محبرة الخليقة (51)

تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 

النفد .. النقد .. النقد .. هذا ما يؤكّد عليه الشاعر ويعدّه مفتاح إعادة التوازن لكفتي ميزان الحياة المختلّتين ، وتخليص أبيضها من طغيان وتشويهات الأحمر والاسود ، وتفتيح الأخضر في مساحات روحها الجرداء . وهو يحذّر من النقد المداهن كما هو الحال في العملية الإبداعية ، فالنقد الذي لا يغيّر ويحرّر ، يجعل المؤلفين المناهضين للجمال أكثر شراسة وعنفاً (نصّ "النقد" – ص 1258 و1259) . وهذا الموقف النقدي المداهن أو الغائب (حتى جوزف حرب تأخّر تاريخياً في نقده) أو السكران بخمرة الشعر المغيّبة مسؤول إلى حدّ كبير عن استشراء شرور المتمسّحين بأردية الدين وانخذال المبدعين أمامهم حين انشغلوا بالغثيان والإستلاب والضياع في مدن الحديد ومدننا في الستينيات كانت قرى واسعة مبنيّة بالطابوق . والشاعر يطرح الإستعداد الروحي اللازم لعملية النقد الصحيحة :

(                 حينَ

                  اُصبحْ

                  ناقداً للنصذش ما بعدَ القراءاتِ ، ترانيْ

    لا أصلّي ، لا

                  أسبّحْ ،

                  آخذُ الأقلامَ لا الشمعةَ ،

         أُدنيْ

                  المحبرهْ ،

                  لا

                  المبخرهْ ،

                  وأُنقّحْ . – ص  1260 و1261) (نصّ "أدوات") .

إنّ هذا الموقف الجريء الذي لا يبخّر ويركع للنصوص المقدّسة ، الموقف الذي يستند إلى رؤيا محبرته الخاصة في تنقيح النصوص ، هو الموقف النقدي الحق الذي ينتج أفراداً لا قطعاناً .

ومن اشتراطات أصالة كل شيء في الحياة من مكوّنات الطبيعة والكون والحياة والإبداع .. من بيت العنكبوت إلى بيت الملكوت ، أنه سيفنى إن لم يكن فيه – حسب رأي الشاعر  - شيء يصلحُ للنقد ، فوجود شىء يصلح للنقد في كلّ ظاهرة يعني عدم اكتمالها الذي هو سرّ حياتها ، أمّا الكمال فهو سرّ موتها ، مثل الثمرة الناضجة الكاملة التي لا يبقى لها شيء سوى أن تسقط وتُحصد :

(كلُّ شيءٍ ليسَ يبقى منهُ ما يصلحُ للنقدِ يموتْ – ص 1263)(نصّ "موت") .

ولكن هناكَ "اكتمال" آخر يرفضه الشاعر هو "الإكتمال" المفتعل الذي يفرضه الكهّان ، وخصوصاً في موقفهم من الجسد الذي يميتون أخضر رغبته بصورة مبكرة ، ويحيلونه إلى لعنة يحملها الإنسان على كتفيه . إنهم "يكملونه" بالموت وهو حيّ . ووصيّة الشاعر هي أن يُخلِص الجسدُ – وكلّ شيء في هذا العالم – لحريّته التي يولد بها ، وأن يعبّ من أنهر اللذة :

(                   ألبسِ الكهّانَ قمصانَ ضريحٍ . وإلى

            اللذاتِ في ياقوتها

                    مدَّ يديكْ . (...)

                    وردةٌ يا جسدي أنتَ ،

                    ترنّحْ

                    في فضاءِ الرغبةِ ، امتصَّ

         سنيني ،

                    وتفتّحْ . – ص 1266 و1267) (نصّ "يا جسدي") .

لكن في كثير من الأحوال ، ومنها حال شاعرنا ، تكون شدة سخونة الوصايا الآمرة بالإنغمار في بحار اللذّة والتفتّح والترنّح ؛ تكون أيضاً تشكيلاً ضدّياً لمشاعر نازفة بالتحسّب من وشاكة الإنقطاع الجبري عن هذه اللذات ، ولهذا تأتي "البكائية" مشروعة في النص التالي ، وليست نغماً نشازاً أو مستهجنة . فالشاعر يتساءل عن سرّ أننا لم نزل رغم العصور نعيش كالطحين في فم الرحى ؛ رحىً لا يهدأ هديرها ، ولا تسمع منها جعجعة بل طحين أجساد آدمية مسكينة تُهرس بالملايين . وإذا كان الشاعر قد تحدّث في النص السابق عن "الإكتمال المفتعل" الذي تخصّص به الكهّان المنافقون ، فإنه يشكو في نصّ "البكائيّة" هذا مما يمكن أن نسمّيه بـ "الموت المصنّع‘" الذي يقابل الموت الطبيعي الذي قرّره الله . الموت المصنّع هو الموت الذي يتخصص به تجار الحروب وقادتها ولصوصها . في الحرب يقدّر الإنسان الموت على أخيه الإنسان .. ويصنّعه له بآلاف الأشكال الدمويّة ، في حين أن شكل الموت الطبيعي هو شكل واحد . في الموت الطبيعي يكون التسلسل طبيعيا ؛ ولادة ثم موت وقبور ، أمّا في الموت المصنّع فيتم تحضير الأكفان قبل الولادات :

(               لا عدلَ

                إلّا صارَ أعمى ! لا سلامٌ

لم تلاحقهُ الحروبُ .

                أيُّ دينٍ ألبسَ الإنسانَ

                من رحمتهِ البيضاءِ ؟

                ها قدْ ملأَ اليأسُ المرايا .

وأتتْ قبل الولاداتِ

                القبورُ . – ص 1269) .

ولكن هناك موتاً غير طبيعي من نوع آخر أكثر ضرورة للحياة هو – إذا ساغ الوصف – الموت على صليب المعرفة .. أو لنسمّه "الموتُ نقداً" كما يصوّره الشاعر في النص اللاحق "صليب المعرفة" (ص 1272 – 1275) حيث تكون هناك مسافة استشهادية – ليست على طريقة المتصوّفة – على العقل أن يقطعها بحثاً ليصل إلى الله ، برغم أن الله ليس مادة أو كياناً تجريبياً يخضع لطرق العلم والبحث . العقل يبحث ويصرّ على المعرفة ، ولا يستسلم مثل الدين الذي باستسلامه يزيد الضلال ولا يعزّز الإيمان :

(                نظرَ العقلُ إلى الغامضِ في

          الكونِ ، إلى ما هالهُ فيهِ ،

                    وما

                         قد حيّرهْ ،

                 ولكي يعرفَ

                 من قدْ دبّرهْ ،

                 ولكي يُدركَ

                 منْ قدْ سيّرهْ ،

                 حملَ العقلُ

                 صليبَ المعرفهْ ،

                 ومضى للهِ

                 كيْ يكتشفه . – ص 1274 و1275) . 

الله أيها الشعر الحقيقي . يا لروعتك حين تكون ذاتياً صرفاً تنبع من أعماق هذه الذات الحائرة المفزوعة من مصيرها الغامض والمؤكد في الوقت نفسه . فهي تموت هذا مؤكّد .. ولكن متى ؟ وإلى أين ؟ والأهم لماذا ؟ فهذا ما هو غامض ، وهذا هو الذي يجعل مَنْ قدّر هذه الأشياء غامضاً . ويهمني هنا أن أتوقف قليلاً عند شيء يكرّره الشاعر في "علمه" ويكاد يقرّبه من عمل العالِم في علمه . وقد يكون موقف الشاعر هذا ايضاً من الآثار الجانبية لمفاسد العلم . فلغتنا البشرية لا تصدق بحال على الله ، لأنّ الله ليس موضوعاً تجريبياً من موضوعات التجربة ، بل هو حقيقة خفية هيهات أن يرقى إليها خيال الشعراء أو أحلام الفلاسفة . وإذا كانت التوراة قديماً قد نهت بني اسرائيل عن تصوير الله أو تجسيمه أو تمثيله بأية صورة من الصور ، فما ذلك إلّا لأنها أرادت أن تعلم الناس أن أي رمز كائنا ما كان لا يمكن أن يجيء مكافئا للحقيقة الإلهية ، وأن الصور بكافة أنواعها إن هي إلا محض أساطير . والحق أننا إذا كنا نستطيع الحديث عن علاقة الإنسان بالطبيعة أو بالمجتمع فإننا لا نستطيع الحديث بالمثل عن علاقة الإنسان بالله . وإذن فليس يكفي أن نقول إن الله حقيقة خفية تفلت دائماً من طائلة بحثنا العقلي ، وتند باستمرار عن كل المحاولات اللاهوتية التي يراد من ورائها تحديد ماهيتها ، بل ينبغي أن نضيف إلى ذلك أن البرهنة على وجود الله أو العمل على استنباط الحقيقة الإلهية بالأدلة المنطقية قد تعادل في النهاية إنكار وجود الله . ولعل هذا هو ما عناه جبريل مارسيل حينما قال في "مذكراته الميتافيزيقية" بصريح العبارة : "إن العلم الإلهي إن هو إلّا الإلحاد بعينه" . وليس معنى هذا أن يكفّ العقل نهائيا عن استجلاء السر الإلهي ، أو أن يمتنع الفكر امتناعاً تاماً عن إلقاء بعض الأضواء على تلك الحقيقة المتعالية الخفية . بل كل ما هنالك أنه لا بدّ للفيلسوف أن يعلم ، حينما يتصدّى لوصف الله ، أن كل صفة تصدق على الإنسان لا يمكن أن تخص الله ، وأن كل صفة تصدق على الله لا يمكن أن تصدق على الإنسان . ومن هنا فقد قال بعضهم أن إله الفلاسفة إنما هو الفيلسوف نفسه حين يظن نفسه أنه قد اصبح إلهاً . وأمّا الإله الحقيقي فهو ذلك الذي لا وصف له سوى أنه لا يوصف . أو هو على الأصح ذلك الذي وصف نفسه لموسى قديماً فقال : "أنا هو من أنا" أو "أنا الموجود" وكفى . وربّما كان هذا هو ما أشار إليه التوحيدي حين قال : "وأما من أشار إلى الذات فقط بعقله البريء السليم ، من غير تورية بإسم ، ولا تحلية برسم ، مخلصاً مقدّساً ، فقد وفّى حقّ التوحيد بقدر الطاقة البشرية ، لأنه أثبت الإنّية ، ونفى الأينية والكيفية ، وعلاه عن كل فكر ورويّة" (94).

هذا لكي لا تنتقل إلى الشعر سموم العلم في هذه المعضلة الخطيرة ؛ العلم الذي جعل الإنسان يشعر بأنه "إله" يستطيع معرفة كل شيء فتحوّل إلى دين وغيب . في علم الشاعر وهو الأصح في هذا المجال يحمل العقل صليب المعرفة وينهك ويتجرّح وتدمى قدماه الأشواكُ بحثاً عن الله ، وإذا به يقابل شجرة اللوز التي قابلها كازنتزاكي مصادفة :

( قلتُ لشجرة اللوز :حدّثيني عن الله يا اختُ .. فأزهرت شجرة اللوز )

وناقدنا الأول والأعظم لم يتساءل عن ماهية خالقه ، بل مارس حريّته بإرادة واعية ورفض السجود . أمّا حين ينتقل إلى عذاب التساؤلات عن الماهية فلن يجد غير ضباب "الشك" الذي سيلفّه إلى الأبد . وهذه هي التساؤلات التي نقلها الشاعر على لسان "إبليس" وهو يسائل الله عن نهائيّته ويخلط بينه وبين إنكار السماء والجحيم والدينونة . فهذه سلسلة تساؤلات لم تحل ولن تحل ابداً (نصّ "الشك" – ص 1280 – 1283) . هي بالضبط الحالة التي تصرّ فيها السيّارة على أن تعرف هوية المهندس الذي صنعها . سيحتجّ الكثير من السادة القرّاء على موقفي هذا ، وسيقولون : إذن ما الذي يفعله العقل ؟ وما الذي قدّمه العلم من أدلة ؟ فأقول إن التعامل مع الله والتساؤل عنه هو مشكلة عقل شاعر وليس عقل عالم . ولندع الشاعر يقدّم لنا الدليل بعظمة لسانه كما يُقال في نصّ "كلُّ شيءٍ قيل" (ص 1284 -  1289) :

(                  لا شيءَ إلّا قيلَ منذ البدءِ ؟!

      فلنرجعْ إذنْ للعشبِ ،

                   والأمواجِ .

                                ولنمحُ الذي يدعونهُ

      العقلَ المغامرْ .

                    فالظِلالْ

                    ظلّتْ

                    ظِلالْ ،

                    والماءُ

                    ماءً ، والضحى مثلُ الضحى ، والليلُ

      ليلاً . غيرَ أنّي لم أعدْ ما كنتهُ

                            من قبلُ .

                    إنّي

                    والسؤالْ

                    سرنا معاً في الكونِ . أسئلةٌ

      وأخطاءٌ .

                    واسئلةٌ

                    وأخطاءٌ .

                    ومجدافٌ ، وكحليٌّ بعيدٌ ،

                    وارتحالْ . – ص 1285) .

إنّ واجب الشعر هي رحلة الأسئلة والأخطاء التي بدأها الناقد المعلِّم الأول ، ومشكلته هي المجداف رمزاً للرحيل ورحلة البحث ، والكحلي البعيد رمزاً للغامض المستغلق الملغز ، والإرتحال رمزاً لديمومة السؤال واستحالة الإستجابة . أمّا تمجيد العقل فهو شيء عظيم وواجب وأمانة يخلص لها الشاعر . لكن هذا التمجيد إذا تجاوز "الرحلة" سيصبح عملاً علمياً ، وهو ضد روح الشعر . في الشعر يبقى العقل دائماً ناقصاً ، ومحنته هي "الطريق" وليس "الوصول" لأن الوصول استكانة وموت ، وزاده ليست الحقيقة الواقعية فهي عدوّ الشعرية .. بل الحقيقة الممزوجة بالخيال التي تولد الحقيقة الشعرية :

(                 لا

                  غايةٌ في العقلِ

         تطمحُ

                 للكمالْ

                 بل

                 للطريقِ ،

                            وزادهُ فيها

        الحقيقةُ ،

                 والخيالْ .

                 لا ئيءَ إلّا

                 وهو يبدأُ باحتمالْ .

                 لا شيءَ إلّا فيه مسكٌ نائمٌ ،

                 كدمِ الغزالْ . – ص 1287) .

واعطني عالماً أو فيلسوفاً لن يضع منديله على فمه لإخفاء ابتسامته اللعينة ، وهو يسمع قول الشاعر الأخير : (لا شيء إلّا فيهِ مسكٌ نائمٌ ، كدمِ الغزالْ) .

أمّا ما ختم به الشاعر قصيدته هذه :

(لا شيءَ مما قيلَ منذ البدءِ أصدقُ بعدُ مما العقلُ قالْ . – ص 1289) .

فهو أشبه بما تنتجه عملية "الإنضاج الثانوي" في "عمل الحلم – dream work" ، والذي نشبهه بالكيفية التي يرتّب بها الأطفال أثاث غرفة عاثوا فيها فساداً عندما يسمعون وقع أقدام أبيهم على السلّم . فلقد قال العقلُ أن الأرض مستوية لآلاف السنين .. ثم قال أنها كرويّة .. وكانت الناس تعيش .. والسفن تبحر ..

ولأن الشاعر – كما قلتُ – يسلسل نصوصه بتلقائية ، فتأتي مترابطة بالتلميح لا بالتصريح ، بالإشارة والرمز والإيحاء لا بالعمل المخطّط الذي يقرب من الإصطناع والتعمّد ، فإن النصّ التالي يأتي في صورة قسم بالذات الإلهية : "والله" (ص 1290 – 1293) من الناقد الأول الذي يريد أن يدفع عن نفسه تهمة "المغوي" الشهيرة . فتهمة "الإغواء" تكاد تكون هي أخطر وأشهر صفاته بين طابور المؤمنين الذين يؤكّد عقلهم حتى الآن أن "إبليس" مستعد ، وقادرٌ ، في أيّ لحظة على إيقاع المؤمن في مصيدة الغواية التي هي هنا : المرأة الحيّة . في حين أن "عقل" الناقد يردّ ردّاً موضوعياً شديد البساطة عبر التأكيد على أن الله هو الذي خلق المرأة وليس هو ، وأنه قد وضع في المرأة شهوتها التي تدفعها – أو تجرّها – نحو عري الرجل الوحشي . وهذه الشهوة فائضة عن حاجة الإنجاب . وها نحن نشهد "حرب العقول" هذه حتى اليوم ، ولم يُفلح "علم" الغيب في حسمها . وتختتم القصيدة – وهذه واحدة من المرّات النادرة – بصور باهتة تقوم على تشبيهات وارتباطت تقليدية (كأنّها شمس الضحى ، أو زرقة السماءْ ، أو هذه الشهوةُ ما بينَ الرياحِ والشتاءْ) (ص 1293) .

بعد هذا النصّ تأتي مجموعة من "قصار القصائد" الرائعة ، وقد أثارت في ذهني - وهذه من الإشكاليات المحفّزة في الملحمة كلّها - معضلة شكّلتْ همّاً مزمناً لنقاد الشعر الحديث ومنظّريه وتتمثل في علاقة الفكر بالشعر . لنأخذ هاتين المقطوعتين :

(              فتحَ الأحياءُ لمن ماتوا بابَ الماضيْ .

أعطى أهلُ الحاضرِ للموتى ما في

                         حاضرهمْ .

               نظرَ الموتى ، ابتسموا ، وبصمتٍ ،

               رجعوا لمقابرهم . – ص 1311) (نصّ راحة الماضي") .

(              فتحَ الأحياءُ بعصرِ المستقبلِ بابَ

الحاضرِ للموتى . خرجَ الموتى . ودعوا أهلَ المستقبلِ

رغم

      منائرهمْ ،

     لمقابرهمْ . – ص 1312) .  

إنّ هاتين المقطوعتين تقومان على أساس موضوعة واحدة هي التشاؤم من حال الإنسان الذي يعمّه الموت والخراب والدم . ويجسّد الشاعر هذه المأساة في مستويين زمنيين : الحاضر والمستقبل . فحتى الموتى هزئوا مما قدّمه لهم أهل الحاضر الأحياء من صورة عن الحياة البشرية التي تجري بعد موتهم . كان الموتى يعتقدون أن العالم البشري قد اصبح أكثر أمناً وسلاماً ، وأقل ضيماً وفساداً بعد موتهم . لكنهم رأوا خلاف ذلك .. غلٌّ وحروب ومجاعات وعداء . ولا علامة على هذا الخراب المرعب الواسع أكثر من أن الموتى عادوا إلى مقابرهم مفضّلين الموت على الحياة . أمّا المستقبل فهو أكثر إثارة للرعب والتشاؤم والفزع . فالموتى أيضاً يدعون أهل المستقبل إلى أن يدخلوا إلى مقابرهم ليتخلّصوا من عالم الأحياء رغم علامات الإيمان والعدل الظاهرة ، ففي القبور سيجدون أمناً وطمأنينة لا تتوفّر في مستقبل الحياة .

في كلا المقطوعتين "فكرة" تتمثل في التشاؤم من حاضر الإنسان ومستقبله عبّر عنها الشاعر تلقائياً من خلال "صورتين ممتدّتين" أو "مشهدين" أغنتهما الحركة والحوار الصامت .. ثمّ لحظة المفاجأة الأخيرة غير المعقولة التي يفضَل فيها الإنسان الموت على الحياة .

الآن خذ هذه المقطوعة :

(             يقلُّ فينا العمرُ

              ليسَ يكثرُ ،

              فهو كبيراً يولدُ الإنسانُ

     ثمّ

              يصغرُ . – ص 1300) (نصّ "العمر") .

وهذه "فكرة" فلسفية طرحها الفلاسفة كثيراً وهم يبحثون موضوعة موت الإنسان ، فقدّموا هذا الوصف "المجازي" الذي يرى أنّ ألإنسان في الحقيقة يبدأ كبيراً ثم يصغر إلى أن يعود طفلاً فجنيناً تتلقفه يد الفناء وتطمره في الأرض . الفيلسوف أصلاً عبّر عن الفكرة بفكرة وجاء الشاعر لينقل لنا الفكرة شعراً . الفكرة تتحوّل إلى شعر حين ننقلها بتوتّراتها النفسيّة مغموسة في محبرة الشاعر الوجدانية إذا جاز التعبير . وعندما يبقى الفكر فكراً بعد دخوله ساحة القصيدة فإنه يصبح عائقاً للشعرية لا حافزا ومؤججاً لها . طبعاً أنا لا أتفق مع التوجّهات التي تلغي العنصر الفكري في الشعر بصورة مطلقة لصالح الإثارة الشكلية مثلما فعل جماعة "ما وراء المعنى" الروس الذين رفضوا أن يكون هناك أيّ مكان للفكر في الشعر ، أو جماعة "المستقبلية" وقائدهم الإيطالي "مارتيني" . وقد فشلت المحاولتان حيث تخلّى المستقبليون الروس عن محاولتهم ، واتجه مارتيني في النهاية إلى تأليف كتب عن الطبخ . ولكن هذا لا يعني بالمقابل أن يتحوّل الشعر إلى ساحة لعرض الأفكار الفلسفية والعلمية والأسطورية المجرّدة على أهميّتها . يجب أن تمر جميع هذه الأفكار في "مشغل" الشاعر .. في روحه .. حيث تغمس وبعمق في محبرة وجدانه لتخرج بعد ذلك انفعالاً مفكّراً فيه وهذا هو جوهر العملية الشعرية . والشعر ليس منطقياً وليس ضد المنطق في آن واحد فهو لا يتعامل مع الفكر وإنما مع شيءٍ آخر ؛ مع كل مكوّنات الإنسان الشعورية وهي في حالة معينة من التوتر (95).

وسوم: العدد 645