبخاصة كتابيه: نظم القرآن، والبيان والتبيين، ثم تبعه العلماء بالبحث، وكان ابرزهم  الباقلاني صاحب كتاب إعجاز القرآن (ت403هـ)، وعبد القاهر الجرجاني صاحب كتاب أسرار البلاغة وكتاب دلائل الإعجاز (ت 471هـ)، والزمخشري صاحب تفسير الكشاف والذي طبق قواعد البلاغة التي ذكرها عبد القاهر من خلال تفسيره لآيات القرآن (ت 537هـ)، ثم جاء السكاكي فمخض زبدة ما قيل قبله في كتابه مفتاح العلوم (ت 626هـ)، وانتهت رئاسة هذا العلم إلى   الخطيب القزويني  (ت739هـ) الذي لخص كتاب مفتاح العلوم في كتابه: تلخيص المفتاح، ثم شرح التلخيص في كتابه الإيضاح.

وبين هؤلاء العلماء أعلام كثر، لم نذكرهم اختصاراً للوقت، وقد فصلت القول في هذا الموضوع ضمن كتابي: (مباحث في البلاغة وإعجاز القرآن) واكتفيت هنا بذكر أئمة هذا العلم، وفيما يلي مخطط موجز يوضح ما ذكرناه:

clip_image004_fd3bc.jpg

مخطط يوضح تأسيس البلاغة العربية وتطورها

لقد انتهت رئاسة علم البلاغة إلى الخطيب القزويني الذي قام بوضع تلخيصه الشهير لمفتاح السكاكي[21] الاتباعية، فقد قام الأخير بتلخيص كتاب: (مفتاح العلوم) للسكاكي، وقال في مقدمة تلخيصه: "أما بعد: فلما كان علم البلاغة وتوابعها من أجل العلوم قدرا، وأدقها سرا، إذ به تعرف دقائق العربية وأسرارها، وتُكشف عن وجوه الإعجاز في نظم القرآن أستارها، وكان القسم الثالث من (مفتاح العلوم) الذي صنفه الفاضل العلامة أبو يعقوب السكاكي: أعظم ما صنف فيه من الكتب المشهورة نفعا، لكونه أحسنها ترتيبا، وأتمها تحريرا، وأكثرها للأصول جمعا، ولكن كان غير مصون عن الحشو والتطويل والتعقيد، قابلا للاختصار، مفتقرا إلى الإيضاح والتجريد، ألفتُ مختصرا يتضمن ما فيه من القواعد، ويشتمل على ما يُحتاج إليه من الأمثلة والشواهد، ولم آل جهدا في تحقيقه وتهذيبه، ورتبته ترتيبا أقرب متناولا من ترتيبه، ولم أبالغ في اختصار لفظه تقريبا لتعاطيه، وطلبا لتسهيل فهمه على طالبيه، وأضفت إلى ذلك فوائد عثرت في بعض كتب القوم عليها، وزوائد لم أظفر في كلام أحد بالتصريح بها ولا الإشارة إليها، وسميته: (تلخيص المفتاح)"[23].

ثالثا: ولم يكن القزويني مجرد ملخص لمفتاح السكاكي، بل كانت له لمسات وإضافات، يقول الدكتور شوقي ضيف: "وأهم من نزعوا عن قوس السكاكي الخطيب القزويني، فإنه صنف تلخيصا دقيقا لمباحثه البلاغية في المفتاح، ذلل فيه صعوبته تذليلا، مع الاستضاءة بتلخيص بدر الدين بن مالك وبآراء عبد القاهر والزمخشري، وهو يناقش الآخرين كثيرا، أما السكاكي فيخصه بكثير من الاعتراضات على تعاريفه وبعض آرائه، ورأى في هذا التلخيص إجمالا أكثر مما ينبغي فصنف كتابه: (الإيضاح) يبسط فيه معانيه المجملة وقضاياه المشكلة"[25].

ب – ناقشَ القزوينيُّ  آراءَ السكاكي في كثير من المواضع، من ذلك:

ب-1-  تعريف علم المعاني: فقد عرفه الخطيب بأنه: "علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يُطابق مقتضى الحال". ونقل تعريف السكاكي، وهو: "تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة، وما يتصل بها من الاستحسان وغيره، ليحترز بالوقوف عليها من الخطأ، في تطبيق الكلام على ما تقتضي الحال ذكره".

ويعلق الخطيب القزويني على هذا التعريف قائلا: "وفيه نظر، إذ التتبع ليس بعلم، ولا صادق عليه، فلا يصح تعريف شيء من العلوم به.

ثم قال ـ أي السكاكي ـ : (وأعني بالتراكيب تراكيب البلغاء).

ولا شك أن معرفة البليغ، من حيث هو بليغ متوقفة على معرفة البلاغة، وقد عرفها في كتابه بقوله: (البلاغة هي: بلوغ المتكلم في تأدية المعنى حدا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها).

فإن أراد بالتراكيب في حد البلاغة تراكيب البلغاء ـ وهو الظاهر ـ فقد جاء الدور، وإن أراد غيرها فلم يبينه، على أن قوله: (وغيره) مبهم لم يبين مراده"[27]، وجعل نسبة الهزم إليه قرينة للاستعارة)".[29].

وأن يتوقف جواز التركيب في نحو قولهم: (أنبت الربيع البقل، وسرني رؤيتك) على الإذن الشرعي، لأن أسماء الله تعالى توقيفية.

وكل ذلك منتف ظاهر الانتفاء"[31].

ويبين في النهاية أنه خالف السكاكي في وضع المجاز العقلي أيضا، فالسكاكي ساقه في مباحث علم البيان، والخطيب القزويني ساقه ضمن مباحث علم المعاني، لأنه يتعلق بالإسناد، والإسناد من مباحث علم المعاني، يقول: "تنبيه: إنما لم نورد الكلام في الحقيقة والمجاز العقليين في علم البيان، كما فعل السكاكي ومن تبعه، لدخوله في تعريف علم المعاني، دون تعريف علم البيان"[33].

ب-4- ومن الأمور التي ناقشه فيها: تقسيم المجاز، قال: "ومنها: أنه قسم المجاز إلى الاستعارة وغيرها، وعرف الاستعارة: بـ: (أن تذكر أحدَ طرفي التشبيه وتريد به الطرف الآخر، مدعياً دخول المشبه في جنس المشبه به). وقسم الاستعارة إلى المصرح بها، والمكني عنها، وعنى بالمصرح بها: أن يكون المذكور من طرفي التشبيه هو المشبه به. وجعلها ثلاثة أضرب: تحقيقية، وتخييلية، ومحتملة للتحقيق والتخييل، وفسر التحقيقية بما مر، وعد التمثيل على سبيل الاستعارة منها.

وفيه نظر؛ لأن التمثيل على سبيل الاستعارة لا يكون إلا مركبا كما سبق، فكيف يكون قسماً من المجاز المفرد؟! ولو لم يقيد الاستعارة بالإفراد، وعرفها بالمجاز الذي أُريد به ما شُبِّه بمعناه الأصلي مبالغة في التشبيه، دخل كل من التحقيقية والتمثيل في تعريف الاستعارة"[35].

د- جعل علم البديع علما مستقلا قائما بذاته، وعرفه بأنه: "علم يعرف به وجوه تحسين الكلام، بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال، ووضوح الدلالة"[37]. وقال عند خاتمة علم البيان: "وإذ  قد تقرر أن البلاغة بمرجعيها، وأن الفصاحة بنوعيها، مما يكسو الكلام حلة التزيين، ويرقيه أعلى درجات التحسين، فهاهنا وجوه مخصوصة كثيرا ما يصار إليها لقصد تحسين الكلام، فلا علينا أن نشير إلى الأعرف منها، وهي قسمان: قسم يرجع إلى المعنى، وقسم يرجع إلى اللفظ، فمن القسم الأول: المطابقة"[39].  

خامساً: نقدم فيما يأتي نماذج من شواهد الخطيب الشعرية

أ – في حديثه عن تعريف المسند إليه بالموصولية، ذكر من مواضع مجيئه: "أو تنبيه المخاطب على خطأ، نحو:

إن الذين ترونهم إخوانكـــــــــــم

يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا

أو للإيماء إلى وجه بناء الخبر، نحو:  (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) [غافر: 60]، ثم إنه ربما جعل ذريعة إلى لتعريض بالتعظيم لشأنه، نحو:

إن الذي سمك السماء بنى لنا

 

 

بيتاً دعائمه أعز وأطول

 

أوشأن غيره، نحو:  (الذين كذبوا شعيباً هم الخاسرين)  [الأعراف: 92]. 

وانتقل للتعريف "بالإشــارة لتمييزه أكمل تمييز، نحو قوله:

هذا أبــو الصقر فرداً في محاسنه

 

أو التعريض بغباوة السامع، كقوله[41] حين نورا

 

من الهيئة الحاصلة من تقارن الصور البيض المستديرة، الصغار المقاديرِ في المرأى على الكيفية المخصوصة إلى المقدار المخصوص.

وفيما طرفاه مركبان كما في قول بشـار:

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا

 

 

وأسيافنا، ليل تهاوى كواكبه

 

من الهيئة الحاصلة من هُوِيِّ أجرام مشرفة مستطيلة متناسبة المقدار، متفرقة في جوانب شيء مظلم"[43]:

قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم

 

 

أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا

 

سجية تلك منهم غير محدثة

 

 

إن الخلائق فاعلم شرها البدع

 

د- وفي حديثه عن رد العجز على الصدر، قال: " وفي النظم أن يكون أحدهما في آخر البيت والآخر في صدر المصراع الأول، أو آخره، أو في صدر الثاني، كقوله [45].

ومثل هذا التحليل مقتبس من كلام عبد القاهر[47]، ولم يحلل أية قصيدة  تحليلا كاملا، ولم ينسب الشواهد الشعرية لأصحابها، بل ربما لم يوضح موضع الشاهد في البيت الشعري، مما حدا بالشيخ عبد الرحيم العباسي أن يضع كتابه: (معاهد التنصيص على شواهد التلخيص)، وقد قال في مقدمته: "وفيه من الشواهد الشعرية ما يُعزى للأقدمين، وما يُنسب للمولدين، إلا أن أكثرها مجهول الأنساب مغفول الأحساب... ولم أر من عمل على تلك الشواهد شرحاً يشفي العليل أو يروي الغليل"[49]

1-      الخطيب القزويني نفسه في كتاب (إيضاح التلخيص)، وسنفصل الحديث عنه في نهاية هذا المبحث.

2-      محمد بن مظفر الخلخالي (ت745هـ)، وضع له شرحا سماه: (مفتاح تلخيص المفتاح).

3-      أحمد بن علي بن عبد الكافي السبكي والملقب بهاء الدين (ت 773هـ)، وضع له شرحا سماه (عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح).

4-      محمد بن يوسف المعروف بابن ناظر الجيش (ت778هـ) وسمى شرحه: (شرح تلخيص القزويني).

5-      محمد البايرتي (ت 786هـ) وسمى شرحه: (شرح تلخيص المفتاح للقزويني).

6-      شمس الدين القونوي (ت788هـ) وسمى شرحه: (شرح تلخيص المفتاح للقزويني).

7-      سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني، (ت792هـ) وضع له شرحين: الشرح الكبير وسماه: (المطول)، والشرح الصغير للتلخيص وسماه: (المختصر)، والحواشي على المطول كثيرة، وعنه يقول الدكتور شوقي ضيف: "وعد القدماء هذا الشرح خير شروح التلخيص، وعني كثيرون بوضع الحواشي عليه وفي مقدمتهم تلميذه السيد الشريف الجرجاني المتوفى سنة (816هـ)، وهو يعنى في حاشيته بإيراد اعتراضات كثيرة على كلام أستاذه، مع التغلغل في المباحث المنطقية والفلسفية والكلامية... ومن حواشي المطول حاشية محمد بن حمزة الفناري المتوفى سنة (834هـ)، وهو من علماء الأناضول، وحاشية عبد الحكيم بن شمس الدين السيالكوتي الهندي المتوفى سنة (1067هـ)، وهي مطبوعة في الآستانة، وعمد التفتازاني إلى وضع مختصر لشرحه المطول، وللشيخ محمد الدسوقي المصري المتوفى سنة 1230هـ حاشية مطولة عليه"[51] على السعد التفتازاني من الحواشي المتأخرة، وقد طبعت مع شروح التلخيص الشهيرة.

8-      عبد الرحيم بن أحمد العباسي، (ت 963هـ) وقد شرح شواهد التلخيص في كتاب سماه: (معاهد التنصيص على شواهد التلخيص).

9-      عصام الدين بن إبراهيم بن محمد عربشاه الإسفراييني المتوفى بسمرقند حوالي منتصف القرن العاشر الهجري، وقد "سماه: (الأطول)، وهو حقا أطول من مطول التفتازاني، ونراه في مقدمته ينوه بالسعد التفتازاني، وبالسيد الشريف الجرجاني لا في حاشيته فقط على المطول، بل أيضا في شرحه للمفتاح" ابن يعقوب المغربي (ت1110هـ) وضع له شرحا سماه: (مواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح).

وممن نظموه شعرا:

1-      زين الدين بن أبي العز طاهر بن حسن الحلبي، (ت808هـ) وسماه (التخليص في نظم التلخيص).

2-      زين الدين عبد الرحمن بن أبي بكر المعروف بالعيني، (ت893هـ).

3-      السيوطي (ت 911هـ)، وسمى نظمه: (عقود الجمان في المعاني والبيان)، ثم عاد وشرحه في كتاب سماه (حل عقود الجمان)

4-      عبد الرحمن الأخضري، وسمى نظمه: (الجوهر المكنون في الثلاثة فنون).

وممن قام باختصاره:

1-      شهاب الدين أحمد بن محمد المعروف بالصاحب، (ت 788هـ)، وسماه: (لطيف المعاني).

2-      المولى لطف الله بن حسن التوقاني المتوفى شهيدا (900هـ)، وسماه: (تلخيص التلخيص).

3-      عز الدين بن جماعة (ت819)، وسماه: (تلخيص التلخيص).

4-      زين الدين عبد الرحمن بن أبي بكر المعروف بالعيني، (ت893هـ)، وسماه: (تحفة المُعاني لعلم المعاني).

5-      أبرويز الرومي (ت987هـ)، وسماه: (تلخيص التلخيص) أيضا.

6-      خضر بن محمد مفتي أماسية (ت بعد 1060هـ)، وسمى تلخيصه: (أنبوب البلاغة)، ثم شرحه وسماه: (الإفاضة لأنبوب البلاغة).

7-      زكريا الأنصاري.

رحم الله أولئك العلماء، وأدخلهم فسيح جناته.

*        *        *

انتشار التلخيص في الآفاق:

وقد تنوعت بلدان الشارحين، مما يدل على انتشار التلخيص في المشرق والمغرب، وعلى الرغم من جمود تلك الشروح فلا يخلو بعضها من إضافات؛ كما هو الحال عند السبكي والتفتازاني، يقول الدكتور شوقي ضيف: "وأقبل شراح مختلفون على التلخيص يشرحونه، بين مصري وإيراني ومغربي، ومن أهمهم: السبكي المصري، وسعد الدين التفتازاني، وابن عرب شاه الإسفراييني، وابن يعقوب المغربي، وكتبت على بعض الشروح حواش للسيد الشريف الجرجاني، والشيخ محمد الدسوقي، وجميعها تخوض في مباحث منطقية وفلسفية وكلامية، وأصولية ونحوية، ومناقشات لفظية، وكل يعيد ما قاله سالفه إعادة تصور ما ساد في المباحث البلاغية من عقم وجمود"[54].

موقف النقاد من هذه الشروح:

وعن قيمة هذه الأعمال التي قامت حول التلخيص يقول الدكتور عبد العزيز عتيق: "وتلك الشروح والتلخيصات والمنظومات، إن دلت على شيء؛ فعلى جمود الفكر البلاغي وعقمه منذ عصر السكاكي، نقول ذلك لأن كل ما ظهر من شروح وتلخيصات لكتاب: (المفتاح) لا تخرج عن كونها ترديدا وتكرارا لمادته، ومحاولات قصد بها الإيضاح بالشرح أو التقريب والتبسيط، عن طريق الإيجاز والتلخيص والنظم، وإذا هي من حيث لا يريد ولا يدري أصحابها؛ قد زادت المفتاح صعوبة على صعوبة، وإنه ليخيل لمن يقرأ هذه الشروح والمتون أن واضعيها لم يكونوا علماء في البلاغة بقدر ما كانوا معلمين لها، يذكرون الكلمة أو العبارة من الأصل، ثم يتبعونها بشرح المراد منها، ولا يتجاوزون ذلك، كلهم في ذلك سواء"[56].

هكذا تحولت البلاغة إلى علم  جامد بعد الخطيب القزويني[58].

وقد كان  الخطيب القزويني منشغلاً بالتقعيد للدرس البلاغي، وفي مناقشة السكاكي في بعض المسائل العلمية، ولم يكن له قدرة عبد القاهر وخياله في التحليل، ولا منهج السكاكي الصارم في التقعيد والتبويب، بل كان وسطاً بينهما، لم يشغله في النصوص التي أوردها إلا ما يخدم مباحث البلاغة، وتحليله مقتضب في الغالب.

والتجربة القزوينية بنت وقتها، تصلح في تعليم البلاغة في زمانها وما أعقبه من عصور انحطاط وتقهقر حضاري، ولكن الزمان قد تجاوزها في العصر الحديث!.

*        *        *

وأما نتائج البحث، فنلحظ الآتي:

أولاً:  هنالك جدل علمي حول مآخذ على درس البلاغة العربية

هنالك فريق لديه بعض المآخذ على البحث البلاغي عند العرب، فهو قاصر وجزئي، مقارنة بالبلاغة الأوروبية حسب تصور الدكتور شوقي ضيف، وفي في هذا السياق يقول: "من يقرن مباحث البلاغة العربية إلى مباحث البلاغة الغربية؛ يلاحظ تواً أن الغربيين عنوا في بلاغتهم بدراسة الأساليب والفنون الأدبية، بينما لم يكد يعنى بهذه الجوانب أسلافنا، إذ صبوا عنايتهم على الكلمة والجملة والصورة، وفي رأينا أن ذلك يرجع من بعض الوجوه إلى أنهم قصدوا بقواعدهم البلاغية: تعليلَ بلاغة العبارة القرآنية، وما تحمل من خصائص تعبيرية وصور بيانية، واستوفوا تصوير ذلك تصويرا دقيقا رائعا، وأيضا من الأسباب التي دفعتهم في هذا الاتجاه طبيعة شعرنا القديم، إذ كان في جملته وجدانيا غنائيا، يجري في أسلوب عام واحد، سواء في معانيه، أو في صوره وأخيلته، وصيغ تعبيره. وتعارف الشعراء على أن كل بيت في القصيدة وحدة مستقلة، وهذه الوحدة هي أساس البلاغة والجمال الفني، وبذلك لم توجد في محيط الشعراء، ولا في محيط البلاغيين، نظرة شاملة عامة للقصيدة، بل ظلت نظرتهم تنصب على الجزئيات وأفراد الأبيات والعبارات"[60].

ويرى الأستاذ أمين الخولي[62].

ونستطيع أن نلخص مما سبق أهم المآخذ على البلاغة لدى مجموعة من الباحثين، وهي:

1-    قصور البحث البلاغي على الجملة أو البيت من الشعر دون النص.

2-    إن البلاغة القديمة لا تغطي مباحث علم الأسلوب.

3-    أدخلت غايات على البلاغة خارجة عن وظيفتها الأساسية.

4-    امتزاج البلاغة بالمباحث الفلسفية.

دفاع عن البلاغة:

وهناك فريق من الباحثين يفندون الدعاوى السابقة بحق البلاغة، فمثلا رد الدكتور فضل حسن عباس فكرة وقوف البلاغة عند الجملة، حيث قال في هذا الصدد:"ودعوى وقوف البيانيين عند الجملة وحدها دعوى ظالمة، أخذت دون روي أو تمحيص، روج لها شوقي ضيف في كثير من كتبه، فتلقفها الكثيرون"[64].

موقفنا من الفريقين

والموقف العلمي السليم أن ننظر إلى العلوم بعامة، ومنها البلاغة، على أنها تنمو وتتطور عبر التاريخ، فلا نقدس التراث كما يعمل سدنته، ولا نرميه في البحر كما يريد أعداؤه، ولكن ننظر إليه بعين فاحصة، ونعطي للأوائل حقهم من السبق والتأسيس والتمهيد للعلوم، ونسمح للمتأخرين بتطوير ما شيده الأوائل، وإكماله لا هدمه ... ونحن نؤمن بتطور العلوم عبر التاريخ، ونرفض نظرية الصراع بين القديم والجديد في تاريخ العلوم، كما نؤمن بوحدة الثقافة الإنسانية والتراث الإنساني، فلا ضير من التأثير والتأثر، شريطة أن لا نجور في أحكامنا النقدية، فنعزو كل إبداع إلى التأثر بالآخرين، متناسين دور العبقرية الإنسانية في التوليد والتجديد والاختراع.

*        *        *

ثانياُ: بعض المآخذ التي لمسناها في دراستنا للبلاغة:

إضافة إلى ما ذكرناه من  سلبيات في دراستنا للبلاغة العربية من إهمال خصائص النص، والعناية بالشاهد وحده، فقد لمسنا بعض السلبيات في جوانب أخرى منها:

أ- تداخل المباحث بين المعاني والبديع والبيان، فمثلاً المجاز العقلي هو من مباحث علم المعاني عند الخطيب القزويني، ذكره عقب حديثه عن الخبر[66]، وقد جرى المعاصرون على دراسة المجاز العقلي ضمن مباحث علم البيان.

ونلحظ أن بعض مباحث البديع درسها الخطيب في علم المعاني ضمن مبحث الإطناب[68]، واستشهد له بقول طرفة:

فسقى دياركِ غير مفسدها

صوب الربيع وديمة تهمي

ب- تداخل المصطلحات البلاغية، فهنالك بعض المصطلحات لم يستقر لها حال، ففي حديث الخطيب عن الاعتراض شرط أن يكون في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى، ثم قال: "جوز بعضهم وقوعَه آخرَ جملةٍ، لا تليها جملةٌ متصلة بها، فيشملُ التذييلَ، وبعض صور التكميل، وبعضهم كونه غيرَ جملةٍ فيشملُ بعض صور التتميم والتكميلِ"[70]

وكثرة  التقسيمات عملية عقلية رياضية متكلفة، ولا علاقة لها بالبلاغة أو الأدب، بل هي مما يثقل الدرس البلاغي، ويجعل الدارسين ينفرون منه.

د- ضبابية التعريفات، فمثلاً: عرف الخطيب البلاغة في الكلام: )مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته([72]. وعرف علم المعاني: )هو علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال([74].

و- لا بد أن نقر بأن إعجاز القرآن هو سر من أسراره، وما ذكر عن الإعجاز البلاغي  وغيره من الوجوه القرآنية المعجزة هي مجرد محاولات واجتهادات من العلماء لبيان الإعجاز، وأما الوجه الحقيقي للإعجاز فلا يعلمه إلا الله تعالى!، ولذلك ينبغي أن تنأى الدراسات البلاغية عن التكلف في ميدان الإعجاز، وعن الجزم بأنها تقدم حقائق علمية لا مجرد محاولات بشرية قابلة للصواب والخطأ؛ وهي محاولات في عمومها نرجو أن تكون مأجورة مشكورة في الدنيا والآخرة إن شاء الله تعالى!.

ز- أقحمت بعض المباحث اللغوية على علم البلاغة، وهي لا صلة  لها بها، فمثلا تقسيم لفظ الاستعارة  إلى أصلية وتبعية تبعاً للفظها من حيث هو جامد أو مشتق أمر يتعلق بعلم الصرف، ولا صلة    له بالبحث البلاغي.

ح ـ إن تقسيم مباحث البلاغة على ثلاثة علوم، يقصد منه تنظيم هذا العلم للدارسين، وأما عملية الإبداع فهي تكون دفعة واحدة، تتداخل فيها العلوم جميعاً مع الحوافز النفسية والدوافع  الواقعية في ولادة العمل الأدبي. ولم نسمع ان أديبا ألف قصيدته مثلا وفق علم المعاني، ثم أتبع التأليف بعلم البيان، ثم قام بإدخال المحسنات البديعية، بل ربما كانت بعض المحسنات أساسية في الكلام أكثر من بعض مباحث المعاني والبيان.

ولا بد أن نشيد هنا بمدرسة البلاغة المصرية التي تمزج العلوم الثلاثة تحت مسمى البيان اقتداء بما فعل ضياء الدين بن الأثير الجزري ـ وهو  عراقي من الجزيرة الفراتية ـ في المثل السائر، أو تحت مسمى البديع كما فعل ابن أبي الأصبع المصري في بديع القرآن وتحرير التحبير، وهذه المدرسة هي أقل تكلفا من الناحية المنهجية، وأقرب إلى فطرة العرب الذين يميلون إلى اليسر في الأمور، وأنسب للقارئ المعاصر الذي يضيق ذرعا بالتقعيد والتنظير، ويميل إلى السهولة في البحث.

وقد أدرك السابقون وجود ثغرات في هذا العلم، وأنه بحاجة إلى بذل مزيد من الجهود لبنائه وإصلاحه، ولذلك كان بعض المشايخ يقول: (العلوم ثلاثة علم نضج وما احترق وهو علم الأصول والنحو، وعلم لا نضج ولا احترق وهو علم البيان والتفسير، وعلم نضج واحترق وهو علم الفقه والحديث) [76].

ب- لابد أن تكون البلاغة مستوى ضمن مستويات تحليل النص الأدبي.. وهذه المستويات هي: المستوى الفكري،  المستوى اللغوي- والدلالي، المستوى النحوي والصرفي،  المستوى البلاغي،  المستوى النفسي-الشعوري، المستوى الشكلي.

ج- لا بد من إعادة الاعتبار للغة العربية وعلومها إذا أردنا أن يكون لهذه الأمة مستقبلا مشرقا تحت الشمس!

والحمد لله رب العالمين.

*        *        *

المصادر والمراجع:

1-    أسرار البلاغة، تحقيق هـ. ريتر، دار المسيرة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1403هـ/ 1983م.

2-    الأسلوب، أحمد الشايب، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، الطبعة الثامنة، 1990م.

3-    الأعلام للزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثامنة، 1989م.

4-    الإيضاح في علوم البلاغة، شرح د. محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الخامسة، 1403هـ/ 1983م.

5-    البلاغة تطور وتاريخ، د. شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، الطبعة السادسة.

6-     البلاغة فنونها وأفنانها، د. فضل حسن عباس، دار الفرقان، عمان، الطبعة الأولى، 1410هـ/1985م.

7-    البلاغة المفترى عليها بين الأصالة والتبعية ، د. فضل حسن عباس، دار النور، بيروت، الطبعة الأولى، 1410هـ/ 1989م.

8-    التلخيص في علوم البلاغة، شرحه عبد الرحمن البرقوقي، دار الفكر العربي.

9-    تلخيص المفتاح: علم المعاني والبديع، المنتدى الإسلامي، الشارقة، ط1، 1430هـ/ 2009م.

10-                       جامع الدروس العربية، للغلاييني، المكتبة العصرية بيروت، الطبعة (33).

11-                      شروح التلخيص، دار السرور، بيروت، (مصورة عن طبعة مصطفى البابي الحلبي).

12-                       علم البيان، د. عبد العزيز عتيق، دار النهضة العربية، بيروت، 1974م.

13-                       علم المعاني، د. عبد العزيز عتيق، دار النهضة العربية، بيروت.

14-                       العمدة في صناعة الشعر ونقده، ابن رشيق القيرواني، تحقيق د. مفيد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1403هـ/ 1983م.

15-                       فن القول، أمين الخولي، دار الفكر العربي، القاهرة، 1366هـ/ 1947م.

16-                       قصة الفلسفة من أفلاطون إلى جون دِيوي، حياة وآراء أعاظم رجال الفلسفة في العالم، وِلْ دْيورانت، ترجمة د. فتح الله محمد المشعشع، مكتبة المعارف، بيروت، ط4، 1402هـ/ 1982م.

17-                       كتاب دلائل الإعجاز، للجرجاني، تحقيق محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة.

18-                       - كتاب الصناعتين، للعسكري، تحقيق د. مفيد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ/ 1981م

19-                       كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، الحاج خليفة، دار العلوم الحديثة، بيروت.

20-                       مباحث في البلاغة وإعجاز القرآن الكريم، د. محمد رفعت زنجير، جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، ط1، 1428هـ/ 2007م.

21-                       معاهد التنصيص على شواهد التلخيص، للعباسي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، عالم الكتب، بيروت.

22-                       المعجم الأدبي، جبور عبد النور، دار العلم للملايين، ط2، 1984م.

23-                       معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مجدي وهبة وكامل المهندس، مكتبة لبنان، ط2، 1984م.

24-                       مفتاح العلوم، للسكاكي، المكتبة العلمية الجديدة، بيروت.

25-                       مقدمة ابن خلدون، دار القلم، بيروت، الطبعة الخامسة، 1974م.

26-                       المنثور في القواعد، للزركشي، تحقيق د. تيسير فاتق أحمد محمود، نشر: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية – الكويت، ط1، 1402هـ .

[2]  -  كتاب دلائل الإعجاز، ص (9).

[4]  -  العمدة في صناعة الشعر ونقده، لابن رشيق، ص (19).

[6] - مقدمة ابن خلدون، ص (562).

[8] - المعجم الأدبي، (ذوق).

[10] - التلخيص في علوم البلاغة، للقزويني، شرحه عبد الرحمن البرقوقي، دار الفكر العربي ص (24).

[12] - التلخيص في علوم البلاغة، للقزويني، ص (24).

[14] - التلخيص في علوم البلاغة، للقزويني، ص (32).

[16] - التلخيص في علوم البلاغة، للقزويني، ص (37).

[18] - التلخيص في علوم البلاغة، للقزويني، ص (347).

[20]  - اقتبسنا في هذه الفقرة مما أوردناه في مقدمتنا للتلخيص، انظر: تلخيص المفتاح: علم المعاني والبديع، ص (7-18)، المنتدى الإسلامي، الشارقة، ط1، 1430هـ/ 2009م.

[22]  - التلخيص في علوم البلاغة، ص(21-23).

[24]  - البلاغة تطور وتاريخ، ص (375).

[26]  -   المصدر السابق، (1/84-85).

[28]  -   المصدر السابق، (1/107).

[30]  -   المصدر السابق، (1/107-108).

[32]  -   المصدر السابق، (1/108).

[34]  -   المصدر السابق، (2/448).

[36]  -   المصدر السابق، (2/477)، وانظر أيضا: (1/83).

[38]  -   المصدر السابق ، ص(200).

[40] - التلخيص في علوم البلاغة، للقزويني، ص (59-62).

[42] - التلخيص في علوم البلاغة، للقزويني، ص (253-254).

[44] - التلخيص في علوم البلاغة، للقزويني، ص (393-397).

[46] - انظر: أسرار البلاغة، تحقيق ريتر، ص (144، 169).

[48] - معاهد التنصيص على شواهد التلخيص، (1/2).

[50]  - البلاغة تطور وتاريخ، ص (356-357).

[52]  - البلاغة تطور وتاريخ، ص (357).

[54]  - المرجع السابق، ص (375-376).

[56]  - البلاغة تطور وتاريخ، ص (358).

[58]  - شروح التلخيص (عروس الأفراح)، (1/4).

[60]  -  انظر: الأسلوب، ص(38-39)، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، الطبعة الثامنة، 1990م.

[62] - فن القول، ص (156)، دار الفكر العربي، القاهرة، 1366هـ/ 1947م.

[64] -  البلاغة فنونها وأفنانها، ص (1)، دار الفرقان، عمان، الطبعة الأولى، 1410هـ/1985م.

[66] - انظر: مفتاح العلوم، ص (185).

[68] - انظر: مفتاح العلوم، ص (202).

[70] - شروح التلخيص، (عروس الأفراح) (3/384-385).

[72] - التلخيص في علوم البلاغة، للقزويني، ص (35).

[74] - انظر: مراعاة مقتضى الحال في القرآن الكريم إحدى وجوه إعجازه، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة الكويت، العدد (59)، كانون الأول، 2004م.

[76]  - كتاب الصناعتين، تحقيق د. مفيد قميحة، ص (84) دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ/ 1981م.

وسوم: العدد 645